الرئيسية / افكار / مئة عام مضى : تاريخ بائس ومخجل ! الحلقتان -1- و -2-

مئة عام مضى : تاريخ بائس ومخجل ! الحلقتان -1- و -2-



الحلقة الأولى: اليقظة المؤجلة


النوم الآن.. واليقظة بعد مئة عام يا حبيبتي
كلا عصري لا يخيفني ولست جبانا
عصري بائس مخجل .. عصري شجاع عظيم وبطل
أنا لم اندم لكوني أتيت هذا العالم مبكرا
إنني من القرن العشرين
الشاعر التركي ناظم حكمت في قصيدته ( القرن العشرون)

مقدمة : لماذا مئة سنة ؟
نشرت قبل أيام مقالا عنوانه ” هل تعلمنا شيئا من مئة سنة مضت ؟ ” *، البيان ، 20 /1/2010 . ولما لم اقل كل ما عندي فيه ، آثرت أن الحق به هذا المقال لأنشره في إيلاف .. خصوصا وان القارئ الكريم يطمح للمزيد من تفكيك مضامين القرن العشرين ، ويحاول البحث له عن أجوبة حقيقية في كل ما حاق بمجتمعاتنا من ظواهر تتباين فيها مظاهر القوة والضعف . ويبقى البحث عن جواب لسؤال يقول : لماذا تفاقمت التناقضات على امتداد مئة عام مضت ، وهي لم تزل تتوالد في خضم أصعب مشكلة تواجهها مجتمعاتنا في الشرق الأوسط ، وهي مشكلة نحن وهذا العصر ! نعم ، لقد خرجنا اليوم بالفعل من انقضاء مئة سنة ، اذا اعتبرنا 1909 بداية تاريخ اجتماعي وسياسي نهضوي جديد .. ولقد انتهت مع العام 2009 مئة سنة بالضبط . فماذا كانت حصيلتها ؟ مئة سنة مرّت علينا ، وما زلنا لم ندرك حتى يومنا هذا قيمة الزمن الذي تآكل في حياة هذا العصر الذي تغيرّت فيه كل الأشياء والمعاني ، إلا حياتنا التي يكفي وصفها بالبؤس .. وحياة كل من يفكر تفكيرا واقعيا فيها بشقاء الوعي .. ربما يعترف من يمتلك شجاعة كافية بأنه تاريخ مخجل ليس لنا نحن ، ولا لغيرنا .. بل لأحفادنا في المستقبل ! إن مئة سنة مرت على تكويناتنا التي أسميناها بـ ” المعاصرة ” ، وهي من ابعد ما تكون عن المعاصرة ، ذلك إن إحدى رجليها في الحاضر والاخرى لم تزل في الماضي .

من يجيب على هذه الأسئلة ؟
ما قوة انجازاتنا ؟ ما درجة مكانة دولنا وشعوبنا في العالم كله ؟ لماذا كانت السلبيات تأكل معظم الايجابيات ؟ وإذا كانت هناك ايجابيات ومنجزات كبرى ، فهل تستقيم وموقعنا في الجغرافية العالمية أولا والتاريخ البشري ثانيا ؟ هل تستقيم حياتنا اليوم ومكانتنا الحضارية بين الأمم ؟ إذا كان هناك من يصّر على عظمة تلك المنجزات التي قدمناها في القرن العشرين .. فهل كانت سياسية أم حضارية ؟ هل استطاع الإنسان أن يضمن حياته وكرامته وحقوقه وحرياته وأمنه وعيش أولاده ؟ هل كانت حقوق الإنسان مطابقة لواجباته أم العكس ؟ ما الذي أخفقنا في الوصول إليه ؟ ما حجم الانتصارات التي حققناها مقارنة بالنكسات والهزائم التي مررنا بها ؟ وإذا كان البعض يشير دوما بأصبع الاتهام لكل الحكومات ( الفاسدة ) والخونة والعملاء .. فهل كانت الدولة والأنظمة السياسية هي المسؤولة الوحيدة عن الفشل ، أم تشاركها مجتمعاتنا في أسباب الفشل ، وعدم تكيّف تلك المجتمعات لمقتضيات العصر والأنظمة والقوانين ؟ ولماذا تفاقمت التناقضات بشكل لا يصدق في كل حياتنا ؟ والمهم : كم ستبقى مجتمعاتنا متعلقة بمنتجات قرن مضى وبقاياه ؟ ولكن الأهم : هل ستحصل تغيّرات جوهرية للحراك الحضاري أكثر إزاء المعاصرة ؟ وما الذي يمكن عمله ؟ ما المفاتيح التي يمكنها أن تطلق الأبواب على مصاريعها نحو المستقبل ؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه بإيجاز ، وربما بمشاركة متواضعة تفتح من خلالها أبواب الآخرين ليقولوا كلمتهم إن كانوا يمتلكون خزينا من المعلومات .. كيف ؟

الرؤية والتفكير
ينبغي التوضيح أن على من يدلي بدلوه في هذا ” الموضوع ” أن يكون على اطلاع واسع على تموج ما حدث في القرن العشرين بكل عقوده الزمنية ، أو أجياله النخبوية ، أو ظواهره الفكرية ، أو أحداثه السياسية .. وعليه أن يقرنها بما كان عليه الحال في القرن التاسع عشر .. وما الذي يمكن أن يراه على امتداد قرن آت ، وان القرن الجديد قد بدأ ، ولكنه يحمل أثقالا ينوء بحملها ، تلك التي ورثها عن قرن مضى !
أولا : أن من يفكّر في هذا ” الموضوع ” ، أو حتى يعيد التفكير فيه من زمن إلى آخر .. عليه أن يكون مجردا من عواطفه ونزوعاته وإيديولوجياته وأفكاره التي حملها معه من بقايا قرن مضى .. كي يكون حياديا في ما يفكر فيه أو يقول به .
ثانيا : التخّلص من التفكير المطلق تتجسد في حالتين كانتا وما تزالان تشكلا ، أسّ تأخر مجتمعاتنا وتكويناتنا ، أولاهما : عدم الهروب من المواجهة بجعل الغرب والاستعمار يتحمل مسؤولية تخلفنا وضياعنا . وثانيهما : عدم الانعزال والاحتباس ، وشحن المخيلة بجعل أنفسنا سادة العالم والكفّ عن الشعور الفارغ بعظمة بضاعتنا وقوة أمجادنا وازدهار تاريخنا.
إن هذين العاملين متى ما أبطل الوعي مفعولهما ، فان ثمة إرادة حضارية ستتشكّل من اجل ترسيخ علاقاتنا بهذا العصر .. وإلا نكون كمن يؤدي دوره في سيرك يقوده بشر من نوع ما .

تحليل الاتجاهات من زمن بائس الى زمن مخجل
1/ النخب والمجاميع
عندما دخلت مجتمعاتنا وعالمنا العام 1909 بدأت العلاقات تتقطع بينها وبين مواريث القرن التاسع عشر ، بحكم سقوط البنى الفكرية القديمة وسقوط الإمبراطوريات القديمة وسقوط المنظومات الاجتماعية المتوارثة .. كانت مجتمعاتنا تحت الصفر تماما ، بضعف قدراتها ، وتناقص نفوسها ، وانعدام التعليم فيها .. وبعثرة مواردها .. كانت عرضة للتدخلات .. بدأ تاريخ جديد من التنوير وبدء الوعي بالعالم ، وبدء الشعور القومي والتفكير بالإنسان .. وانتشرت أفكار الرئيس الأمريكي ولسن حول حرية الشعوب وحق تقرير المصير ، ولقد ازداد ذلك مع تقدم الزمن ، ولكن ـ كالعادة ـ كان السياسي والعسكري دوما يطغى على الاجتماعي والحضاري . وبطبيعة الحال ، بقيت مجتمعاتنا تحت سيطرة قوى خارجية احتلالية أو انتدابية ، أو تكوينات دول جديدة ولدت من فراغ أو من مواريث قديمة . ولما كانت مجتمعاتنا أسيرة بقايا راسخة من التقاليد والمواريث ، فلقد انقسمت على نفسها بين نخب خاصة ومجاميع عامة ، أو ما عبّر عنه منذ أكثر من ألف سنة بين خاصة وعامة .
2/ منجزات مئة سنة مضت
لا يمكننا أبدا تغييب ما قدمته مجتمعاتنا كلها للحياة المعاصرة التي عاشت خلالها دون غيرها أبدا . لقد ناضلت قوى عديدة من اجل استقلالياتها الوطنية في أكثر من بيئة ومكان .. وثمة أمثلة دامغة على ما حدث من ثورات وانتفاضات حقيقية ضد الاستعمار سواء كان بريطانيا أم فرنسيا أم ايطاليا .. الخ فضلا عما حدث قبل ذلك من إعدامات بحق شباب مثقف لم يطالب إلا بحقوقه السياسية والتربوية والإدارية قبل حقوقه القومية .. لا يمكن نسيان فضل نخب مثقفة وبراغماتية في مجتمعاتنا ساهمت في تطوير مؤسساتنا القديمة أو استحداث مؤسسات جديدة .. لا ننسى دور رجال أعمال في أكثر من بلد .. ساهموا في البناء والأعمار والتصنيع والمال .. لا ننسى دور المؤسسين للقوانين المدنية بمختلف مضامينها وحقولها .. ولا ننسى ادوار المعلمين القدامى والأساتذة الجامعيين الأكفاء الذين تربت على أيديهم أجيال من المبدعين . لا ننسى أيضا فضل من أرسى أسس التربية والتعليم المدني .. لا ننسى دور المثقفين في غرس الوعي السياسي لدى الناس .. لا ننسى دور المبدعين من أدباء وفنانين وإعلاميين ومهندسين ومعماريين وأطباء وجراحين ومحامين .. ولقد أنجبت مجتمعاتنا عمالقة ورموزا في القرن العشرين ، سواء كان ذلك في الأدب أم الشعر أم المسرح أم السينما أم الرواية والقصة أم الغناء أم الفنون التشكيلية .. لا ننسى دور أولئك الرجال الرسميين الذين ارسوا تقاليد مؤسسية في الدوائر الرسمية وعرفت مجتمعاتنا البيروقراطية الجديدة .. لا ننسى أبدا دور أولئك القادة الذين عرفّوا بمختلف القضايا في العالم ، وأسهموا إسهاما حقيقيا في تأسيس عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة عدم الانحياز ، ومجلس التعاون الخليجي .. الخ
3/ فشل النخب وطغمة العسكر
كثيرا ما كنت ولم أزل أقول بأن النصف الأول من القرن العشرين أفضل بكثير في كل مظاهره من نصفه الثاني . صحيح أن الأول كان للاستقلالات الوطنية والثاني لحركات التحرر الثورية .. ولكن مجيء مجرد ضباط عسكريين شباب لحكم بلدان صعبة ، وفجأة يتحولون من ثكناتهم وساحات عرضاتهم إلى تسنّم مقاليد البلاد وإلغاء المؤسسات مهما كانت عليه من فساد .. يعد خطيئة لن يغفرها التاريخ بطوله . ولم تكن هناك أي أسباب جوهرية تحمل على التغيير والعنف الثوري والرقص مع أنغام الحرب الباردة . لقد فجعت مجتمعاتنا على مدى عقود طوال من السنين بطغمات عسكرية حاكمة تحولت الحياة السياسية في ما بعد ، إما إلى فوضى ، وأما إلى ترسخ دكتاتوريات بشعة . صحيح أن جيوشا قد تأسست ، ولكن ما حجم انتصاراتها إزاء اندحاراتها ؟ ما دور الانقلابات العسكرية في سحق المؤسسات المدنية ؟ إن مجرد رؤية تاريخية مقارنة لصور القرن العشرين ، تؤكد لنا أن النخب المثقفة انحسر دورها على أيدي العسكر .. وعّّّّّّّّد عقد الخمسينيات من المع ما شهدته الأجيال لكثرة ما حصل خلاله من تطورات إبداعية .. ولكن حياتنا انتكست انتكاسات مريرة على أيدي العسكريين الذين حكموا مجتمعات عريقة .. ومورست ضدها اضطهادات وعنف وحروب وتجارب غير متكافئة ولا واقعية في الاقتصاد والمال والتربية والتعليم والإعلام .. مع ازدياد الفساد في المجتمعات الخ



الحلقة الثانية: النهايات: احتباس التفكير



” إنني أدرك أنني هنا في الزمن المشؤوم ،
سواء شئت أم لم أشأ . ان هذه القصة تخصنّا جميعا ”
البير كامو في الطاعون

4/ التحديات المركبة
ولم تستطع النخب الخاصة هذه من إجراء التحولات ، كما يجب ، بسبب إخفاقاتها هي نفسها أولا معبرا عن ذلك بتوفيقياتها وتلفيقاتها بين واقع مأساوي وبين مستوردات الغرب ، وبسبب ما صادفته من ردود فعل صارخة ثانيا ، معبرا عنها بانقلابات وثورات وتمردات ، وبسبب الارتدادات نحو الماضي بشكل مخيف ثالثا ، معبرا عن ذك بإحياء كل ما لا يستقيم وحياة هذا العصر .. هذه اللحظات التاريخية الثلاث مركبة بكل مفارقاتها حسب أزمانها لما بين الحربين العظميين أولا ، ولما بعد تأسيس إسرائيل ثانيا ، ولما بعد تأسيس أول جمهورية إسلامية ثالثا . وأنني أقول بأن ليس هناك من آمال عريضة ببقاء أي موديل من الموديلات القديمة . ولكن ؟ ما تداعيات ما أنتجه القرن العشرون على أجيالنا القادمة ؟ هذه هو السؤال الحقيقي الذي ينبغي التفكير فيه قبل أن نفكّر بعيدا بآليات وأفكار وعقائد لا تتسق والواقع المتخلف أولا ، ولا أن نبقى نهرج مع المهرجين عن أمجاد الماضي ، وبطولات رجالات الماضي ، ونعزف طويلا على بقايا تراث الماضي ثانيا ، ولا أن نصفق لهذا الأتون الجديد الذي وجدنا أنفسنا فيه ، والعالم كله يرفضنا .. ونحن قد اخترنا العزلة دون أن نحاور العالم .. بل وأوجدنا مشروعا لغزو العالم أو قتل العالم أو كراهية العالم .
5/ التشوّهات
كل هذا قد حدث ولم يزل يحدث في واقعنا الذي يزداد بتشوهاته القاتلة ومجتمعاتنا تعاني كلها الأمرين مما جرى ويجري .. ولكنها ، لم تقتنع بعد أن العلاج بأيديها ، وان ما حدث ويحدث هو بتأثير ما أنتجه القرن العشرون سواء قبل رحيله أم من بعد الرحيل . لم تقتنع مجتمعاتنا حتى اليوم ، بأن الخطايا الجسيمة التي ارتكبت هي عوامل مولّدة لكل ما ينتج اليوم من رزايا وجنايات ! لم تنجح حتى النخب المثقفة كلها بالتمفصل بين الماضي وحياة العصر ! قل من تجده يتكلم بالقطيعة من اجل فهم الماضي لا البقاء في محرابه منعزلا عن الحياة من اجله ! أما انعكاسات ما ترّبت عليه الأجيال في المدارس والإعلام ، ولمّا تزل تعلن عن أمجاد وبطولات .. بحيث لا أجد أي بشر يقبل بالنقد ، أو حتى يمارسه لا لغيره ، بل لذاته ! أما الشعارات ، فهي لم تزل حية تزرق ومجتمعاتنا كلها تدرك أن خمسين سنة مضت على شعارات لم تزل رائجة ليس في الشوارع والإعلام الرسمي ، بل مترسّخة في الذاكرة الجمعية !
6/ العزلة والاحتباس
لقد اختارت مجتمعاتنا طريق العزلة والاحتباس .. عزلة عن الحياة العامة .. عزلة عن المجتمع نفسه قبل العزلة عن الآخر .. عزلة عن المعرفّ به .. عزلة في اللباس .. عزلة عن إظهار الوجه الحقيقي .. عزلة اختاروها باسم الدين ، فبدأ يهرب بانعزاليته إلى حضنه القديم ، فهذا اختار طائفته ، والآخر قبيلته ، والآخر جهويته أو حارته وصولا حتى عائلته .. الخ هنا ، نقطة نظام تقول ، هل مثل هذه الارتدادات اجتماعية أولا أم سياسية أولا ؟ أقول : لقد دخلت من باب السياسة ولم تخرج من المجتمع إلا بعد تمزيقه ! أما المرأة ، فلقد تراجع دورها كثيرا عمّا كان عليه سابقا .. كان للمرأة تأثيرها القوى في عدة مجتمعات تمضي للحصول على حقوقها الشرعية والمدنية بازدياد فرص التقدم لديها ، ولكنها غدت معزولة ويتراجع دورها بازدياد فرص تأخرها في اغلب مجتمعاتنا .
7/ تصدير التخلف
المشكلة أن هذه المجتمعات التي يهرب منها كل الناس المختلفين ، لم تقتصر على أن تبقى مشاكلها الداخلية معها ، بل بدأت تصدّر تلك ” المشاكل ” بأثواب جديدة إلى بقية أنحاء العالم ، وخصوصا إلى غربي أوروبا وأميركا الشمالية ! ولقد زادت من سطوتها ، ليس بسبب قوتها وارتجاج تلك القوة ، بل بسبب استخدام آخر تكنولوجيات العصر في عزلاتها ، وهي تدرك جملة من التناقضات التي أخذت تحف بالحياة في مجتمعاتنا .. تجدهم أصحاب أيديولوجيات متراجعة عن هذا العصر إذ كانت رائجة قبل خمسين سنة .. تجدهم ما زالوا ملتزمين بتلك الأيديولوجيات علما بأنها عقائد سياسية بدائية كما تبدو لنا اليوم ..
8/ شيزوفرينيا المثقفين
لا استطيع تفسير أية سايكلوجيات تقبل بعض الذين يسمون أنفسهم بـ ” مثقفين طليعيين أو ساسة تقدميين ” وهم يتلبسون مواريث غير معقولة تركها الماضي لنا ، ولكنهم يستعرضون عضلاتهم باسم الديالكتيك وصراع الطبقات أو الإيديولوجية العربية المعاصرة ؟ ولا ادري هل أدركوا قيمة الجدل والحوار ليس مع الآخر ، بل مع أنفسهم ؟ هل حاوروا عقولهم ؟ هل افترضوا أسئلة وبحثوا عن إجابات لها ؟ هل يعقل أن يبقى الإنسان في هذا العصر يرّوج لشعارات لم تتحقق ، ولم يسأل نفسه أبدا : لماذا لم تتحقق ؟ هل كان الواقع غير صالح لها أم أن الاستعمار وأذناب الاستعمار هم السبب ؟ وكما جرى قبل خمسين سنة يجري اليوم ، ولكن بدل شعارات قومية ويسارية غدت الشعارات دينية وطائفية ! وبقدر ما يؤمن من يرّوج لها أنها ستكون أداة للسيطرة على العالم ، بقدر ما يقول واقعنا المعاصر بأن لا مجال لها في الحياة .
9/ انعدام الرؤية الجديدة
في القرن الثامن عشر الذي يسمونه بعصر الأنوار ، أطلق ديدرو على لسان دالاميير في ( حلم دالاميير 1769 ) إنها ” رؤية جديدة إلى الأشياء ” . فما بال مجتمعاتنا إن بقيت تحلم من دون أن تتحقق أحلامها ؟ وان تتنبأ من دون أن تجد نبوءاتها حقائق على الأرض ؟ هل من العقل أن تفتقد العقلانية تماما من مجتمعاتنا واغلب أنظمتنا السياسية ؟ وهل من العقل أن تمارس الشعوذات وتبادل الخرافات وكل المعطلات بأدوات آخر ما توصل إليه العصر من وسائل وأجهزة اتصالات والكترونيات ؟ هل يعقل أن تخلط الأمور خلطة عمياء .. بحيث يروج منذ خمسين سنة في بلداننا بـ ” جاهلية القرن العشرين ” وبث روح الكراهية إزاء العصر أو الزمن الجديد .. وتذهب الآلاف المؤلفة من المثقفين يقرأون ما راج عن ” سقوط الحضارة الغربية ” ! وان السقوط قريب للغاية ، بحيث سنستلم نحن مقاليد العالم ! كل هذا وذاك ، اضرّ بتفكير الجيل الأخير في القرن العشرين ، وجعله يرى نفسه اكبر من الآخرين .. فإذا كان قد ورث مفهوم ” العنف الثوري ” الذي روجته أحزاب بدائية التفكير ، وهي تسمّي نفسها بـ ” تقدمية ” .. فكيف سيكون مصير جيل اليوم ؟ وإذا كانت الخطابات السياسية رائجة قبل خمسين سنة وبكل استعراضاتها وصداها والتهريج لها عبر أجهزة الراديو .. فان المواعظ الدينية هي المسيطرة اليوم على الإعلام التلفزيوني الذي يدخل كل البيوت ، ويعتمد عليه كل الناس . وعليه ، فكيف سيكون وعي الناس بعد كل هذه الأعاصير التي لم يزل يدافع عنها أصحاب المصالح والمتوهمون والمغيبون وكل المجانين ؟
10/ نحن والعصر بين تفكيرين
يجمع علماء المستقبل في العالم بـ ” أن ما حققته البشرية في العقد الأخير من القرن العشرين ، لم تستطع الإنسانية تحقيقه في عشرات القرون ” . إن من مصائب مجتمعاتنا إصابتها بعظمة الذات ، بحيث لم تزل تجد نفسها أعظم ما خلقه الله وأفضل من كل البشرية . وعليه ، فهي تستهين بكل ما هو قد تحقق على أيدي الآخرين وبفكرهم وتنظيمهم وعلومهم .. بل والانكي من ذلك ، فهي تستخدم كل منجزات هذا العصر من دون الاعتراف به ! ومن قوة تناقضاتها أنها تستخدم كل المنجزات المادية ، ولكنها بعيدة كل البعد عن فلسفات هذا العصر وكينونته وأفكاره وتجاربه .. إنها تمقت روح هذا العصر وفلسفاته وطرقه ومناهجه ونظمه وقوانينه.. ولكنها تستخدم مواصلاته وإعلامياته وأدويته ومخترعاته سياراته وطياراته ومطابعه وأسواقه ومستشفياته وأغذيته ومصنوعاته كلها !

وأخيرا : نحن الى اين ؟
هذا سؤال لا يستطيع أي إنسان في كل مجتمعاتنا أن يجيب عليه إجابة حقيقية أو تأملية أو متوقعة .. ذلك أن حياتنا مليئة اليوم بالمشكلات الصعبة التي خلقتها تحديات داخلية وخارجية .. فضلا عن فقدان المعادلة في كل المجتمعات واختلال حياتها لأسباب سياسية معقدة ورثناها عن القرن العشرين .. إضافة إلى موجات الغلو والقسوة جعلت الناس تهاجر على امتداد القرن العشرين ، مما خلق فراغات اجتماعية ! لم تتغير العقليات نحو الأحسن إلا قليلا . صحيح أن الأمية سيقضى عليها ، ولكن الجهل سيبقى سيد الموقف . إذا كانت عمليات الإصلاح قد حكي عنها كثيرا ، بل واستجاب البعض من القادة والزعماء قبل سنتين أو ثلاث ، ولكنهم لم يفوا بعهودهم . وبقيت مسألة الإصلاح حبرا على ورق . إن أهم خطوة يمكن أن تحقق لمجتمعاتنا مردودا حقيقيا يتمثل بإلغاء كل المناهج القديمة ، وإبدالها بمناهج جديدة ، كي تكون ثورة حقيقية لثلاثة أجيال قادمة . إن حاجة الأجيال القادمة إلى مناهج جديدة لا علاقة لها يما تم العمل به في القرن العشرين ، بات ضرورة جوهرية .. فضلا عن التغيير الذي يستوجب أن يطال الإعلام والميديا كاملة . فالإعلام لابد من انتشاله والانطلاق به في رحاب آفاق سياسية جديدة . وهنا نأتي إلى مقتل مجتمعاتنا التي هي اليوم بأمس الحاجة إلى أمرين أساسيين : خدمات وفرص عمل وامن وضمانات اجتماعية . والأمر الثاني يتمثل بجملة من المعاني القيمية : الحريات وتنامي الديمقراطية وفرص الحوار وتجديد للقوانين ..
ليست هذه ” مثاليات ” بعيدة عن التحقيق . ربما ثمة صعوبات ومشكلات في التطبيق ، ولكن لا يمكننا نرى الأمم الأخرى بأنواع مجتمعاتها بمنظارنا نحن ، ولا نرى ما يعرضه العالم من منظورات عنّا .

• رجاء راجع المقال المذكور على الرابط التالي :
http://www.sayyaraljamil.com/Arabic/viewarticle.php?id=index-20100120-1798

نشرت في ايلاف ، الحلقة الاولى 24 يناير 2010 ، والحلقة الثانية 31 يناير 2010 ، ويعاد نشرهما معا على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …