الرئيسية / افكار / بعيدا عن الطائفية : منهج القطيعة ازاء المستقبل

بعيدا عن الطائفية : منهج القطيعة ازاء المستقبل

” القطيعة ” : منهج لابد منه
ان من يؤمن بالعراق الحضاري .. عليه ان ينفي عنه اي صفة طائفية ، وان يعمل بكل الوسائل على التقليل من حجم المأساة الطائفية في العراق .. انني اعتقد بأن اسلم طريق للحّد من التمييز الطائفي الذي عملت على تهييجه السياسات السلطوية السابقة والاحزاب السياسية الحالية بدفع سياسي واعلامي خارجي .. يتمّثل بمنهج ” القطيعة ” باحترام كل طرف معيّن للطرف الاخر اجتماعيا .. ومحو الهوية الطائفية سياسيا . ان القطيعة تقضي على طرفي المعادلة ان لا يدخلا في محاكمة اي نص او تقويم أي عهد او تحليل أي تاريخ او مفاضلة أي مكان او مناطحة من هذا وهذيان من ذاك .. من انكار لهذا او تجاهل من ذاك .. وهنا ينبغي علي ان أؤكد انني أوجه خطابي هذا الى كل العراقيين ولن استثني طائفة على حساب طائفة أخرى ، او اقترب من هذه على حساب تلك الطائفة .. أنني مؤمن بأن الطرفين قد ارتكبا اخطاء بحق أحدهما الاخر .
ان ” القطيعة ” كمنهج حياة واسلوب تفكير تقضي ان يتجرد الانسان من هذا ” الموضوع ” الانقسامي الذي امسى ” ظاهرة ” قهرية محطمة بتجاوز الزمن .. ان ” القطيعة ” تقضي بأن يخرج الانسان من كل موغلاته الصعبة كي يكون حياديا ومستقلا عن الاخرين مهما كان الآخرون .. ان ” القطيعة ” تقضي ان يرتفع الانسان عن بدائيته الاولى ، وان يؤمن ان الزمن كلما يتقّدم فالانسان يتقدم بتفكيره وابداعاته وكل معطياته .. ” القطيعة ” : تعني ان يحترم الانسان ماضيه ويعتز به ، وان ينأى عن تقديسه والاقامة الجبرية في زنازينه .. ان ” القطيعة ” تقضي ان يدفع الانسان بالتي هي احسن وان لا يجادل الاخرين من دون منهج ولا علم ولا اصول ..
ان ” القطيعة ” تقضي بأن يقّدم العراقي جملة اولويات هو بأمس الحاجة اليها اليوم ، بدل الخضوع الأعمى لهذه ( الظاهرة ) التي تأكل الزمن وتمّزق المجتمع وتحرق الاعصاب وتشل التفكير من دون نتائج عملية تذكر .. ان ” القطيعة” تقضي بأن ينفصل تفكير الانسان عن ماضيه ليكون ابن واقعه ومعاصرته كي يعالج حياته اليوم مع من جعله مختلفا عنه بعيدا عن كل مناخات الماضي وما حفل به تاريخه من شروخ ومن قروح وجروح .. ان ” القطيعة ” تقضي بأن يفصل الانسان طائفته ودينه ومقدساته وشعائره عن هياكل الدولة ومؤسساتها .. وعلى كل ابناء الطوائف والملل والنحل ان يحترم احدهم شعائر الاخر وتقاليده وطقوسه .. بل ويشاركه اوجاعه واوضاعه .. افراحه واتراحه . ان العراقيين بحاجة الى مثل هذه ” القطيعة ” اليوم او كل المستقبل . ولا مستقبل او مصير لهم الا ان يدركوا جميعا ان الحياة المدنية بكل مناهجها لا تقصي الحياة الدينية بكل تجلياتها .. ولكنها لا تقبل ان تكون الطائفية او الماضوية او التقاليد الخاوية جزءا من تراتيبها وميكانزماتها ازاء بناء المستقبل .

مستلزمات آليات ” القطيعة ”
أسأل سؤالا واحدا لكل العراقيين : هل هم على أتم استعداد ان يلغوا من قاموسهم السياسي مصطلحات طائفية مثل : ” السّنة ” و ” الشيعة ” ؟ وهل بامكانهم ان يلغوا من قاموسهم الاجتماعي مصطلح ” طائفة ” ؟ وهل بامكانهم ان يتّقبل احدهم الاخر بلا طائفية ؟؟ هل باستطاعتهم ان يكف كل من الطرفين عن تبادل التهم والاتهامات ؟؟ .. ان من اهم ما يمكن عمله في العراق اليوم هو اعتراف كل طائفة بالطائفة الاخرى اعترافا خفيا اجتماعيا وقبولها واحترام ارادتها والاعتزاز الثنائي بالطقوس والتقاليد المشتركة ، وان لا تكون اي طائفة مرتهنة باسم قائد سياسي او ديني او حزبي .. اي : التحرر من ان تكون الطائفة مسؤولة عن اخطاء زعيم دكتاتور طاغية او محاسن امام متدين ورع !! ان الوعي بمثل هذا التفكير لا يمكن ان ينتشر بين عشية وضحاها .. بل انه بحاجة الى تربية وطنية حقيقية تقوم اساسا على الديمقراطية والثقافة الديمقراطية والافكار الحرة والبرامج التعليمية من اجل فصل النزعة الطائفية عن التفكير المدني .. وابعاد التقاليد والطقوس والاحزاب الدينية عن المؤسسة السياسية ابعادا تاما ..
وماذا ايضا ؟
ان لا يتسلط اي فكر طائفي او ممارسة طائفية على اي مرفق من مرافق الدولة وان يقّدم ابناء اي طائفة ابناء الطائفة الاخرى على انفسهم من اجل استئصال اي تمييز طائفي او كراهية متأصّلة وان يتعايش الناس مع بعضهم البعض الاخر بروح مدنية لا بانفاس طائفية ، فالطائفية وباء حقيقي في العراق خصوصا وانها كما وصفتها عندما حللّت بنية المجتمع العراقي : خازوق دق في اقفية العراقيين ولا يمكن للعراق ان يستقيم وضعه من دون نزع هذا الخازوق المدّمر . وكل ما نسمعه وما نعايشه وما يعلمنا به هذا او ذاك من ان المجتمع العراقي يخلو من الطائفية والانقسام الجماعي فهو محض كذب وافتراء ، فالمجتمع هو الذي انجب الانقسامات الاجتماعية وخلق الاحزاب الدينية والطائفية التي شكّلت ردود افعالها على مدى خمسين سنة نزعة للكراهية الطائفية باساليب دعائية وسياسية مفجعة !!

الاجراءات .. تربوية واعلامية أساسا
ان الثقافة الطائفية قد فرضت نفسها على الميدان في العراق من خلال اجراءات سلطوية وبوسائل اعلامية .. وان بدائل طائفية لم يكن لها وجود ولكنها وجدت نفسها ازاء بدائل طائفية لدى الطرف الاخر باسم التوافقية او المحاصصة ناهيكم عن التحالفات التي لم تبن على اسس وطنية بقدر ما بنيت على مصالح فئوية او عنصرية .. فاختلطت في واقع مأزوم وحالة فراغ سياسي هائل مثل هذه الوقائع لتشّكل واقعا طائفيا انقساميا نتجت عنه عدة جروح كبرى ، وكان العراق ولم يزل ينزف دما .. ان المحاصصة التي جرت على اسس طائفية وعرقية لا يمكنها ان تبقى ابدا ازاء ارادة شعبية واعية تتقدم نحو الافضل كلما تقدم بنا الزمن .. وكلما يمضي الزمن يدرك العراقيون انهم قد غّرر بهم وانهم كانوا مادة سهلة وطيعة للاستلاب التاريخي من اجل مصالح آنية ومن اجل سد رغبات محتل جاثم على الارض .
ان خلطا متعمدا قد مورس بين الطائفية السياسية والديمقراطية المزيفة انتج فوضى قيمية بين الحاكم والمحكوم وانتج سلطة هشة ضعيفة غير قادرة على فرض احكامها بشكل حازم .. وانتج دولة هزيلة ضائعة بين الاحزاب والتيارات والتكتلات وبين انواع من القوى الدينية والطائفية ومراكز القوى والميليشيات والجماعات وبين المركزية الهزيلة واللامركزية العبثية وبين الاحزاب المدنية السياسية والاحزاب الدينية الطائفية . وهكذا انتقلنا عبر اطوار من الازمات والمشكلات التي تترك ولا تجد لها حلا فتنتج جملة اخرى من المشاكل .. ومن المفجع ان جيلا عراقيا جديدا يتربي اليوم على افكار سيئة وواقع مأساوي وحياة طائفية مقيتة .. واريد القول لكل من يأمل بالخلاص والحياة الآمنة ان لا خلاص ولا أمان ان بقيت الظاهرة الطائفية مسيطرة على واقع العراق والعراقيين .
ان الديمقراطية لا يمكن ان تولد وتتطور وتزهر وتثمر في ظل واقع طائفي قميئ .. واقول لكل ذي رؤية قاصرة وليس له اي افق واسع من التفكير ان الطائفية لا يمكنها ان تنجح ابدا في ظل واقع صراع بين طرفين عراقيين اثنين .. ولا يمكن بناء عراق حضاري آمن ومتطور مع وجود مجتمع تأكله الكراهية وتعتصره الاحقاد ويفكر في الانتقام .. كما ان الطائفية لا يمكنها ان تبقى مع وجود ارادة عراقية تنزع الى فض الاشتباك التاريخي ان حفل تاريخنا به .. كما ان على العراقيين ان يفترضوا حسن النوايا بكل من يشاركهم ارضهم ومصيرهم .. ان كان هناك من آذى العراقيين مهما كان دينه او طائفته فلندع القانون يحاكمه .. من أساء الى العراقيين مهما كان مرجعه ومهما كان لونه وعرقه وحزبه فليحاكمه العراقيون ..

من اجل حياة عراقية آمنة ومتعايشة
ان اية محاولات لرتق الجروح الطائفية لا يمكنها ان تأتي من قبل احزاب ومؤسسات دينية ( اي : انها بالضرورة ستكون طائفية ) بحكم تسلطها ، وهنا لا تنفع الا الاحزاب المدنية والاحزاب العلمانية والقوى التي ينتفي منها هذا الوباء وحتى ان وجد لدى اناس علمانيين ، فهو سيكون بالضرورة مع رأي المجموع لا مع رأي الجماعة ومع الاكثرية المدنية لا مع الاقلية الدينية ! ان نمو الظاهرة التكفيرية بمثل تلك البشاعات التي تبلورت في العراق لا يمكن القضاء عليها في ظل واقع تعبوي طائفي لهذا الطرف او ذاك ، فالطائفية لا يمكنها ان تموت في واقع كالعراق ينقسم طائفيا وتريده من مجتمعه السكوت وانت تتلاعب باسم كل العراقيين ! لا يمكن ان تعيش اية ديمقراطية في ظل مكونات طائفية .. لا يمكن ان تعيش اية توافقات ( ديمقراطية ) في ظل تشرذم غير وطني اذا ما اعتبرنا الطائفية عدوا لدودا للوطنية وما دام المجتمع نفسه يكره هذه ( الظاهرة ) ولكنه منغمس فيها من حيث يشعر او لا يشعر !
ان ظواهر كالانقسامية والشوفينية والتكفيرية والارهاب والقتل والتفخيخ .. لا يمكنها ان تولد الا في ظل تعبويات حزبية في دولة تعبوية لها ايديولوجيتها المعينة التي تنفي الديمقراطية الحقيقية ولا تمنح حريات الاختيار في اطار مدني للجميع وتقوم على التمييز مهما كان نوعه .. وهذا ما وجدناه في دول المنظمات والاحزاب الاحادية وما نجده في دول طائفية تعمل بلغة المكونات والانقسامات ولا تعمل بلغة المجتمع المدني والمناهج الوطنية .
وأخيرا : ما العمل العاجل ؟
ان التخندقات الطائفية التي شهدها أغلب العراقيين قد تفاقمت مخاطرها خفية نتيجة عوامل تاريخية وسياسية في العراق .. وكان عليها ان تنفجر بمثل هذه الصورة المأساوية وساعدتها ظروف وقوى عديدة لكي تكشف عن نفسها صراحة ولتصبح سمة عادية وباسم الديمقراطية او التوافقية ممّا يزيد من اشعال النار المضرمة .. وباسم الاكثرية والاقلية من دون اي احساس او شعور بالانسحاق الوطني .. وباسم التسلطية والمظلومية راح المجتمع كله ينقسم ثم يتخندق .. وباسم حكم جائر لزعيم طاغية وشعب صاغر فيه الصالح وفيه الطالح تفاقمت الاتهامات بين طائفة واخرى عن حجم ولاء طائفي لهذا العهد او لذاك !! وباسم المقاومة ضد الاحتلال راحت هذه الطائفة تتهم اخرى بالعمالة للاجنبي والاخرى بقتل الابرياء والارهاب ! وباسم التمييز الطائفي راح الصراع يأخذ له مديات صعبة على حساب الابرياء من ابناء المجتمع !
ان آخر ما يمكنني قوله بهذا الصدد ان علاج وباء الطائفية ليس سهلا ، وأرى ان الحدة من تفاقم خطورة هذه ” الظاهرة ” لا يتم الا على ايدي الكبار ، اذ لابد من تحريم استخدام هذا المرض وسيلة اعلامية او سياسية او انتخابية .. ولابد من العمل على منع استغلال الوسائل الاعلامية للتشهير بأي طائفة عراقية ، واطالب كل وسائل الاعلام التلفزيونية والاذاعية والمقروءة وخصوصا المواقع الالكترونية بالكف عن المهاترات والتشهيرات الطائفية .. وان حلول التقسيم التي يطرحها البعض سوف لن تؤدي الى اي علاج ، اذ سيتبعه مخاض حروب وصراعات لا اول لها ولا آخر ! ان مشروعا وطنيا جديدا لابد ان يحتوي كل الظاهرة ، وسوف لن يقطعها من جذورها ، بل يحرم التمييز على اساس طائفي .. ويدخل العراق في زمن جديد ، فالعراق بحاجة الى زمن جديد والى جيل جديد والى تفكير جديد .. جميعها تنفي هذه ” الظاهرة ” وتستأصل عواملها وتستبدل تفكيرها وتنفتح على الحياة من دونها ..
www.sayyaraljamil.com
Azzaman International Newspaper – Issue 2713 – Date 4/6/2007


( الطائفية ) بين المصطلح والتداول في العراق : استلابات التاريخ الصعب (1)

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …