الرئيسية / الرئيسية / العراقيون في عصر الظلمات

العراقيون في عصر الظلمات

 

مدخل

اهدتني  الاخت العزيزة والزميلة الفاضلة  الدكتورة  جمان مكي كبة  نسخة  من كتابها الجديد الذي وصلتني نسخة منه بالبريد وعنوانه : ” عصر الظلمات  : التعليم  في العراق  بعد عام 2003 ”  ، وقد نشرته هذا العام  2017  ، والكتاب  يتألف  في محتوياته  من مقدمة  وثلاثة فصول  ..   وهو  يمثل  حصيلة  تجربتها المريرة  في العراق  الجديد ، وكانت  السيدة  جمان كبة  متفائلة  قبل  اكثر من عشر  سنوات  بالتغيير  وقد حلمت  مع الحالمين  بولادة  عراق  جديد متقدم  جدا  في المنطقة  ، ولكن  الواقع  كان  ينذر  بمخاطر  سوف لا  تبقي ولا  تذر  بوصول  طبقة  سياسية  جاهلة الى حكم العراق  وتمكنها  منه  وفرض  ارادتها  بقوة الاخرين على  المجتمع وبمساعدة سياسات الاحتلال الامريكي  وتدخلات  سياسات اخرى    ، فنحرت  ما تبقى  من مؤسسات  الدولة  وخصوصا  مؤسسة التربية  والتعليم العراقية  التي  وصلت  الى  الحضيض  ..

في كتابها  الذي   اكملت قراءته خلال الاسبوعين الماضيين  ، ذهلت  من  تسجيل  الدكتورة  جمان  معلوماتها  كشاهد  عيان  على  غرق العراق في بحر الظلمات كما اسمت  ذلك  بنفسها ، تقول :  ” انه ليس ظلما ولا غبنا ولا مبالغة بأن أقول نحن  نعيش  في عصر الظلمات ” ( ص 19 )   . نعم ، ان كتابتها  موضوعات هذا ” الكتاب ” يأتي  مصوّرا  الحالة  المخيفة  التي  يعيش عليها المجتمع العراقي  في  اشد  ازمنته ظلمة  وقهرا ،  والكتاب يعبّر  تعبيرا حقيقيا  عما  وجدته مؤلفته بنفسها فيه ، وشاركت  بخبرتها  في اقتحام  منظومة  صلدة  متخلفة على اشد ما  يمكن  من التخلف  والتردي  .. تقول : ” فاليوم يصدم المرء ويصعق بما يراه من جهل واخطاء تصل الى حد الخطايا ، تسود اعلى المستويات في الدولة واعلى الدوائر الحكومية ، ولا أحد يأبه ، تدهور  التعليم ولم تعد المنظومة التعليمية قادرة على ان تنشئ جيلا صالحا واعيا ملتزما بالعلم ، ومدركا للمخاطر  التي تحيط به  ، وتحيط بالوطن  .. ” ( ص 17 )  .  وذلك بوقوف  المتخلفين  والجهلاء  ليقولوا ” كلا  لتطوير التعليم ”  وكيف  عالجت  د. جمان  سايكلوجياتهم  الصعبة  ومستوياتهم الضحلة  وهم يتقلدون المناصب  العليا  في حين  لا  يتمتع هؤلاء جميعا  بأي  نزر  حتى  ولو  كان يسيرا من  الاسلوب  وحسن التفكير  وقوة الحجة  وروعة الاخلاق  واستخدام اللغة  وفقدان التهذيب  مع  شخصياتهم المهزوزة  التي لا يستقيم  الاصلاح معهم  ، كونهم  جميعا من الفاسدين الذين  يقفون  حجر  عثرة  امام  المصلحين   ..

الانهيار  الاخلاقي

لم  يعلم  العراقيون ان  التعليم  هو اثمن ما  يمكن تأسيسه  في العراق  وهو  اغلى من النفط  ، وأهم من السياسة – على حد  قول  د. جمان كبة –  وان  الانهيار  في منظومة  التعليم  قد  بدأ منذ زمن  بعيد  جراء النكبات والكوارث  والحصارات وصدمات الالام  والتخبط  في السياسات وسلسلة  الحروب الدموية  ..  وقد  انهار  كل  شيئ  بعد 2003 ، اذ لم  يعد الخلاص  من المخرجات  السيئة  بفعل  المدخلات  الرديئة  ، وبفعل  عجز  الانسان  وضعف شخصيته  وقلة  معرفته  وفساده في مجتمع  كان لابد ان يؤهل  خلال مرحلة انتقالية  على التغيير  والحركة المغايرة مع  وقوف  رجال  اكفاء  ونسوة  متميزات  على  مرافق التعليم  والتربية  في المدارس والجامعات  العراقية ليس لتغيير المناهج فحسب  ، فتغييرها  سيكون عبئا  ثقيلا  ما لم  يتغير  النظام التربوي والتعليمي من  اساسه  ضمن متغيرات النظام  المدني  الذي  يحكم  المؤسسات  في الدولة  التي يستوجب ان تكون في خدمة  المجتمع  . وهنا يبدأ  دور الكادر  المؤهل  ليدرك  طبيعة  التغيير  وقدرته على  توظيف تلك  المناهج  ..  ولكن  ضاعت انفاقات  كبرى  في بحر  من  السيئات  جراء  صعوبة  التعامل  بين العراقيين  انفسهم  ، ففضلا عن الفساد  ، فثمة  سلوكيات  تشمئز  منها  الانفس  النظيفة  ،  سلوكيات  تتصل  بالاثرة والانانية والتدنّي والاستعراضات  الشخصية للعضلات  ،  وسرقة  الافكار  وتشويه  الروح التعاونية  بالاستحواذ  والانفرادية  وابقاء  التقاليد  البالية  ..  الخ  والانقسامية  والتعامل  التمايزي   بين  ابناء المجتمع  .. ومحاربة الكفاءات  على  اسس غير  وطنية  ، ومحاربة  كل  العراقين من ابناء  الخارج  ( ص 20 )  ..  والاساءة  للمرأة  اذ  لا  ينظر  اليها الا من زاوية  واحدة  ويبدأ  هذا  مع التعامل الذي  يميز  الاولاد عن البنات  وغرس العقد النفسية  في وجدان العراقيين من اجيالهم الجديدة  ..  وتكون النتيجة  تخريج  شخصية  هزيلة  منغلقة  منكفئة  متخلفة  وبليدة  ولا  تعرف  الا  ممارسة  التقاليد  البالية  التي تربت عليها !

الشخصية  المرعبة

ان تجربة مريرة  خاضتها د. جمان كبة  في كتابها  وهي تحكي  قصة  وجودها  مستشارة  وخبيرة  في وزارة  التعليم العالي  في العراق  هي  حالة  من المعايشة  مع  منظومة  فاسدة  ومتهالكة  فضلا  عن  صعوبة  اصلاحها  بوجود  مثل  هذه العقليات الصلدة  وهي على رأس  هذه المنظومة  فضلا  عن يأسها  من  التغيير  الا  ضمن  شروط  جديدة  ، وتقدم  خلاصة  في الفصل  الثالث  بعنوان  يمكننا  انقاذ التعليم  بعد كل هذا الانهيار  الحاصل  . ولعل  اعادة  تأهيل  المعلمين  والمدرسين  من اولى  شروط التغيير  .. ناهيكم عن  مقترح  د,  كبة  بايقاف  وتجميد  العمل في الدراسات العليا  في الجامعات العراقية  كونها  ساحة  تعّج  بالمتخرجين  مع  العمل على منح  زمالات الى  دول ومجتمعات متقدمة  تعيد تأهيل  كوادر  جديدة  على اسس  جديدة  وللمبدعين  العراقيين  فقط .  تقول المؤلفة : ”  العراق وقع في مستنقع ، وهو ما زال حيا ، ولكنه سيغرق الا اذا انتشله أحبته وانقذوه من هذا المستنقع زز ” ( ص 20 )  . لقد  ضاع كل المخلصين  وتاه  كل الاوفياء  وتشوهّت الشخصية  العراقية  تقول  المؤلفة : ”  وقد  يستغرب  الجميع  عندما اقول  بأن هذه  الامور  _ اي  انقطاع الكهرباء  والماء  وسوء  الاحوال المعيشية  – مثلت لي اهون الامور  من  كل ما  شهدته في العراق  . نعم ،  كل ذلك  يهون عندما نتحدث  عما  هو  أصعب من ذلك  بمئات المرات ، الا وهو العمل  في اجواء  اللامهنية  التي نتجت  عن المحاصصة  السياسية ( المستحدثة  بعد 2003 )  والاجواء المعادية  للعلم  والمهنية  والصدق  والنزاهة ،  والعمل بوجود المتسترين  على الفاسدين  الذين  يحيطون بك  من كل صوب  ، ووجود ” المدراء ”  و ” المسؤولين ”  المطيعين  لمن أعطاهم  المنصب  من حزب  أو عشيرة  أو دولة اجنبية ، واجواء المصالح  الشخصية  ومزاجية  المدراء  والمسؤولين  ونرجسية  الجهلة  . تمثل  هذه الاجواء  اصعب  واخطر  أمر  للنزيهين والصادقين  ولكل شخص  مهني علمي  اعتاد  على الشفافية والاخلاص  ، وبالخصوص مثل من لم يكن  قد عمل  في العراق  سابقا  ، ولمن لم  يعتد  على العمل  في ظل هذه الاجواء ” ( ص 25 )  . وتستطرد في مكان آخ قائلة : ”  ان اغلب  الامور في العراق  تدار  بطريقة المزاجية  والمجاملة ”  ”  ( ص 31 )  ..  وعليه نتساءل : ما نوع هذه الشخصية  الغريبة  التي  تحكم  العراق  وجعلته مستنقعا  آسنا  راكدا  ؟  وماذا  ستنتج  من كوارث  على امتداد  جيل  او ثلاثة  قادمين ؟  خصوصا  وان المؤلفة  تقول  في مكان آخر  :  ” لم اسمع  قط  أن شخصا  اعترف  بتقصيره او  بخطئه ” ( ص 32 ) . وتستطرد  في مكان آخر : ”  فقد  حصلت  من الغرائب والعجائب  التي تخالف  ليس فقط´ العلم والعقل  بل حتى  ابسط  مبادئ  الذوق  العام والحياء ” ( ص 40 )  .

لقد قدمت  د. جمان تحليلا  رائعا للشخصية  العراقية  الحالية  في كتابها المومى اليه  منتهية  من  معاناتها  في التعامل  مع  تلك الشخصية  النافذة  اليوم في العراق قائلة : ”  اعتبرها  من اصعب التجارب  في حياتي ، طريقها  ملئ  ليس بالاشواك  وحسب  وانما ايضا  بالمخاطر  من كل صوب  . فالذي  يسعى  بكل شراهة  وجنون وراء مصالحه الشخصية  – أو  مصالح  من أتى  به الى المنصب –  هو كائن متوحش  ، لا يحكم عقله  ، ولا مانع  لديه – كما  رأيت بأم عيني – من الكذب  أو الغش  أو الخديعة  أو تقديم  التقارير  الكاذبة  او الحاق الاذى بالاخرين  أو بالوطن ” ( ص 43 )  .

تدمير البنية الفوقية

وتقول : ” اننا نشهد اليوم تدمير التعليم الذي اسسته الاجيال التي سبقتنا والذي تعلمنا  من خلاله  منذ الصغر  ، والذي كان يعد في السابق ناجحا ومتميزا الى حد ما ، ولا داع لوصف ذلك بالتفصيل فجميع الاجيال السابقة تدرك ذلك ، فكل الاطباء والاساتذة  والمهندسين  والصيادلة  والفنانين والمعماريين  العراقيين  ومختلف الكفاءات الاخرى  الموجودين  داخل وخارج العراق  ، هم نتاج  ذلك النظام التعليمي الرصين  الذي اسسته اجيال سبقتنا  ، بل  حتى العديد من قادة الدول العربية  من اساتذة  ومعلمين  ومهنيين  درسوا في العراق  او تعلموا  على يد اساتذة  عراقيين في مرحلة ما ” ( ص 45 )  .  واضيف  بل  هناك  قادة  دول  وضباطا وادباء  وشعراء  وفقهاء  ورجال قانون  واقتصاد  .. الخ

نموذج من الفشل  الذريع

اثار اعلان نتائج  امتحانات الباكالوريا  في العراق  للعام 2017  وتدنيها  الى  نسبة 28 %  ، اسئلةى  كبيرة  جدا  ،  ولم  يجد  الناس  اجوبة  شافية  ، خصوصا  وان  العراق يمر  بظروف  صعبة  جدا منذ  سنوات  ، وخصوصا  بعد  الاحتلال الامريكي  عام 2003  وما وجد من مشكلات  عمت  كل  اصقاع العراق  .  واذا  كانت  نتائج  التوجيهي في الاردن  قد  تدنت ايضا  هذا العام  الى  30%   ، ولكن وضعية التربية   والتعليم  في العراق  لها  مشكلاتها  البنيوية  الصعبة  بحيث  تمر  اليوم  الى  زمن  قادم  ليس بالقصير  بمرحلة  تعد  جزءا  لا  يتجزأ  من انهيار العراق  في كل المجالات  ، فلا  يمكن  ان  تكون منظومة التربية  والتعليم  في العراق  في احسن حالاتها  ،  وهي نتاج  تاريخ  طويل من التردّي  والسياسات الخاطئة  والممارسات  الرديئة  بحيث  وصفت  الزميلة  د.  جمان كبة  الحالة  في كتابها الجديد عندما  اسمته بـ ”  عصر الظلمات : التعليم في العراق  بعد عام 2003  ”  وقد كتبت كتابها الذي  نشرته  مؤخرا بناء على  تجربتها العملية كمستشارة في  مؤسسة التعليم  العالي بالعراق  ، وكشفت  عن  انهيارات  مريعة  من الفساد  شاسع المساحات  في منظومة  التعليم  في الجامعات ومن قبلها  منظومة التربية في المدارس  .. والحالة  تنتقل من سيئ الى أسوأ  يوما بعد آخر  .  لقد  اثار اعلان  نتائج  الباكالوريا  حالة  سخط  في المجتمع  ، ولأول  مرة  تهز  هذه ” النتائج ” جرس الخطر  ، فكل السنوات الماضية  كان المجتمع  يوهم  نفسه بالاكاذيب  كونه تعّود  على احراز  اعلى  المعدلات  .. وبدا  اليوم  يبرر  الفشل   بصعوبة الاسئلة  وصعوبة  تصحيح  الاوراق الامتحانية  ..

اصبحت  المدارس  الاهلية  الكثيرة  تساهم  في  تدني المستوى  العام  .  وتدنّي  مستوى  المعلمين والمدرسين  واساتذة الجامعات  ..  انتشار  التعليم الخصوصي  ..  انتشار  الفساد  والرشوة  وبيع الاسئلة    الاجواء  الساخنة  والصيف الحار  .. الظروف  صعبة   ..  محافظات  مسحوقة  ومحافظات آمنة  ..  كتب  منهجية ومقررة  غير  موجودة  ..

الخطايا  والفضائح  .. 

ومن  خطايا  ما يجري اليوم في العراق  : الادعاء  لهذا وذاك  انه  خبير  بشهادة  مزورة  او  استعراض  عضلات فارغة  . وهناك  مخالفات  صريحة  وعلنية  لمبادئ الامانة  العلمية  ، وهناك افتقار  مفضوح في اللغة  العربية  وانعدام  مشهود  في استخدام اللغة الانكليزية  او  اللغات الحية  .. وهناك  النرجسية الطاغية  والابهة الفارغة والانوية  والتفاخر  وتمييز  النفس  والسلوك المتعجرف  والشللية والتشفّي وهوس الزعامة  وغياب الصراحة  على  حساب  المجاملة  الفارغة  واستعراض العضلات  الطائفية  والعشائرية وصولا  الى  جرائم الفساد والرشوة وجرائم  الشعارات  وجرائم  القتل  ..  فمن  يصلح  مثل هذه الشخصية  الغريبة  اصلاحا  حقيقيا  ؟ من يقوم  بتغييرها  نحو  الافضل  ؟  اين هي المدارس  التربوية  الحقيقية  ؟ اين هو  المعلم  الحقيقي الجديد  ؟   اين  هو  الاستاذ  المتمكن  ؟   اين  هو  الفكر  المتمدن ؟   اين  هي الادارات  الممتازة ؟  اين هو   التفتيش  الدقيق  كما  كان  عليه  قبل  خمسين سنة ؟  اين هي المناهج  المتقدمة ؟

مقترحات ومعالجات

لقد نجحت  د. جمان  بكتابة  علاجات  ومقترحات للاصلاح  من اجل  تشكيل  جديد  للحياة  الترببوية والتعليمية  في العراق  وكيف  يمكننا انقاذ  ما  يمكن انقاذه  ، ولكن  ليس في مثل هذه الاجواء  التي  تسيطر عليها  منظومة  منحطة  وفاسدة  ومخربة  .. انها  علاجات  تنتظر  اجواء  صحية  نقية  من الشوائب  كي  نقوم  بدورنا  باتاحة  المجال  للاصلاح والتغيير  والاتفاق على  تغيير  كل الحياة العراقية  مع وقوف  منظمات  دولية  معنا  وان  يحكمنا القانون  في  اتاحة  الحريات  للعلم والمعرفة  والتركيز  على  الاخلاق  والكفاءات  الحقيقية  لا المزيفة  وان  يقضى على  المشاكل  من خلال لجان عمل  واعادة  تأهيل الكوادر  وتأهيل كل العاملين  واعادة  النظر  بمنح الشهادات  الدنيا  والعليا  من جديد  فضلا  عن اعادة  النظر  في  الدرجات العلمية  التي منحت  في العراق  منذ  سنين  وتأهيل  المبدعين  للزمالات  والبعثات  والبحث  في الحوافز  ..  والنظر الى  المستقبل  من وجهة  نظر  علمية  ودنيوية  ..

تنشر  على  موقع الدكتور سيار الجميل

https://sayyaraljamil.com/wp/

 

 

 

شاهد أيضاً

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …