الرئيسية / افكار / وباءٌ يجتاح الزمن العربي

وباءٌ يجتاح الزمن العربي

الواقعية ليست غطاء للخطيئة، فإن كان الواقع موبوءاً فينبغي تغييره بأي ثمن، ولا تغيير بلا حلم، ولا ثورة من دون تعارض، ولا تقدّم من دون نقد وحوار، ولا ديمقراطية بوجود رعاع، وقد جمعتني قبل أيام مناسبة، كنت أتمنى أن نخرج منها كما كنّا في الماضي، مستمتعين بمزيد من الأفكار، وثمار حوار نقدي ممتع، ولكنني صدمت بما سمعته من أصدقاء أعزاء قدماء، ما كنت أظن يوما أنهم سينحدرون انحداراً بائسا في مثل هذا الزمن الصعب، نحو مستنقع طائفي آسن.
إنهم يتكلمون باسم الواقع والواقعية، بهدف تكريس الخطايا التي تعمّ حياتنا، بل ويتخذون من هذا تبريرا لما يعجّ به واقعنا من تمزقات طائفية، لم يعهدها أبدا وجودنا السياسي والاجتماعي والثقافي من قبل، إنهم يدركون جيدا حجم الفوضى التي تجتاح حياتنا العربية، ولكنهم يدافعون عن كارثة انقسامية قائمة بذاتها، من أجل الإبقاء على حكومة طائفية هنا، أو سلطة طائفية هناك، أو تلميع أحزاب وقوى طائفية تعمل من أجل إبقاء الانقسامات وتأجيج الصراعات، والحل عندهم أن ينقسم العراق ثلاثة أجزاء، وأن تبقى معاناة السوريين إلى أبد الآبدين، وأن يتشظى لبنان كما كان، وهكذا تهترئ مصر، ويلتهب اليمن ويتفجّر الخليج، لا سمح الله!
وجدتهم قد احترفوا الكراهية وتوارثوا الأحقاد، ويمقتون البلاد العربية التي احتوتهم ومنحتهم البيوت والرواتب والعيش الكريم. وجدتهم يتهمون كل من يخالفهم بشتى التهم، كون ذاك الغير معارضا لطائفية أو جهوية أو سياسات تشرذم واحتلال. لقد أصبحت الطائفية وباء هذا العصر العربي، بحيث تجدها وقد وصلت إلى البيوت فدمرّت زيجات، وحطمّت أنسباء، وقطعّت أواصر علاقات، وفرقّت بين الأصدقاء والأخلاء.
الطائفية مرض قاتل يجتاح مجتمعاتنا جراء سياسات، ونظم، وإعلام، ودعايات، وتصدير خطب ومؤدلجات، وخصوصا نحو مجتمعات مثل سوريا والعراق ولبنان والبحرين ومصر، وهي تتباين من هذا البلد إلى ذاك. والطائفية داء وبيل، بدأ فعله من خلال إجراءات سلطوية تسلطية وسياسات دينية أيديولوجية، وهي تتوالد وتنتشر جراء أفعال وردود أفعال عنيفة، مارستها أحزاب وقوى وميليشيات، وجدت في أحضان هذه الدولة الدينية أو تلك الإمبراطورية المذهبية.
الطائفية لم يكن لها وجود قبل خمسين سنة من اليوم، بحيث لم يكن المرء يسأل الآخر عن طائفته أبدا، بل ومن المعيب أن يتشدّق الإنسان بها، أما اليوم، فقد غدت ظاهرة بدائية يتبارى فيها المثقفون قبل السياسيين، ويتفنّن في أدائها حتى من عدّ نفسه من ذوي الاختصاص! الطائفية كانت حالة مسكوتا عنها، لأنها حالة شاذة غريبة عن المعاصرة وحياة العصر، ولكنها باتت اليوم معلنة ومفضوحة، وربما يعبّر عنها بأساليب ماكرة وخبيثة، بل ويتهّم حتى من ينتقدها كونه من الطائفيين!
لا أفهم كيف يؤمن بالطائفة أي مثقف يحترم نفسه، ولا أدري لماذا تفجّر هذا المكبوت لديه في مثل هذا الزمن؟ ولا كيف يخفي المرء نفسه سنين طوالا وراء حجب مستترة، ويأتي اليوم كي يدافع عن طائفة معينة أو مذهب ينتمي إليه؟ لا أدري كيف يدافع «مثقف» عن طائفة دينية، وهو لا يصلي ولا يصوم، بل ويدّعي إيمانه بمنطق العصر؟ لا أدري كيف يقبل مثل هذا الإنسان يهوديا، أو مسيحيا، أو بوذيا، أو مجوسيا.. ولكنه يكره مسلما من طائفة أخرى كراهية عمياء؟
لا أدري كيف أن يساريا أو شيوعيا أو تقدميا صرف حياته في النضال وقرأ الديالكتيك، وهو اليوم يصفق لدستور طائفي أو سلطة طائفية أو حزب طائفي؟ لا أدري كيف يتشدق ملحد بأفكاره البائسة وهو يحقد على غير طائفته حقدا دفينا؟ لا أدري كيف يدعو أمثال هؤلاء إلى المشاركة والتعايش، وهم يحملون في أعماقهم كراهية لا يمكن تخيلها لأبناء وطن واحد؟ لا أدري كيف يستحضر الطائفيون ذاكرتهم التاريخية المريرة، وتعيش معهم أحداث وشخوص عفا عليها الزمن ليجعلوها أدوات جاهزة لهذا العصر؟ لا ادري كيف يتغلّب عندهم التاريخ المأساوي والسلبي على التفكير المعاصر وايجابيات التاريخ؟ ولا أدري كيف يؤمنون بالديمقراطية، حسب زعمهم، وهم يوالون، بل ويخضعون مراجع دينية هنا أو هناك؟!
إنهم غير قاصري الفهم، ولكنهم أصحاب أفق ضيق جدا. إن معاناتنا اليوم ليست مع الفوضويين والمفضوحين والطلقاء، ولكنها مع الطائفيين والخداعين والمتحجرين، وخصوصا أولئك الذين يخفون أنفسهم وراء أستار الديمقراطية والدستور والواقع. يريدون أن نؤمن بواقع فاسد، وتحوّلات مأساوية، وأفكار انقسامية، إنهم لا يريدون التغيير ولا يريدون المصلحة الوطنية ولا يريدون حياة العصر. إن الطائفية عندهم أهم من كل الاعتبارات والقيم، وليذهب العالم إلى الجحيم. أصبح الوطن عندهم عملة عتيقة، يريدون تجديدها على مقاساتهم، الواقعية عندهم تخندق وانقسام وصراع، وتربّص بالآخر وإقصاؤه وتهميشه.
والوطنية عندهم اغتراب، والقومية عندهم شوفينية، والحياة عندهم محاصصة، والديمقراطية عندهم توافق، والسلطة عندهم احتكار، والأحزاب عندهم أديان، والتغيير عندهم استحالة، والشعب عندهم مكونات من ملل ونحل، والأخلاق عندهم طقوس، والحوار عندهم سباب واتهامات وشتائم، والحداثة عندهم حرام، والثورة عندهم جريمة، وصناديق الانتخاب عندهم خنادق، والقتل عندهم شريعة، والفن عندهم رجس من عمل الشيطان، والقانون عندهم مجرد فتوى، والعلم عندهم تهريج، والفلسفة عندهم كفر وإلحاد..
فهل نصفق يا ترى لواقع كهذا، أم نقرأ معا ونعمل معا من أجل مدينة فاضلة، حلم بها العظماء؟
نشرت في البيان الاماراتية ، 9 مايس / ايار 2012 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وايضا على الفيس بوك ( صفحات الدكتور سيّار الجميل ) .

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …