الرئيسية / افكار / الانهزامية دمّرت مجتمعاتنا !!

الانهزامية دمّرت مجتمعاتنا !!


مقدمة : تربية انهزامية
من أشنع جنايات هذا العصر أن يعيش الإنسان في مجتمعاتنا ، مزدوج الشخصية والتفكير معا ، فهو معك حينا ، وهو ضدك في أحايين أخرى .. وهو يعيش الحاضر ، ولكن كيانه كله في الماضي .. وهو يدرك الأشياء ومنتجات هذا العصر المذهلة بوعيه الظاهر ، ولكن وعيه الباطن يحدّثه عن أشياء أخرى بمنتهى السوء ، فيعيش في بحر من الظنون .. وهو يحيا الواقع صباح مساء ، ولكنه مغرق بالخيال والأوهام والأضاليل .. انه يعيش ويقتات ويعالج ويسافر ويتصل ويتمتع بكل مستحدثات العصر ومنتجاته ومصنوعاته وأدويته ومكتشفاته وتكنولوجياته .. لكنه يصر إصرارا متصلبا على كراهية هذا العصر ومشتقاته ومستحدثاته .. وكل من نصحه وأرشده وصمه بالتغريب والانهزامية ..
انه مصّر حتى هذه اللحظة بأن العالم كله يكرهنا ، ولكنه لا يسأل نفسه : لماذا بدأ العالم كله يكرهنا ؟ فهو لا يدرك المعاني الإنسانية التي تتميز بها مجتمعات مسالمة وطيبة معينة في العالم .. انه يؤمن بأنه خير من اخرج للناس ، ولا يدري بأن الأمة قد اختلطت الأوراق فيها وتاهت في خلطة من الألوان الداكنة ، وتدافع البشر عليها عبر الأحقاب والأطوار من السنين .. من هو المنهزم ؟ هل هو المثقف الذي يريد الإصلاح ، ويطمح لكي يعالج الحياة ويطورها ، ويعمل من اجل بناء المستقبل للأجيال القادمة .. أم ذاك الذي يريد البقاء والتعفن مكبوسا غير متحرر أو غير مستقل الإرادة والتفكير ، وقد انغلق على ذاته وتكلس على أوساخه ، وهو لا يفقه إلا ترسبات ماضيه العقيم فيعيش متخلفا لا يجاري العصر ؟؟ وعليه ، فان التربية الانهزامية في مجتمعاتنا قد أنتجت ثلاثة أنواع من البشر : انهزامي بالكامل نحو الماضي ناسيا عصره تماما ، وانهزامي ثنائي التفكير ، متناقض الخطوات بين الماضي وعصره .. ومتمرد بالكامل على الاثنين معا .. وكلما يمضي الزمن يزداد هؤلاء الثلاثة ويندر التوازن ويقل الاتساق في بنية غير منسجمة من التناقضات الكبرى !

العصر بين نقيضين
إن المثقف الحقيقي لا ينهزم أبدا ، بل أن وعيه ومدركاته يجعلناه قويا صامدا لا يهتزّ لأي ريح صرصر عاتية .. أما من تجدهم هنا او هناك من منهزمين حقيقيين ، فأولئك الذين يعيشون ثنائية ثقافتين متضادتين من الماضي والحاضر .. وأولئك الذين يتفاخرون بأظافرهم وأنيابهم بدل أن يتفاخروا بلباب عقولهم وخصب عطائهم .. إن المنهزمين الحقيقيين هم الذين يكرهون ويحقدون حتى على أنفسهم .. فكيف نطالبهم بمحبة الآخر ؟ إنهم الذين يخلطون الأوراق دوما لضعفهم وضياع عقولهم .. ويمتنعون عن تطوير حياتهم ومناهجهم وأفكارهم بحجة الخوف من جاهلية القرن العشرين ، أو قباحة القرن الواحد والعشرين ! ..
إن من يطالب بالإصلاح والتحديث لا يشترط عليه أن يكون تغريبيا أم تشريقيا .. انه لا يطلب منك أن تسبح بحمد الغرب أو الشرق وتستغفرهما ، بل أن تستفيد من تجاربهما وخبراتهما وعلومهما وآدابهما وفنونهما .. وسواء كرهنا العالم المعاصر أم لم نكره ، فان التقدم العالمي لا يأبه لمثل هذا الجنس من المحنطين .. إنهم يصّرون على غبائهم وغيهّم .. إنهم حجر عثرة أمام بناء مستقبل جديد للأجيال القادمة بحجج واهية لا تستقيم ومنطق الحياة .. إنهم مرضى نفسيا نتيجة بقائهم أسرى شرانقهم القاتلة ! إنهم يظنون ويسيئون الظنون ، ويتخذون قراراتهم على جعلهم الظنون حقائق ، ذلك أن كل من يطالب بالتغيير في المناهج والقوانين وأساليب الحياة قد انهزم من ثقافته وأصبح ذيلا للخواجات !
إن من يطمح للتغيير ، لا يريد نزع عقيدتك أو قيمك أو تراثك منك ، بل ليبني لك ، ولمن يأتي من بعدك مناهج جديدة وأجهزة للمناعة تقيك محنة المستقبل .. إنهم قصار الرؤى بحيث ما زالوا يتفاخرون ويتنطعون بعظمة واهية ونفخة فارغة أودتا بنا إلى هذه الانهيارات .. إننا مطالبون بالتغيير حتى لما في النفس .. إنهم يعتبرون ما تبقّى عندهم سلاحا بأيديهم يدافعون به عن مصيرنا بشتى الوسائل والأساليب . رسالتي إلى هؤلاء أن ينتقدوا ويعترضوا ولكن بأسلوب علمي وحضاري إن كانوا مؤهلين للدفاع عمّا يعتقدون به ، والا فليدعوا غيرهم يعمل .. إن وضع حزمة عصيهم في العجلة الدائرة سيؤخر ويعيق ويجعلنا عند نهايات السلم العالمي .

إشكاليات الزمن الجديد
نلاحظ ، ونحن في بدايات قرن جديد، أن زمنا ثمينا قد افتقدناه على امتداد القرن العشرين ، لأن كلا من الدولة والمجتمع في حياتنا كانا وما زالا ، لا يعرفان حجمهما حتى اليوم بين الأمم الأخرى ، وما دام هناك ملايين البشر تؤمن أيمانا متحجرا باليا بالمطلقات من دون أي تفكير نسبي، وما دام هناك من يوهم الملايين بأن الشعارات والخيالات مجموعة حقائق ووقائع، فستبقي مجتمعاتنا متأخرة على أشد ما يكون التأخر ، وستبقي دولنا كسيحة عرضة للانقسام والتهرؤ والزوال! فمن ذا الذي يمكنه أن يتخذ موقفا مضادا من واقع مكابر ، لا يؤمن بالنسبية والتناسب ، ولا بالحريات ، ولا بالرأي الآخر ، ولا بحقوق الإنسان حتى الشخصية ، وليس في قاموسه إلا خلط الأمور ، وقلب الحقائق ، وتمويه الأشياء ، ومزاولة النقائض ، وإعدام التفكير ، وغلق باب العقل والاجتهاد ، وقراءة التاريخ بالمقلوب ، وإضاعة الزمن ، وقتل الحريات ، وادلجة العقائد الدينية سياسيا ، وتقديس الزعماء المهرجين وعبادة المومياءات المحنطة القديمة.
إن فلسفة الحداثة ، لا يمكننا ، أن نؤسسها في عالمنا المنكود بكل أوجه القباحة ، والسوء ، والدمامة ، والبلادة.. علي عكس ما نجده في مجتمعات تعلمت كيفية صناعة مستقبلها ، والإبداع في تاريخها المستحدث بعيدا عن إعادة إنتاج ما كان قد مضي زمنه وتلوكه وتجتّره من دون مضغه أبدا.. وعليه، فلابد أن يبدأ وعي جديد في مجتمعاتنا كلها ، يتعلم من مجتمعات أكثر واقعية وبراغماتية جملة من التقاليد المستحدثة . ولقد دعوت هذه الحالة بعملية إسدال الستار علي الماضي في كتابي: العرب والأتراك: الانبعاث والتحديث من العثمنة إلي العلمنة.
لقد اثبتت ” التجربة ” ان الانهزامية ليست من الزمن ومن هذا العصر فقط .. بل تكمن في الخوف القابع في الانفس من ان يكون مع او ان يكون ضد ! ان التربية على الخوف والرعب ، والتي عاشها ابناء مجتمعاتنا على امتداد الأزمان المتأخرة ، وتكوينهم ضمن اطار من الرعب منذ صغرهم .. الرعب من الزمن .. من المجهول .. من المسؤول .. من المعلم .. من البيت .. من حكايا خرافات وأساطير .. من المستقبل .. من الآخرين .. جعلت مجتمعاتنا لا تعرف التوازن ولا السماحة ولا القياس ولا الجرأة ولا صنع القرار ولا الشجاعة ولا أسلوب الدفاع .. ولا المغامرة ولا الثبات على الرأي ولا الحرية ولا القانون ولا العالم .. ومع غياب المؤسسات والنقابات والتقاليد الحديثة .. راح الجميع يبحث عن مصالحه قبل مبادئه ، وعن رزقه قبل رأيه ، من اجل أن يحافظ على ذلك .. إن محنة مجتمعاتنا تكمن ليس بالبقاء في سياج ما هي عليه من مثالب ، بل أن سلبياتها وأوجاعها تزداد مع توالي الأيام من دون أي بارقة أمل للخروج من المحنة ! ان جيلا مهما تخضرم بين القرنين العشرين والواحد والعشرين ، اجده منهزما من واقعه المؤلم ، فهذا اختار الانزواء وذاك اختار الانطواء .. هذا اشتط نحو الماضي وهذا قفز الى المجهول .. هذا لاذ بالطائفة وذاك احتمى بالقرابة .. هذا هرب نحو الدين تاركا الدنيا ، وذاك عاف الدين وأبحر بعيدا .. هذا تمرد على الحياة بحثا عن الحياة الأخرى ، وذاك لم يزل يقاوم كل مصاعب الحياة .. هذا التزم قوميته نهجا أساسيا لمستقبله ، وذاك راح يهرب من قوميته اذ وجدها سببا في كره العالم له .. الخ

محنة الزمن الآتي
إن زمنا صعبا ، سيأتي علي أجيالنا الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين ، تكتشف فيه كم جرت من موبقات وخطايا من قبل الآباء والأجداد في القرن العشرين تحت مسميات شتى، وكانت في أغلبها : خائنة ، وملتوية ، ومزيفة ، وكاذبة ، ومفبركة ، وغير نظيفة .. إنني اكتب ذلك للتاريخ وللناس من بعدنا ، بعد أن أوهمونا نحن الذين ولدنا وتربينا وعشنا في الخمسين سنة الأخيرة ، بكل تلك الأكاذيب ، والمهاترات ، والشعارات ، والشتائم ، والتهويلات .. تحت عناوين مختلفة باسم المبادئ المجيدة التي تبدو اليوم للأذكياء ، كم كانت خاطئة ، ومزيفة ، ومنكرة.. لم يحدث أبدا ، أن استعيرت شعارات ، وسرقت أفكار ، واختلست مبادئ ، واستلبت مشاعر ، وأصدرت بيانات ، ونشرت مفبركات ، وأذيعت أكاذيب ، وروّجت اتهامات ..!! فضلا عن سحق إرادة شعوب ، وانحراف مجتمعات عن أخلاقياتها العالية ، وانتشار عادات وتقاليد همجية خارجة عن سياقات العصر ! لقد تفاقمت التناقضات بشكل لا يصدّق ، أو يتخّيل ، فكيف يمكننا علاجه وهو على درجة بشعة من الاختلاف .. مع انكشاف مؤامرات ، وخيانات ، وجنايات ، وإضاعة حقوق ، وإعدام تكافؤ فرص وإبداعات ، ووأد حقوق ، واستخفاف بالإنسان ، وتطبير حتى الأطفال ، وانقسام مجتمعات الى طوائف وملل ونحل !؟ والانكى من ذلك ، مشروعات قتل ، ونفي ، وتعذيب ، وتهجير ، وإبادات جماعية ، وتصفيات على الهوية ، وذبح نساء وأطفال.. ولم يحدث كالذي عايشناه في الخمسين سنة الأخيرة أن سرقت أوطاننا ، وسلخت مدننا ، وأحرقت مواردنا ، وسحقت أجيالنا في حروب قذرة رتبوها لنا .. وكلها تحت أغطية مبادئ وطنية ، وقيم قومية ، وإيديولوجيات سياسية ، وأحزاب دينية!! السؤال الذي نختزل فيه كل تطلعاتنا : متى تمتلك مجتمعاتنا الوعي كي تصنع إراداتها الخيرة ؟ متى نفتح لها باب الخلاص ؟ متى تنتبه إلى كل ما يعيق حركتها نحو الأمام ؟ متى تترّبى من جديد على تفكير جديد ؟ متى تتسامى وتتواضع معا أمام العالم ؟ متى تستعيد النخب المثقفة والعاقلة فيها دورها ؟ باختصار : متى تمتلك العقل لادارة شؤون كل حياتها وأجيالها القادمة معا ؟

نشرت في الف ياء الزمان ، 14 ديسمبر / كانون الاول 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyarjamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …