الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / القيود الأخلاقية في مهنة الصحافة

القيود الأخلاقية في مهنة الصحافة


مقدمة : الصحافة العربية لأكثر من 150 سنة
عرف العرب الصحافة منذ أن عرفها العالم بأشكالها القديمة منذ تضاعيف القرن التاسع عشر، خصوصًا في مصر وبلاد الشام والعراق.. وأنجبت الحياة العربية نخبة رائعة من رجال الصحافة وأمهاتها، وبرزت للوجود عدة صحف ومجلات لم تزل تنشر نفسها على الناس منذ عشرات السنين بلا انقطاع، إن صحافتنا العربية بقدر ما شهدت سموًا وعلوًا وقامات وأمجادًا، فإنها عاشت أيضاً انكسارات وتشتتًا وتدنيًا وأقزامًا.. وبقدر ما عاشت هذه «الحرفة» الحديثة في العالم الحديث على جملة تقاليد وأعراف وأخلاقيات غاية في العظمة، فإنها غرقت في بعض الأحيان بانحيازات وأدران وأوساخ أضرّت بها وبسمعة أصحابها وبأدوارهم التي لعبوها ليس من الناحية الإعلامية حسب، بل من النواحي السياسية والاجتماعية والتاريخية. منذ أكثر من مائة وخمسين سنة، والصحافة تتطور، مهنة وأصولاً وأخلاقيات، وأن كلّ من يمتهنها، يدرك أن مسئولياته مضاعفة بحكم نشر الكلمة، وحق الرأي، وبثّ الخبر، فاعتبرت سلطة رابعة، بسبب تأثيرها في العلاقة العضوية بين مؤسسات الدولة وشرائح المجتمع.. وبالرغم من تطور أجهزة الإعلام المسموع والمرئي، إلا أن الصحافة تبقى الأساس الذي يعتمد عليه كمدونة أخلاقية لا مناص من دورها في ظل كل أنواع الأنظمة السياسية، وأصدرت الدول تعليمات نشر، وقوانين صحافة، ومحددات رقابة.. ناهيكم عن هيئات تحرير تضطلع بأسرار المهنة، وصاحبها تطور معرفي وأكاديمي بتأسيس كليات وأقسام علمية خاصة بالإعلام والصحافة والنشر.. وباتت كل الصحف وأجهزة الإعلام والنشر في العالم، تجدد نفسها من خلال محررّين مختصين، وحرفيين ومستشارين وكتاب معروفين، ومراسلين يتمتعون بالمصداقية والأمانة والموضوعية.. اكتسبوا على مدى سنوات طوال أسرار هذه المهنة الخطيرة التي تقع على عاتقها مسئولية توجيه الأمة، وقيادة دفة البلاد، ومتابعة شئون العباد، ومراقبة الأخبار المتنوعة.. ناهيكم عن الحفاظ على شرف الكلمة، وحرية الرأي، وكرامة الناس، ومهام نشر الإبداع والبحث عن حقائق الأمور والأشياء.. وبذلك فإن الدور الحضاري الذي تلعبه الصحافة هو أكبر من أي دور سياسي عادى أو ثقافي عام.

انعدام ضوابط الصحافة الالكترونية العربية
وإذا كانت الصحافة في كل دول منطقتنا قد تنوعت كما هو حال أجهزة الإعلام الأخرى من رسمية إلى شبه رسمية إلى أهلية أو مختلطة، وكانت هناك صحافة سلطة، وصحافة معارضة، وصحافة تسوية، وصحافة ثقافة وأدب، وصحافة صورة، وصحافة هزل.. إلخ، وكلها منحصرة في مكان محدد وفضاء محدد وضوابط محددة.. ولكن ما جرى منذ عشر سنوات بظهور الصحافة الإلكترونية قد جعل الأمر سلاحًا ذا حدين اثنين باتساع مديات الإعلام أولاً، وتبلور فوضى لا أخلاقية ثانيًا.. وبالرغم من قلة أولئك الذين يتابعون الصحافة المرئية أو الإلكترونية مقارنة بحجم من بقى يتابع الصحافة العادية، إلا أن أخلاقيات المهنة تبدو قد تبددت، وأن أصول الصحافة الحقيقية قد ضاعت في عالمنا العربي بشكل خاص.. إذ إن هناك قوانين متجددة قد شملت مثل هذه التطورات في بلدان عدة في العالم، ومنها إسرائيل! إنه من الصعوبة جدًا أن تكون الصحافة المرئية أو الإلكترونية مضللة في بلدان غربي ووسط أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان، إذ إن هناك قوانين تمنع التضليل أو الخروقات، وأن المحاكم تستقبل عشرات القضايا الإعلامية التي تختصر مشاكلها بالخروج على أخلاقيات المهنة وأصول العمل. إن اغلب من يكتب ويحرر وينشر اليوم في المواقع الالكترونية لم يقرأ شيئا عن تعليمات وأصول النشر الورقي ولا الالكتروني ، فتراهم يوقعون أنفسهم في مشكلات وقضايا وأزمات لا يحسدون عليها .. بل ويصّرون ويمعنون في أخطائهم وتجنياتهم ، بسبب علمهم أن لا روادع تحول بين ما ينشرونه وبين المجتمع .. وكثيرا ما اعترض اعتراضا شديدا على مواقع تعمل بلا حرفية ولا تمتثل لأي أخلاقيات مهنية ، خصوصا عندما تقوم بسرقة مقالات عن مواقع أو صحف أخرى لتقوم بنشرها وتقوم بحذف مصدر النشر ، وهناك حالة لا أخلاقية أخرى ، عندما يقوم أي موقع من المواقع بنشر ردود على مقال كتبه احدهم من دون نشر المقال نفسه ، وهذا أقصى درجات الديماغوجية والإسفاف ، إذ لا يمكن نشر الرد إلا في المكان الذي نشر فيه المقال نفسه ! وصدق احد رؤساء الوزراء العراقيين عندما قال قبل أشهر : ” إن بعض المواقع الالكترونية .. هي مجموعة من المزابل ” !

قواعد متجددة لحرفة الصحافة الالكترونية
دعوني أتوقف قليلاً عند ما أقره مؤخرًا المجلس الدولي للصحافة والإعلام من قواعد للنشر.. ونجد أن صحافتنا المرئية والإلكترونية بعيدة جدًا عن تلك القواعد، إذ اشتملت الصحافة على كل وسائل الإعلام الإلكترونية والصحف والمواقع الصادرة في شبكة الإنترنت الدولية وعلى كل مسئول وناشر ومحرر لتلك الوسائل، وأن الحريات الصحفية مقيدة بحقوق الناس في المعرفة، وبأساليب نزيهة ودقيقة لكل من الرأي والخبر، وأن تكون ملتزمة بكل العهود، ومستقيمة ضد التضليل أو الإباحة أو الشتيمة.. وأن تقوم بنشر الرأي والرأي الآخر، وأن من حق الآخر أن ينقد الرأي أو الخبر المنشور ولكن ليس من حق الصحيفة أو الموقع نشر أي نقد لمقال رأى أو أي خبر قد نشرا في مكان آخر، ولم تقم بنشرهما أصلاً.. هنا أريد التوقف قليلاً، إذ نجد في صحافتنا العربية والإلكترونية قيام بعض المواقع بنشر ردود على مقالات لم تنشر أصلاً فيها، وهذا عمل لا أخلاقي، إذ لا يمكن أن ينشر أي رد إلا في الصحيفة أو الموقع الذي نشر الأصل، وهنا أود التوجه بهذا إلى كل الناشرين العرب ومحرري المواقع الإلكترونية عسى يتوقفوا عن ما يحدثونه من فوضى.
ونتابع ما يفرض اليوم من تعليمات وحياتنا الإعلامية العربية، بعيدة عنها كل البعد ويا للأسف الشديد، فلا يجوز للصحافة الامتناع عن نشر معلومات تخص المصلحة العامة، كما وتحرّم الضغوطات وتمنع السرقات للرأي والمعلومات.. إن من مصلحة أي صحيفة أو جهاز إعلامي معرفة مصدر أي قول تنشره، فهي المسئولة قضائيًا أمام المحاكم عن ذلك.. وتعتبر الاقتباسات الحرفية دقيقة مع ذكر صاحبها، بمثابة وثيقة مكتوبة! وتنشر الرسائل بالأسماء الصريحة لا المخفية خوفًا من المساءلة وتقصى الحقائق، والحذر من نشر أي خبر غير موثوق.. والابتعاد عن التضليل والتراجع عن الأخطاء تحريريا والاعتذار والرد بالبنط العريض.. ولا يجوز النشر دون موافقة صاحب المادة، ويحرم التعرض للخصوصيات والسمعة والتشهير، ولا يجوز للصحفي أو المحرر تقاضى أي رشوة أو هدايا أو أي صفقة مالية على حساب مهنته.. هنا أتساءل: كم تطبق مثل هذه القواعد في صحافتنا غير الرسمية؟ الاستقلالية مطلوبة وعدم تلقى أية توجيهات خارجية وعدم استخدام أية وسائل فاسدة والتكتم على الأسرار.
ثمة تفاصيل واسعة عن نشر الصور الشخصية عن موتى ومصابين ومتهمين تحت باب الهوية أو ما يتعلق بالجنس والانتحار والتبرع بالأعضاء وإجراءات القضاء والجنايات ونقل الشعارات المخلة بالشرف والكرامة الإنسانية وتبادل التهم وإلصاقها، أو ما يدور فى الجلسات المغلقة وصالات المحاكم أو نشر ما يتعلق بالتمييز العنصري، يقول البند 14 من نظام المجلس الدولي للناشرين والمعتمد دوليًا: «لا يجوز للصحيفة أو للصحفي أن ينشرا أي شيء يحتوى على التحريض أو التشجيع على العنصرية أو التمييز العنصري أو التمييز الذي يتم على أساس أصل العائلة أو اللون أو الطائفة الجنسية أو الدين أو المذهب أو الجنس أو العمل أو المرض أو العجز أو المرض النفساني أو الإيمان أو وجهة النظر السياسية أو الانتماء إلى طبقة اجتماعية- اقتصادية معينة» .

الأخلاقيات الصحافية
قارنوا بين هذا وبين ما ينشر في صحافتنا العربية والإلكترونية بشكل خاص ويا للأسف الشديد.. فهل من تشريعات جديدة تحدّ من الإسفاف والفوضى؟ إنني هنا في هذا «المقال» أناشد كل المسئولين العرب الالتفات إلى ما يحدث في الصحافة الإلكترونية والمرئية بشكل خاص، ذلك أن أغلب ما ينشر في مواقع مؤسساتية أو أهلية أو خاصة أو شخصية.. فهو يضرب عرض الحائط ليس كل التعليمات المنصوص عليها في العالم في ظل غياب أية تعليمات وقوانين عربية، بل إنه يضرب كل القيم والأخلاقيات والأعراف والتقاليد التي عرفتها مهنة الصحافة العربية منذ نشأتها حتى اليوم.. بأي حق تنشر مقالات وتقارير تعب عليها أصحابها، ونشرتها مؤسسات صحفية معينة، كي يأتي الآخرون لينشروها كيفما أرادوا من دون أي إذن مسبق من أصحابها أو من محرريها الأصليين؟ بأي حق تقوم عدة مواقع معروفة أو غير معروفة بفتح الأبواب على مصراعيها أمام كل من هبّ ودبّ لينشر كل ما يريد بأسماء وهمية أو مستعارة، لا يعرف من هم أصحابها الحقيقيون.. ولا يمكن أن يطالهم القانون كونهم مجهولين، ينشرون أوساخهم ثم يختفون باسم الحريات والديمقراطية والإعلام الحر، إن ما يجرى اليوم في ظل هذه الفوضى العارمة التي خلقها الإنترنت، أو الإعلام المرئي الذي أنزل الصحافة العربية من عليائها، وجعلها متدنية، وخرق الحرفية والمهنية العالية في الصميم، بحيث لم تعد أخلاقيات الصحافة من الأمور التي يفتخر بها كبار الصحفيين العرب.. إنه بالرغم من بقاء الصحافة الورقية لها دورها وقيمها وأعرافها وحرفيتها في عالمنا وثقافتنا، إلا أن مؤسساتنا الصحفية تقوم هي الأخرى بعرض بضاعتها، هي الأخرى، على النت إلكترونيًا، من أجل أن يكون لها دورها المعاصر أسوة ببقية المؤسسات الأخرى.. ولكن بضاعتها منذ تنزلها إلى مثل هذه السوق، فهي تبخس حقها على الرغم من أهمية ما تصنعه لتوصل كلمتها إلى كل الوجود.

هل من إجراءات صارمة ؟
إن ما يحدث اليوم يختلف عما كان في الأمس والأمس القريب.. وسيختلف بالضرورة عما سيكون في المستقبل.. وعليه، فإن من الأهمية بمكان التنبيه إلى ما يتخذه العالم في تجاربه المماثلة من خطوات.. لكي نتبنى اجراءات رادعة وصارمة بوجه كل الذين يتعمدون الاساءة والتشهير والمس بالسير الشخصية والتعّرض للذات والقدح والشتائم وتصويب الاساءات ونشر ردود الافعال العاطفية .. الخ وأن علينا مهمة دراسة تلك «الخطوات» ضمن باب الحريات المسئولة والكلمة الملتزمة، ووضوح الرؤية، والتصريح بالاسم، والتعهد بالمسئولية، والخضوع للقانون.. فلا يمكن أن تستمر الفوضى إلى ما لا نهاية تحت أغطية وشعارات بليدة.. نحن مسئولون مسئولية تاريخية عن الأمانة التي أودعها لنا بأيدينا الرواد من العمالقة الأوائل.. وعلينا أن نحملها بأمانة وأخلاق إلى الأجيال القادمة.. إن الصحافة العربية لابد أن تبقى حرة ونظيفة وصريحة وشجاعة.. تمارس حرفيتها العالية بكل تجرّد بعيدًا عن أن تغدو حاويات قمامة أزبال، أو مخادع دعارة سرية، أو أسواق نخاسة للتهتك، أو مسالخ لشتم الناس، أو مناطق آمنة للصوص الفكر والكلمة.. إن الصحافة العربية ينبغي أن تتطور ميادينها نحو الأفضل، لا أن تنتكس نحو الأدنى.. فهل سيسمع المسئولون كلمتي المتواضعة هذه؟ هل سيتفق معها البعض وسيختلف آخرون؟ إن من الأهمية أن أعلن ما أومن به على الناس.. وسيقول التاريخ كلمته فى نهاية المطاف.

نشرت في مجلة روز اليوسف ، العدد 4294 – السبت الموافق – 25 سبتمبر 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …