الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / المشروع النهضوي الحضاري العربي …ملاحظات نقدية بين المفكّر فيه والمسيّس له

المشروع النهضوي الحضاري العربي …ملاحظات نقدية بين المفكّر فيه والمسيّس له

كنا ننتظر انعقاد ندوة مركز دراسات الوحدة العربية حول تأسيس مشروع حضاري عربي منذ سنوات ، بل وأذكر أن الفكرة قد انبثقت عام 1992 في إحدى ندوات المركز الذي كان وسيبقى عزيزا على قلوبنا ، ولم تزل ” الفكرة ” مسجلة في ادبياته وعلى لسان أحد المؤرخين العرب الشباب !! وكنا نتابع شأن إعداد هذه ” الندوة ” المباركة على غرار الكثيرين من الزملاء الأعزاء في أرجاء وطننا العربي الكبير ، وكنا نفرح أحيانا بما يحصل من تطور ونتأسى أحيانا أخرى على ما يبدو من إخفاق .. واخيرا ، سمعنا بأن الندوة قد انعقدت في الشهر المنصرم بمدينة فاس المغربية وبحضور نخبة فاضلة ومباركة من المشاركين ، فباركنا للمركز جهوده الخيرة . ولكن تألمنا جدا لعدم دعوة البعض من الاخوة المختصين العرب للمشاركة أو حتى للحضور من بلدان معينة مثل : لبنان والعراق والكويت والإمارات وتونس والجزائر وغيرها علما بأن بعضهم قد أثرى الحياة العربية بكتاباته وسجالاته عن المشروع النهضوي العربي ومسائل التحديث والتمدن ، ومن الأجدر أن يكون من المؤسسين لا من المهمشين!
وليدعني المركز ممثلا بشخص الأخ الصديق الدكتور خير الدين حسيب أن أسجل ملاحظاتي النقدية التالية من اجل مصلحتنا القومية العليا قبل أي شيء آخر ، ومن أجل أن يكون مشروعنا العربي المستقبلي مشروعا حيويا وصادقا وصريحا وحضاريا له قيمه ومنطلقاته الحقيقية ، ولكي أذكّر بأن هناك من كان يتابع الأمور عن كثب مع جملة من أصدقائه وزملائه ومحبيه الذين شاركوني الأفكار نفسها في أكثر من مكان من الأرض العربية ، بل وشددوا على مصداقيتها ، واغلبهم ممن شاركوا معنا مسيرة مركز دراسات الوحدة العربية لأكثر من عشرين سنة !
من أجل مشاركة كل الأطياف
ليس هناك من أسباب حقيقية على إخفاق أي مشروع عربي حقيقي لتقدم هذه الأمة ورفعتها بين الأمم على امتداد القرن العشرين ، إلا عندما تصبح تلك ” المشروعات ” الكبرى بأيدي فئة من السياسيين أو في ظل بعض الكتاب المنحازين أو التوفيقيين أو المتطرفين ! ولا أستطيع أن اسمي هؤلاء بـ ” مفكرين ” حقيقيين لأن الفكر ورحابته وحقائقه أكبر بكثير جدا من السياسة وخنادقها وألاعيبها ومستنقعاتها ، وان رجال العلم والنقد أكبر بكثير من الانحياز والتلفيق والمواربة ! وليس إخفاق نتائج تلك ” المشروعات ” التي تبنتها أجيال عربية ثلاثة في القرن العشرين إلا بسبب ضعف بداياتها وانطلاقتها .. لأن البداية أو المنطلق سيحددان مبادئ المنهج القوي والصارم الذي ستعتمده جملة عريضة من المؤهلين للممارسة والتطبيق وصنع القرار ! ولم يكن الفشل مصاحبا لأي مشروع يتقدم به أصحاب الفكر والتخصص والعلوم والفنون من العلماء والفنانين المبدعين ، إلا لكونه اعتمد منهجا انحيازيا غير علمي البتة وغير حيادي البتة وغير متكامل البتة ! وطالما أضاع السياسيون فرصا ثمينة في حياتنا العربية بعد أن ظهرت وتبلورت عندهم مشروعات كبيرة مهما كانت طبيعتها وفلسفتها ومرجعيتها ، كونهم يحسبونها حسابا آنيا بعيدا عن أية رؤية استراتيجية وتاريخية بعيدة المدى ! وكونهم يحسبونها حساب الربح والخسارة في الظرف الذي يعيشونه ! أو انهم يحددون عملهم ضمن أطر ومرجعيات تفكير سياسي أحادى مهمشين بذلك كل المنطلقات والأفكار ومتناسين كل الجهود والمواقف والتيارات الأخرى سواء كانت ليبرالية أو راديكالية أو حتى دينية !
وطالما ينشد الجميع مصالح العرب أجمعين في بناء المستقبل ، فلابد أن تجتمع تحت مظلة أي ندوة تبحث في تأسيس مشروع عربي مستقبلي كل الأطياف وكل المرجعيات وكل التيارات الفكرية واستحضار كل أدوات العلم والنقد من اجل بناء مبادئ أساسية لأي مستقبل عربي ننشده ! وان يتقدم الجميع أولئك العلماء والمبدعون الأحياء الذين أثروا بفكرهم وجهدهم وتآليفهم واعمالهم وإبداعاتهم الحياة الفكرية العربية .. ومادام أي مؤتمر أو ندوة يتبناه مركز رصين ، مثل مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت صاحب الأهداف القومية والمستقبلية ، والذي انفتح على امتداد حياته على كل التيارات الفكرية ، بل وأسهم في إثراء النزعة الديمقراطية ، فلابد أن يؤسس أولئك المختصون البارزون والعلماء والمبدعون الحقيقيون القاعدة الأساسية القوية لأي مشروع حضاري مستقبلي للامة بدل تغييبهم أو تجاهلهم ! خصوصا إذا ما علمنا بأن هناك عددا من العلماء العرب الذين كانت لهم جهودهم وأتعابهم وقراءاتهم وتقييماتهم في إثراء مركز دراسات الوحدة العربية على امتداد عشرين سنة ببحوثهم ودراساتهم في مجلته والمشاركة في ندواته .. ووصل الأمر ببعضهم أن يتبرع من ماله الخاص تشجيعا وتقديرا له .. أو حتى دعوة رموز بعض أولئك الذين اختلفوا عن توجهات المركز منذ نشأته وحتى الآن ولم يقدموا شيئا إليه .. ما دام المشروع عربيا استراتيجيا يخص مصالح الجميع في أرجاء الأمة قاطبة ، فلابد أن تشارك فيه كل الأطياف ممثلة برموزها المبدعة الفكرية والعلمية ومن جميع أرجاء الأمة ، ذلك لأن موضوع الندوة ليس سياسيا بقدر ما هو فكري تتنوع فيه الفلسفات والاتجاهات والمضامين .
بين المفكر فيه والمسّيس له !
ولما غدا العالم صغيرا جدا اليوم ، ونحن نعرف كم تفرق العديد من علمائنا ومفكرينا العرب الممتازين المهاجرين في أشتات الأرض من دون إرادتهم ، فلابد أن تكون أصواتهم موجودة وحاضرة للاستفادة منهم من كل الوجوه ، بدل حضور البعض من أصحاب مناصب يشاركون في جلسات مهمة جدا بصمتهم أو هز رؤوسهم ، بل وفي اكثر الأحيان يغطّون في نوم عميق بعيدا عن فهم التحولات لدى الأمم الأخرى على ابعد تقدير أن لم يذهب بعضهم للتسكع في شوارع المدينة المضيفة ! وطالما كان مركز دراسات الوحدة العربية قد نشر لبعض المختصين والمفكرين أعمالهم وأفكارهم ورؤاهم في مجلته وكتبه عن المشروع الحضاري والتحديث والإصلاحية والنهضة ، فهم يتساءلون أيضا عن إحجام المركز عن دعوتهم للمشاركة أو على الأقل للحضور ، وفاء منه لجهودهم الطويلة علما بأنهم قادرون على تحمل تكاليف سفرهم واقامتهم وهم معروفون ومبدعون ومن بلدان عربية عدة ! نحن نريد من المركز الذي أثرى الحياة الفكرية العربية على امتداد ربع قرن ، وقد تعلم جيل كامل على ادبياته العلمية الرصينة أن يبقى في المقدمة دوما مادامت منطلقاته وأهدافه نظيفة ونزيهة وعلمية بالدرجة الأولى وان يبقى كما تأسس لأول مرة يجمع تحت مظلته كل الأطياف وكل التيارات والاتجاهات الفكرية العربية بعيدا عن كل المواقف الشخصية والتشنجات السياسية ، ولا أظن أنه كذلك أبدا .
كما ونتمنى أن يبقى محصنا في ذروة الشأن العربي العام من تلاعب البعض بمقدراته وأن يجتمع الجميع تحت مظلته بعيدا عن كل التوجهات الخاصة.. كما ونتمناه أن يجدد دمه من حين إلى آخر ، خصوصا وان ساحتنا العربية تشهد اليوم بروز عدة مبدعين من علماء وأدباء ومفكرين حياديين لهم صدقيتهم العربية ويريدون أن يوظفوا زمنهم بعد أن استحوذ أبناء الجيل الماضي على كل الأزمان وبعد أن خدموا الأمة بإمكاناتهم وقدراتهم الأولى ! وربما اختلف مع من يعتب على المركز انه يبقى دوما في دائرة أسماء معينة ، ولكنني اختلف هنا مع من يعاتب ، لأن المركز جمع لفيف رجال فكر ورؤية ربما ابتعدوا عنه اليوم .. إن احترامنا كبير لكل المشاركين والمساهمين ، ولكن لا يمكن أن يستوي من له باع فلسفي طويل وعميق في الموضوع مع من ليس له إلا الكتابات السياسية والمقالات السردية والمناصب الحكومية ، ذلك لأن دراسة المشروع الحضاري تتطلب فهما معمقا لنسيج معقد ودقيق من العلوم والفلسفات والأفكار والتجارب والبنى !! وكم ذهبت جهود عربية رائعة أدراج الرياح لأن الحدود لم تقم عربيا حتى اليوم بين المفكّر فيه وبين المسّيس له ! وأقولها مخلصا لله ولتاريخ هذه الأمة وأجيالها القادمة وبصراحة متناهية بان هناك من يتشبث بالفكرة القومية وهو يحارب حقيقة هذه الأمة ويحارب مفكريها وعلماءها ومبدعيها لأنهم الأقوى والاجرأ في قول كلمة الحق ، ولأتهم الأكفأ والأجدر في ميدان العلم ونقد الأخطاء وتشخيص المثالب .. من اجل مشروع حضاري فاعل في حياتنا العربية .
المشروع بين المتغيرات والتحديات
إن ندوة استراتيجية كبرى عن تأسيس مشروع مستقبلي لهذه الأمة لابد أن تتجاوز في خطتها ومن خلال اللجنة المنظمة لها حالة النهوض إلى حالة التحضر ، وللتحضر أبعاد طالما افتقدها أولئك الذين صموا آذانهم عن حقائق الأشياء وهم يتقوقعون في بناء خطة تقليدية ومستنسخة لم تعد بنافعة البتة هذه الأيام ، فقد مر قرن كامل بأجياله العربية الثلاثة على استخدام مفهوم النهوض والنهضة وسيمر قرن كامل والجميع يلوك هذا المفهوم من دون أي تفكير بما تحتاجه الأمة من آليات التحضر وأساليبه ومناهج التحديث والتفكير فيه إزاء كل التحديات المصيرية التي ستواجهنا وفي مقدمتها : إسرائيل ومشروعها الصهيوني في قلب الأمة . وان ندوة كبرى يحضّر لها على مدى سنوات كان الأجدر أن تنأى جملة وتفصيلا عن إنشائيات فضفاضة لبعض السياسيين المؤدلجين ( مع احترامنا لأي أيديولوجية عربية خدمت الأهداف الحقيقية للامة العربية ) الذين لا يعرفون من الوحدة العربية ـ مثلا ـ إلا صياغة تقارير تاريخية عن تجارب وأحلام رومانسية فاشلة .. أو لا يعرفون من المشروع الصهيوني العنصري إلا بضعة تعابير صحفية من دون إدراك حقيقي لتحدياته في الماضي والحاضر والمستقبل .. الخ
كثيرا ما عقدنا الندوات العربية تلو الندوات والتي لا تنتهي جلساتها إلى شيء يمكن أن يؤثر في صناعة تاريخنا الذي يريده البعض مجردا من كل القيم والمعاني والأفعال العملية البراغماتية .. وكثيرا ما عقد العرب ندوات باسم المشروع النهضوي العربي لكي يقولوا ويتكلموا وينفعلوا كثيرا من دون أن يعملوا ويفعلوا ويؤثروا في شيء من الأشياء ، كما يؤكد ذلك أحد الزعماء البناة العرب المعاصرين ! وكثيرا ما نهتم بالأشكال والدعايات والإشاعات والمسردات والرومانسيات والكتابات الإنشائية الفضفاضة من دون التحقق بالمباني ونقد المعاني وفحص المضامين ! وكثيرا ما نفترق فكريا على توافه الأمور ، وتحل أمزجة العلاقات الشخصية بديلا عن علاقات العمل والتفكير المتبادل والرأي الآخر ، وبعيدا عن مواجهة الأخطاء والاعتراف بها وتصويبها أو مجابهة الخطط الذكية للأعداء الحقيقيين .
ما العمل ؟
السؤال الذي لابد أن نعالجه دوما : ما العمل وما العلاج إذن في إطار مشروع حضاري ؟
دعوني أقول : ليس هناك حلا سحريا واحدا يمكنه أن يجعل العرب بين عشية وضحاها في أعالي الذرى ! ومن المضحك المبكي أن يعقد العرب ندوة كبرى من اجل مشروع عربي نهضوي حضاري لمستقبلهم وهم يلوكون خطابات الماضي القريب بكل غرائبه وعجائبه كي يبقى الجيل الجديد يسمع المعزوفات القديمة التي لا تنتهي إلى شيء ذي معنى ! وهنا لا أريد أن أشكك بصدقية أي ندوة عقدها مركز دراسات الوحدة العربية .. لا أبدا ، وانما أريد أن الفت الأنظار إلى حاجتنا الماسة لاعادة التفكير بأعمالنا وأفكارنا ومشروعاتنا ، ونكون أشداء في نقد بعضنا بعضا ، وان لا نغيّب عن قصد من كانت الندوة بحاجة أساسية لهم ولأفكارهم ورؤاهم ، وخصوصا في تأسيس هكذا مشروع .
وعليه ، فهل من أسلوب حضاري متميز للعرب اليوم وهم مازالوا يناقشون ما يسمّى بالمشروع النهضوي ؟ وهل للعرب فتح اجتهادي جديد من اجل نقد الأساليب وتشخيص الأخطاء وتبيان العلل وإشاعة المقترحات والإبداعات ؟ وهل للعرب القدرة في الاستجابة الحقيقية للتحديات المريرة التي بدءوا يعانون منها ؟ وهل سارعوا لتنفيذ خطة معينة في الشراكة الحقيقية من اجل مستقبل الأجيال القادمة ؟ ولعل أهم ما يمكن الشروع به ضمن إطار بناء أي مشروع حضاري عربي هو نقد الذات دون هوادة نقدا جادا وأخلاقيا من دون الاستماع إلى نغمة البعض في تخدير الأوضاع تحت ذريعة ” جلد الذات ” والإبقاء على ما هي عليه الوضع ! تلك ” النغمة ” التي أشاعها الرومانسيون الحالمون دوما بالتفاؤل من دون أي حذر للمصير الذي ينتظر أجيالنا القادمة في الثلاثين سنة القادمة .
إن أي مشروع حضاري للعرب لا يمكن أن يبدأ إلا من خلال إعادة التفكير النقدي على أيدي نخبة جديدة من القادة والمختصين والمفكرين العرب الذين يمكنهم مهما بلغت بهم درجة الاختلاف المعرفي لا السياسي .. طرح محاولات جديدة لوضع حلول عملية للمشكلات المستعصية التي تلم بالدواخل العربية ، ومحاولة الخروج من عنق الزجاجة الضيق الذي انحسرت في أعماقها ضغوطات الحياة الصعبة وتراكماتها من السلبيات وخصوصا إبان العقدين الأخيرين من القرن العشرين ، مع الأخذ بنظر الاعتبار حالة المتغيرات الجديدة التي طرأت في العالم كله ، وقد نتج عن كل ذلك نسيج معقد من المصاعب والتناقضات الصارخة والتراجعات المخيفة التي لابد أن يدركها الجيل الجديد ويعي خطورتها ، بدل تغييبها في متاهة من التزويرات السياسية والإنشائيات الفضفاضة تحت مسميات شتى .. وان أي محاولة لزرع الأمل في أمة لها كل مقومات النجاح والازدهار لا يمكن أن تتم بمعزل عن الشروع منذ هذه اللحظة بتنفيذ جملة من الاشتراطات والمستلزمات الضرورية ، والعودة بالزمن العربي كي يمشي نحو الأمام بدل تراخيه وتفككه وتراجعه إلى الوراء ! متمنيا على مركز دراسات الوحدة العربية أن يتأمل قليلا في ملاحظاتي الصادقة وهو يعرفني تمام المعرفة مزاملا وصديقا منذ سنوات طوال ويدرك حرصي الشديد على تقدم هذه الأمة ورفعتها متمنيا للمركز ولكل الاخوة الأعزاء فيه النجاح والتوفيق .

نشرت في جريدة النهار البيروتية ، العدد الصادر في 24 أيار/ مايس 2001.

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …