الرئيسية / افكار / نحو تشكيل حضاري للمثقفين العراقيين خروجا من تعاسة التاريخ

نحو تشكيل حضاري للمثقفين العراقيين خروجا من تعاسة التاريخ

تجمعني الصدف ، وما احلاها وما امرها واقساها ، بالعديد من الاخوة العراقيين الذين ادرك اليوم ادراكا حقيقيا انهم نبذوا ما كانوا يؤمنون به ـ ويا للاسف الشديد ـ من فكر تقدمي وحداثة مجتمع واصول مجالسة وتفكير سياسي معاصر .. ليغدوا وقد تشكّلوا على بقايا التراجعات المخيفة وهم يتشبثون بالشعارات المتخلفة المميتة الجديدة التي راجت اليوم والتي انتكست بالعراق والمجتمع الى الهاوية .. كنت ادرك ان هناك قطاعا هائلا من الذين يحسبون انفسهم على المثقفين وهم لم يقرأوا كتابا واحدا في حياتهم .. وكانوا يختبؤون بمسكوتاتهم كيلا لا تعرف مستوياتهم وهم يتخندقون في كنف النظام السابق خوفا ورعبا من دون ايمان حقيقي به ، اما اليوم ، فقد انقلبوا كانقلاب السحر على الساحر من ذاك التخندق بمختلف توصيفاته واشكاله الى التحذلق وطول اللسان بسّب هذا وشتم ذاك .. او التمشدق مع البذاءات التي لا تحدها اي حدود ولا توقفها اي سدود .. واذا بحثت عما يريده هذا او بما يطالب به ذاك فستعجز في الوقوف على الحقيقة ، اذ اختلطت الامور وانقلبت الحياة عاليها وسافلها بحيث لم يعد للافكار من قيمة عندهم ولا لأصحاب الرأي والمعرفة اي منزلة لديهم .. وبقدر ما ينشد الجميع للعراق والبحث عن خلاص له .. فستجد هؤلاء لا يرضون ليس عن غيرهم ، بل لا يرضون حتى عن أنفسهم !!
النغمة الجديدة التي نسمعها اليوم والتي كان يسوقها رجال الدين والملالي سابقا وما زالوا ، ان لا نفع في الثقافة والمثقفين ولا بالمختص والمختصين ولا بالاستنارة والمتنورين .. وفعلا حل الملالي والمعمّمون التراجعيين بديلا عن الافندية والمثقفين والمبدعين التقدميين .. وبدت تنتشر الحالة بشكل مفجع في اوساط مختصين واناس تبدو ملامحهم انهم بمحترمين ، ولكن تخذل عندما تسمعهم وهم يتلذذون بترديد ما يقوله المعتوهون ويلوكه كل المتخلفين .. قال لي احدهم وهو طبيب عراقي مختص متقاعد يعيش في بلد متمدن : ما نفع العلماء والباحثين والاكاديميين ؟ وما فائدة كتاباتهم وكتبهم واوراقهم ؟ علينا ان لا نكتب الكتب ولا المقالات بل نعيش تجارب الواقع ونؤمن بها وبكل طقوسها ومواريثها وتقاليدها .. قلت له : ان المعرفة البشرية لم تتقّدم الا بالقراءة والكتابة ولا تتقدم الامم الا من خلال تجارب العلم والبحث عن حقائق الاشياء ! قال : وما نفع ذلك ؟ واستطرد متعجلا يقول : خذ مثلا علي الوردي الذي تعتبر كتاباته هزيلة ( كذا ) وهو لا يعرف شيئا من المجتمع العراقي كونه اعتمد على القراءة والاوراق ! وخذ المؤرخ حنا بطاطو الذي لا نفع في كتابه عن العراق ! قلت له : وهل تستطيع ان تقدم قلامة ظفر لما قدمه كل من الاثنين ؟ هل باستطاعتك ان تكمل قراءة صفحة واحدة من كتب العلماء والمستشرقين ؟
هذه ” الحالة ” المأساوية التي تسجّل ما وصلت اليه العقلية العراقية لدى امثال هذا او ذاك سواء كانت مختصة ام مهنية ام حتى اكاديمية .. بحاجة الى تشكيل عقل عراقي جديد .. بحاجة الى اعلام ووعي عقلاني جديد .. بحاجة الى التمفصل بين التقاليد البالية المدرجة التي اعتادت عليها الذهنية العادية والمركبة وبين نظام جديد من التفكير الحر المستنير الذي يحترم كل ما له قيمته وميزته وجمالياته .. انني اعتقد اعتقادا راسخا ان في مجتمعنا العراقي قطاعات كبيرة من المبدعين والمثقفين الحقيقيين ، ولكن حجومهم لا تستوي ابدا وكتل الذين لا يعرفون كيف يفكرون ولا كيف يتعاملون ولا كيف يوازنون ولا كيف يتحكمون بامزجتهم ولا كيف يحترمون السنتهم ولا كيف يقدرون من يستحق التقدير ولا كيف يكتمون على احقادهم وحنقهم وعلى ثقافة الكراهية التي تربوا عليها .. انهم بحاجة الى تأهيل تربوي من نوع جديد .. بحاجة الى الخروج من نفق الطائفية المميت .. بحاجة الى الخروج من عقدة الانوية ومن عبادة الذات والنرجسية ومن الاستهزاء بالاخر ومن عادة التقليل من شأن الافضل .. انهم بحاجة الى التفكير النسبي والاحكام القياسية .. بحاجة الى الاخلاق والتعابير المهذبة .. بحاجة الى الانتقال من تأليه الذات الى تقييم الموضوع .. بحاجة الى الاعتزاز بالمبدعين لا التنكيل بهم .. بحاجة الى النظرة السوية والمفاضلة بين الشخوص والاشياء لا على اساس طائفي او فاشي عرقي او جهوي محلي او عشائري قبلي .. بحاجة الى التنازل قليلا من اوهام الابراج العاجية الى حيث التواضع ومغادرة النفخة الكاذبة .. بحاجة الى المصداقية والوسطية والشفافية .. بحاجة الى التوازن فلا التفخيم والتعظيم من طرف ولا الاستصغار والاستهزاء من طرف آخر .. بحاجة الى الخروج من ساحة استعراض العضلات وتسجيل الاكاذيب .. بحاجة الى التوثيق من دون التشهير وتلفيق التهم الجاهزة .. بحاجة الى الكف عن النفاق بين التعظيم والاذلال .. بحاجة الى جب اللسان عن شتم هذا اليوم وتقبيل اياديه في اليوم التالي !! باختصار انهم بحاجة الى المحبة والمودة ورفع الغل والاحقاد وثقافة الكراهية العمياء !
ان المثقفين العراقيين لابد ان تميزهم عن سواهم منظومات ، بل واؤمن ايمانا حقيقيا بأن ما يجمعهم اكبر بكثير من الذي يفرقهم .. ان مجرد تسميتهم بالعراقيين ، فهي كافية لحمل رمز حضاري لا يمكن ان يعادل باثمن الاشياء ! ان المثقفين العراقيين لم يخرجوا من المجهول عذارى بلا هوية ، او بلا تاريخ ، او بلا مصادر ، او بلا اي ينابيع .. انهم يستندون على تاريخ حضاري لا يضاهى ابدا ، ولكنهم لا يشعرون بقيمته ، بل وان هناك من هرب هروبا لا معنى له من حاضنته كي يشتم تاريخه من دون اي قناعات ولا اي استشهادات .. وهذا نوع من هروب الذات اثر انسحاقها ، وتفجير مكبوتاتها ، فهو امام العالم انما يشتم نفسه من دون ان يدرك فجاجة ما يقول ! فكما هو واقعنا محسوب علينا ولنا مسؤولية اصلاحه وتحديثه والارتقاء به ، فان التاريخ هو عبء علينا ، بل نحن جزء لا يتجزأ من نتاجه ومعطياته .. فلا ينفع الهروب ولا ينفع الشتم ولا ينفع القذف ! واذا كان تاريخنا السياسي بمراحله الطوال مليئ بالمشكلات والمساحات القاحلة ، فلنا في تاريخنا الحضاري ما يمكننا ان نعالجه به ونتملكه ونعجب به .. ولا اعتقد ان تواريخ الامم الاخرى بافضل حالا من تاريخنا ..
ان العراقيين في كل العراق وخارجه لابد ان يخطو خطوات جريئة وواضحة بكل براءة وشفافية من اجل تشكيل حضاري عراقي قوي ، وان التكامل بين الثنائيات : الداخل والخارج .. البر والنهر .. القرية والمدينة .. التاريخ والحاضر .. المرأة والرجل .. المعرفة والحياة .. الشعر والفلسفة .. المركز والاطراف .. الاكثريات والاقليات .. ما بين النهرين وما بعد النهرين .. الدين والدنيا .. المدني والعسكري .. الشمال والجنوب .. الخ انه جوهر حياة العراق لمن يدرك تجاربه التاريخية ، ولمن يدرك بأن العراقيين لا يستحقون ابدا كل هذا الانسحاق البطئ على مرأى ومسمع من كل العالم .. انهم نتاج سلالات حضارية ذكية لا يمكن ان يبقوا صرعى او مرضى في شتات الخارج او مبعثرات الداخل . ان السعي لولادة منظومة كبرى للمثقفين العراقيين باتت ضرورة ماسة لتشكيلهم من جديد على ضوء التجارب المريرة التي مررنا بها .. ولتبدأ حياة العراق والعراقيين ضمن انساق متطورة . فهل سيتم تأسيس ذلك ونحن في بدايات قرن جديد .. أنني آمل ذلك من صميم القلب .
www.sayyaraljamil.com
الصباح البغدادية ، 11 ابريل 2007

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …