الرئيسية / قراءات اخترتها لكم / حول المثقف والسلطة في السودان… أحمد ضحية

حول المثقف والسلطة في السودان… أحمد ضحية

مفاهيم أساسية حول المثقف والسلطة في سلاسل الأجيال :
(1 -9 ):
نحاول هنا فحص علاقة المثقف بالسلطة منذ القرن السادس عشر , أي منذ قيام مملكة سنار (1505) , وصولا الى فترة الاحتلال التركي المصري , ثم قيام الدولة المهدية , فالاحتلال الانجليزي المصري , واخيرا الحكومات الوطنية المتعاقبة ,.
بالطبع سنكتفي فقط بمحطات نرى أنها أساسية , في فحص العلاقة بين المثقف والسلطة في السودان – تاريخيا – علنا نتمكن من القاء بعض الضوء على جذور وتكوين هذا المثقف , تعيننا على تكوين فكرة عامة , توضح لنا ما هو عليه الان , فربما يمكننا ذلك من التعرف على مزيد من الاسباب التي صاغت غيابه الفاجع على عهد الانقاذ بصورة خاصة .
بداية ان لفظ مثقف intellectualالذي يتم استخدامه اليوم في العربية المعاصرة , لا يمكن العثور عليه في الادبيات العربية القديمة , وهو اسم مفعول من الفعل “ثقف”أي بمعنى حذق . اذ جاء في لسان العرب : “ثقف” الشيء “ثقفا” و” ثقافا” و”ثقوفة” : حذقه . ورجل “ثقف” (بفتح الثاء والقاف) وثقف(بفتح الثاء وكسر القاف) وثقف (بفتح الثاء وضم القاف): حاذق.
اذن مصطلح مثقف هو مصطلح حديث , حيث ترمز intellect الى العقل في تشكيله أو الفكر في بناءه , ما يعبر عن الميل أو النزوع الى الفكر , وبذلك يختلف المثقف في تفكيره ورؤيته عن ثقافة المجتمع المحيط culture فالمثقفون هم أولئك الذين يشتغلون بفكرهم في فرع من فروع المعرفة ويحملون آراء خاصة بهم حول الانسان والمجتمع ويقفون موقف الاحتجاج والتنديد إزاء ما يتعرض له الافراد أو المجتمع من ظلم وعسف السلطات . سواء كانت دينية أو سياسية (1)..

قسم غرامشي المثقفين الى مجموعتين حسب الوظيفة الاجتماعية : ” مثقف تقليدي “(الادباء والعلماء وغيرهم ) = traditional intellectual و” مثقف عضوي ” : (المفكر والعنصر المنظم في طبقة اجتماعية أساسية معينة ) = organic intellectual .. وتركيز غرامشي هنا على الوظيفة الاجتماعية يعني دور المثقف في توجيه أفكار وتطلعات الطبقة التي ينتمي اليها , اي القيام بممارسة منتظمة للتفكير في الواقع الاجتماعي والسياسي والمشاركة في تغييره , وفي هذه الحالة يصبح المثقفون انتلجنسيا intelligentsia ويتسع مصطلح المثقف ليشمل جميع الذين يصنعون الثقافة ويحملونها ويطبقونها , بل يعول اليسار الجديد على دور الشباب والطلاب كثيرا . مثلما يشمل المصطلح الخبراء والعقائديين النظريين والفلاسفة او المفكرين والفنانين والصحافيين ورجال الادارة والوظيفة .
هنا ثمة تمييز يضيفه دكتور حيدر ابراهيم للمثقف الخلاق عن المثقف الذي يقتصر نشاطه على نشر الافكار وتطبيقها . الاثنان من النخبة المثقفة ولكن الانتلجنسيا هي التي تحصل على نصيب كبير في مراكز القوة والامتيازات (2)..

مما تقدم نلاحظ ان مصطلح مثقف من أكثر المصطلحات التباسا , اذ من الخطأ ان نخلط بين التراتبية والنخبوية , فمفهوم المثقف ضبابي بما فيه الكفاية . وكثيرا ما يخلط بينه وبين مصطلح الطليعة والتي هي مسألة مختلفة . فالنخبوية هي ايمان بسلطة قلة مختارة , أو مرجعيتها مما يشير عادة وعلى المستوى الثقافي الى ان القيم هي حكرا على هذه الجماعة سواء كانت قد اصطفت نفسها بذاتها أو غير ذلك , مستمدة سلطتها او مرجعيتها من مكانة غير موقعها الثقافي (خلفيتها الاجتماعية او الدينية مثلا ..) او من نفوذها الثقافي وحده , ومثل هذه النخبوية كما يشير تيري اينغيلتون لا تتعارض مطلقا مع ضرب من الشعبوية (3) .. ثمة ملاحظة مهمة نرغب في التأكيد عليها هنا , اذ نعني تحديد بالمثقف – في هذه الورقة – المثقفين المنظمين في قوى سياسية , والمثقفين الذين لم يسبق تنظيمهم , او كان التنظيم مرحلة في حياتهم .
( 2 -9 ) :
اذا استلهمنا بعض المعاني المهمة التي تتضمنها نظرية المجايلة التاريخية (4) في تحقيب التاريخ على أساس الوحدات الصغرى من سلاسل الاجيال , فان مصطلح generation هو الوحدة التاريخية الصغرى المقدر عمرها بثلاثين سنة وعليه فان الفضاء الثقافي والمعرفي السوداني عاش 17 جيل اي 17 وحدة تاريخية صغرى . اذا وضعنا في الاعتبار الجيل الحالي (1985 – 2015) وصولا – تنازليا – الى الجيل المؤسس لمملكة الفونج (1505) .
بلغة اخرى نجد ان الاجيال الثلاثة الاولى هي : (1505 -1535) – (1535 – 1565 ) – (1565 – 1595).
والاجيال الثلاثة الثانية : ( 1595 – 1625) – (1625 – 1655) – (1655 – 1685) .
والاجيال الثلاثة الثالثة : (1685 – 1715) –(1715 – 1745) – (1745 – 1775)
والاجيال الثلاثة الرابعة 🙁 1775 – 1805) –(1805 – 1835) –( 1835 – 1865).
والاجيال الثلاثة الخامسة : (1865 – 1895) – (1895 – 1925 ) – (1925 – 1955).
والاجيال الثلاثة السادسة : (1955 – 1985 ) –( 1985 – 2015) – ( 2015 – 2045).
حيث تمثل كل ثلاثة اجيال وحدة تاريخية كبرى في سلاسل الاجيال .مع ملاحظة ان نقطة البداية الفعلية ليست تلك اللحظة التي تكونت وتشكلت فيها سلطنة سنار (1505) فتاريخ السودان ابعد من ذلك بكثير , يمتد الى العصور القديمة التي تمخضت سيروراتها عن كوش ومروي اللتين تمخضتا بدورهما عن سنار والفاشر بطريقة او اخرى . فهذه الممالك – في تقديري الخاص – هي نتاج عملية ثقافية واجتماعية وحضارية متصلة.
فاختيارنا اذن للحظة الفونج تأسس على انها دولة تشكلت نتاج تحالف (اثني طائفي ) = (عرب القواسمة العبدلاب +الفونج + المتصوفة “المثقفين”)وحراك اجتماعي واسع ..
كل ذلك تمخض عن شكل مؤسس لسلطة سياسية ولمجتمع منظم.جمعت فيه طوائف المتصوفة مختلف الأعراق , ومثل الشيوخ (الفقرا = الفقهاء أو العلماء) الطليعة المثقفة التي تستمد من نفوذها على الشعب ,. تأثيرها على السلطة السياسية . التي كانت تحسب لهذه الطليعة المثقفة الف حساب , فتمنحها الكثير من الامتيازات . التي لم تتمكن بها – مع ذلك – حرفهم عن دورهم القائد للمجتمع . فقد تمكن هؤلاء المثقفين (الفقهاء) من حفظ المسافة بينهم وبين السلطة السياسية , وانتزعوا اعتراف الحكام بدورهم الفاعل في المجتمع , حتى اصبح يطلق على القرن الثامن عشر (عصر الفقهاء) (5)..
(3 – 9) :
وبسقوط دولة الفونج وبسط الاحتلال التركي المصري لنفوذه على السودان , تغيرت العلاقة بين المثقف(الفقيه) والسلطة , فحكومة الاحتلال الجديدة (التركية المصرية ) عملت على توظيف الدين لاعطاء مشروعية للاحتلال . ولهذا السبب بالتحديد اصطحبت جيوش الاحتلال معها ثلاثة علماء يمثلون المذاهب المختلفة (باستثناء الحنبلي). وهكذا – كما يشير دكتور حيدر – ظهر لاول مرة (العالم – الموظف) الذي يتقاضى اجرا من الدولة بدلا عن تطوعه في المجتمع كما في السابق . بالتالي اصبح (العالم) جزء من جهاز الدولة الايديولوجي , واداة لتحقيق شرعية الاحتلال باسم الاسلام . وللتاكيد على ذلك تم قتل العلماء المناوئين للاحتلال بحملات الدفتردار الانتقامية . ومع ذلك لم يكتسب العلماء(الرسميين) أي ارضية عامة بين الشعب . لكن انتهى مؤقتا دور (العالم – الصوفي) , الذي يقف حاجزا بين السلطة الاحتلالية الغاشمة وبين الجماهير التي لم تكن لديها القدرة الذاتية على حماية نفسها (6)..
( 4 -9 ) :
وعندما اندلعت الثورة المهدية , اخذت الانتلجنسيا المعاصرة للاحتلال (والتي كانت قد تلقت تعليما ازهريا ) تحاول دحض المهدية باصدار الفتاوي التلفيقية , اي قامت بوظيفتها العضوية , اذ كانت على استعداد تام لتقديم سائر التنسهيلات الدينية للمحتل . ومع ذلك , نجحت الثورة المهدية .
فقد كان محمد احمد المهدي تجديدا لنموذج الفقيه أو رجل الدين المناهض للظلم (7) بتحديه علماء السلطة الذين تراكضوا لكسب ود الاحتلال , وهنا يستنتج دكتور حيدر انه ليس بالضرورة ان المثقفين طليعة حين يكون التناقض بين المصالح الشخصية وبين الافكار والمعرفة والمواقف الملتزمة , اذ من الممكن ان ترجح المكاسب الذاتية (8)..
(5 – 9) :
عملت المهدية على توجيه مصادرها وتقليل احتمالات الاختلاف والتنوع الفكري والثقافي , ما انتج وجود نوع من الفراغ الثقافي والفكري ., استطاع الاحتلال الثنائي الانجليزي المصري فيما بعد استغلاله بزرع انتلجنسيا ذات توجه مختلف ومصالح جديدة , يمكن رؤيتها ورؤية ممارساتها فيما بعد الكولونيالية بوضوح , اذ تحولت الحكومات الوطنية بعد خروج المستعمر الى مستعمر جديد .
واذا اعدنا قراءة الفترة من منتصف القرن التاسع عشر حتى الان اي الفترة من 1863 التي تم استهلال التعليم المدني (الابتدائي) وتعليم الارساليات فيها . الى ان تم تكوين التنظيمات في الجيل 14:(1895 – 1925) نلاحظ انه منذها بدأت تتبلور المرحلة الليبرالية الوطنية التي رافقتها تأثيرات الافكار الوحدوية (وحدة وادي النيل) واليسارية والقومية العربية حتى 1985 وصولا الى مرحلة المركزيات الاثنية الراهنة (جبال النوبة – جنوب السودان – شرق السودان – دارفور ) .
نلاحظ ايضا على المرحلة السابقة . اي الجيل 13 🙁 1865 – 1895) أي جيل الاستنارة – اذا جاز لنا استخدام هذا التعبير – الذي شهد جملة من التحولات التاريخية الصعبة , فقد كانت الأصداء المتلاشية للسقوط المدوي والمروع لمملكة سنار لا تزال ترن في مسامع هذا الجيل الذي اضطهد الاحتلال التركي المصري طليعته المثقفة , وقام بحملات تصفية واسعة النطاق في اوساطها . ثم جاءت المهدية لتحاصر من تبقى من الطليعة المثقفة باعتبارها البحر الكبير الذي يغمر موارد الماء الصغيرة !!!..
(6 -9) :
وببسط الاحتلال الانجليزي المصري لهيمنته على انقاض الدولة المهدية ادرك الفقهاء والشعب ان التغيير الذي حلموا به انما هو برق خلب , حال سماء الغزاة في كل زمان ومكان لا تمطر سوى الرصاص .

وباستئناف التعليم الابتدائي وافتتاح كلية غردون التذكارية (جامعة الخرطوم فيما بعد ) بدأ الجيل 14 – الذي اشرنا اليه فيما سبق – عهد التنظيمات اذ حدث تغيير جوهري مهم في هذه الحقبة , لم تعد الطليعة المثقفة هي تلك الطليعة التي انتجتها الثقافة التقليدية (الفقهاء الازهريين او الذين درسوا في خلاوى القرآن ) ثمة طليعة مثقفة جديدة هي التي تتلقى تعليم مدني سرعان ما ستتشكل وتستثمر معارفها الجديدة .
ولذلك جاءت المقاومة للمحتل عبر الجمعيات الادبية والوطنية والشعر والغناء , فبرزت في هذا السياق حركة اللواء الابيض (1924) تعبيرا عن اشواق الجماهير للحرية . مثلت حركة 1924 علامة فارقة , اذ حولت مفهوم المقاومة للظلم من اطارها ومفهومها التقليدي الاصلاحي الديني بزعامة رجال الدين منذ الجيل المؤسس(1505) الى حركة مقاومة سياسية يقودها خريجي التعليم المدني والعسكري (علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ ورفاقهم في جمعية اللواء الابيض ) . هذا التحول العميق سيلقي بظلاله على تاريخ السودان بعد الاستقلال (التحالف المستمر بين العسكر والمثقفين المدنيين = عبودوحزب الامة 1958 نميري والحزب الشيوعي 1969 عمر البشير والترابي 1989) .
هذا التحول الذي احدثته ثورة 1924 في الدمج بين مفهومين مختلفين (المثقف المدني) و(العسكري) خلق لاحقا – في تقديري الخاص – نوعا من العلاقة الملتبسة بين القوى السياسية المدنية والجيش . في الفترات التي تلت الاستقلال .(7 – 9) :
هذا التحول العميق لمفهوم المثقف في السودان , والذي احدثته ثورة 1924 هو ما فتح – ايضا – الرؤى والابواب لنشؤ مؤتمر الخريجين فيما بعد 1938 . لذلك أتصور أن عصر التنظيمات ممتد في الجيل التالي اي الجيل 15 :(1925 – 1955) , فقد بدأت مجهودات رائد التعليم الاهلي بابكر بدري , التي استهلها في 1910 في الاثمار , كما ان المدارس انتشرت .وتلقى البعض تعليما مدنيا في كلية غردون ومصر واوروبا وهكذا برز دور المثقف الليبرالي الى السطح بقوة متمخضا عن نضج الجمعيات الادبية والاجتماعية .
كانت هذه المرحلة التي بدات ملامحها تتضح في العشرينيات من القرن الماضي مرحلة قوية لجيل ما بين الحربين العالميين , ستظل تلقي بظلالها حتى الستينيات التي تمخضت عن ( جبهة الهيئات ) التي كانت في احد اوجهها محاولة لفك الالتباس في مفهوم (المثقف ) (العسكري) .

فعاليات جيل ما بين الحربين العالميين التعليمية والتوعوية والفنية والثقافية والادبية , عبرت عن نفسها في الشعر والغناء لتصل ذروتها في ثورة (1964) ..
كما كانت تعبر عن نفسها منبريا من خلال مجلة الفجر وحضارة السودان ..
اذن منذ 1924 طبعت الحركة السياسية والثقافية اهداف استقلالية من كل تبعات الاحتلال . تم التعبير عنها باشكال مختلفة من خلال التجمعات الطلابية وتضامنيات الجبهة الوطنية المعادية للاستعمار ومنتديات وجمعيات واحزاب المثقفين وتاسيس اولى الراديكاليات الشيوعية .وهكذا من جدل التلاحم برزت رؤى جديدة في تأويل النص الديني (محمود محمد طه) مختلفة عن التاويل التنقليدي , فمع محمود محمد طه كانت الحرية هي القاعدة التي ينهض فيها الاسلام , وكان العقل – لا الوجدان فحسب – مصدرا للحصول على المعرفة .لا يقل اهمية .

هذا الزخم في الرؤى والأفكار والنشاط وصل الى مداه معلنا طرد المستعمر من داخل البرلمان في 1956 .
( 8 – 9 ) :
وهكذا تبدأ مرحلة جديدة من تاريخنا الوطني مع الجيل 16 : ( 1855 – 1985) فقد برز دور المثقف الى السطح بقوة اكبر في كل مناشط الحياة , ووصل ذروته في ثورة اكتوبر 1964 . الشعبية الهادرة. التي اطاحت بحكم الفريق عبود – الذي كانت قد تمت مباركته من حزب الامة في 1958 – لكن يلاحظ على هذه الفترة أيضا ان دور المثقف مثلما برز بقوة من خلال الطلاب والاحزاب السياسية وجبهة الهيئات (التكنوقراط) انحسر فيما بعد كذلك بقوة , اذ سرعان ما انسحب معظم جيل ما بين الحربين العظميين الى الوراء مفسحا الطريق لصعود جيل جديد يحتوي على الوان الطيف السياسي المختلفة . فهذه المرحلة تجاذبتها أشواق اليمين الطائفي وتطلعات اليسار( الشيوعي والقومي العربي) والقوى الاسلاموية التي كانت قد اكملت تشكلها في “حظيرة” الطائفية , فغادرت هذه الحظيرة , معلنة بدء المذابح السياسية والعسكرية , والمذابح وسط المثقفين بصورة عامة ( اتهام الطالب شوقي , بمعهد المعلمين بالردة 1966 – وطرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان على خلفية هذا الاتهام . واعدام عبد الخالق محجوب سكرتير عام الحزب الشيوعي واعضاء في حزبه في 1971, ولاحقا اعدام محمود محمد طه 1984 تطبيقا لحد الردة , فمحاكمة البعثيين الاربعة بذات التهمة 1984,واعدام 28 ضابطا اثر انقلاب رمضان 1990الخ ) مع تنامي هذه الاتجاهات في التفكير لعدة عقود واستمرار تشجيع الأحزاب للعسكريين للانقلاب على العهود الديموقراطية قصيرة االامد , وتقويض الروح المدنية التي لم يشتد ساعدها , تم اشتراع اكثر الاليات جذرية في الفترة من الستينيات حتى الثمانينيات من القرن الماضي لتصفية المثقفين , سواء كان بالدعاية المضادة أو الإعدامات العسكرية وإعدامات ما أطلق عليه نميري” العدالة الناجزة” .
وهكذا بدا دور المثقف في التراجع . خاصة ان السبعينيات مثلت بدايات الاغتراب والهجرة المنتظمة من داخل السودان الى خارجه . لياتي عقد الثمانينيات وتجد الحركة الاسلاموية المسرح مفتوحا لها دون مقاومة فاعلة , اذ عملت منذ المصالحة الوطنية في 1976 على احتواء نظام نميري وتصفية المثقفين واضفاء مشروعية لهذه التصفية التي تم استخدام نميري اداة لتنفيذها .
هكذا اخلت الحركة الاسلاموية المشهد من المثقفين الفاعلين في الحركة السياسية , وأضعفت المثقفين المحتملين المتبقين ممن بقدرتهم مقاومة خطابها التلفيقي فعم الفساد الاسلاربوي بدمج التنظيم في جهاز الدولة ومؤسسات الاقتصاد الوطني . وغيرها من الامور التي تكفي لادانة الحركة الاسلاموية دون محاكمة والعمل على اجتثاثها نهائيا .
اذن اشرت اواخر الستينيات على بدايات الغياب الفاجع للمثقف العضوي . ما جعل المرحلة التي تلتها اي منذ 1985 تعج بمتناقضات وتعقيدات عجز المثقف المنهك نتيجة القمع والتشريد والحياة السرية تحت الارض من التصدي لها .
فهناك ضغوط كبيرة تعرض ويتعرض لها المثقف في السودان , فالاجهزة الامنية تلاحقه كونه اداة تحريك للجماهير وقادة الاحزاب المعارضة يسعون جاهدين لاقصاءه وتهميش دوره , ففي لا شعورهم ان المثقف يشكل تهديدا مباشرا لمراكزهم الحزبية – كثيرون هم السياسيين الذين لا يجيدون السياسة كفن وتخصص قائم بذاته , باعتباره احد انماط الثقافة , ومعظم السياسيين السودانيين انخرطوا في العمل السياسي بدوافع ذاتية او قبلية او طبقية او بيوتاتية دون ان تكون لهم دراية كافية او فهم عميق لماهية الفكر الذي يؤطر فعلهم السياسي في المجتمع , على عكس المثقفين – بسعيه للكشف عن جهلهم او تعرية فسادهم واخطاؤهم .
كذلك التيارات الاسلاموية تترصد المثقف فتدبج الفتاوى بحقه اما تهديدا او تغريبا عن المجتمع , بحيث انه اصبح من الصعب على هذا المثقف المحاصر من كل الاتجاهات ان يتمكن من اشعال ثورة حقيقية .
(9 – 9 ) :
هل لنا ان نتساءل بعد : كيف آلت الامور الى هذا الدرك ؟!..
لقد مثل نظام نميري 25 مايو 1969 اخطر العلامات الفارقة في تاريخ السودان الحديث , وفي اوضاع ومتناقضات وخطابات وحروب ومؤثرات يعاني منها السودان والمثقف السوداني حتى الان , فنتيجة للقمع المايوي تم اضعاف المثقفين لاقصى حد , وعلى الرغم من واقع الاغتراب والهجرة خارج السودان والتشريد داخله تبلورت النخب المثقفة – سواء من تبقى في الداخل او الذين فضلوا النفي الاختياري او الاجباري – اكثر بكثير مما كانت عليه في الاجيال السابقة , بحيث استقطبت جماعات مثقفة ومتخصصة لتؤثر في العقل المركزي للسودان سواء كان من خلال منتجاتها الفكرية التي تمكنت من تأسيس مساحات نشطة وفعالة او بدورها في قيادة او توجيه او إلهام قوى سياسية مطلبية (الهامش) ..
وهكذا برزت ادوار فعالة بحكم عدد من اليات التطور والانفتاح على الثقافات الغربية . لكن رافق ذلك زيادة نفوذ الاسلاموية , دون حاجة للاستتار خلف العسكر كما في عهد نميري , بل تم تسخير المؤسسة العسكرية لحماية ظلاميتها العلنية دون حرج ..

هوامش :

(1) دكتور سيار الجميل . الانتلجنسيا العربية . رؤية معرفية في بنية الاجيال . مجلة الديموقراطية . العدد 18.القاهرة 2005. ص : 17 .

(2) دكتور حيدر ابراهيم علي . المثقفون : المفهوم والتكوين في السودان .مركز الدراسات السودانية .القاهرة 2001 ص : 10

(3) تيري اينغلتون . اوهام ما بعد الحداثة . ترجمة ثائر ديب . الحوار اللاذقية . الطبعة الاولى2001ا.ص : 173

(4) أنظر : دكتور سيار الجميل . المجايلة التاريخية في فلسفة التكوين التاريخي .نظرية رؤيوية في المعرفة العربية الاسلامية . طبعة اولى بيروت – عمان الاهلية للنشر 1999.

(5) دكتور سيار الجميل . الانتلجنسيا العربية . رؤية معرفية في بنية الاجيال . مجلة الديموقراطية . العدد 18.القاهرة 2005 ص: 43

(6) دكتور حيدر ابراهيم ” مرجع سابق” ص : 50
(7) السابق ص : 57
(8) نفسه ص : 62
(9) نفسه ص : 63
الحوار المتمدن – العدد: 1612 – 2006 / 7 / 15

شاهد أيضاً

حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال

أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …