الرئيسية / مقالات / ثورات الأمل أم مصالح الأرتال المضادّة؟

ثورات الأمل أم مصالح الأرتال المضادّة؟

عندما قامت الانقلابات العسكرية قبل أكثر من خمسين سنة في العديد من بلداننا العربية، اجتاحت مجتمعاتنا موجات من الابتهاج والتأييد ورواج الشعارات البراقة، من دون أن يدرك الناس ماهياتها وخلفياتها وطبيعة علاقاتها وارتباطاتها، في خضم الحرب الباردة التي كانت سائدة آنذاك بين معسكرين اثنين: أولهما يتمثل بالإمبريالية العالمية، وثانيهما يتمثل بالمنظومة الشيوعية، صفقت الجماهير العربية وأنشدت ورقصت في الشوارع لكل ما جرى من أحداث ووقائع وبطولات، وانتصرت الثورة الجزائرية التي حررت الجزائر من براثن الفرنسيين ، وحقق العرب استقلالاتهم الوطنية بعد نضالات تاريخية رائعة . وتوجّت الثورة القومية بالوحدة المصرية السورية، وقضي على حلف بغداد، وكان العالم كله مشحونا ضد الاستعمارين البريطاني والفرنسي، وهو يصفق لحركات التحرر في كل آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، على أمل تحقيق الانتصار باسترجاع فلسطين السليبة، فانطلقت الثورة الفلسطينية، وكانت قد انبثقت فلسفة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، الخ من المنجزات.
لم يدرك الناس وقت ذاك أن العالم يتغير بسرعة، وأن الانتكاسات ستتوالى، وأن الشرعية ستفتقد، وأن الدساتير ستدمّر، وأن الطغيان سيعمّ البلدان «الثورية»، وأن الشعارات المثالية كانت تطوف بها السلطات والإذاعات للتسويق المحلي، وأن الدكتاتورية ستنتشر في الأنظمة «الثورية»، وأن الجمهوريات الجديدة سيورث زعماؤها الحكم لأولادهم، وأن الفكر القومي سيضمحل دوره، وأن الفكر اليساري سيتلاشى أمره، وسيحل الفكر الطائفي بديلا عن هذا، وستؤسس دول على أسس مذهبية بديلا عن ذاك، وستنهار التوجهات التقدمية، وستكبّل الإرادات الحرة، وتضعف الأحزاب الوطنية لتحل مكانها نزعات تراجعية، وأجهزة أوليغارية وبوليسية ، وأحزاب تتسمّى باسم الآلهة، وأخرى تتحدث باسم المقدسات! ولم يكن العالم يصدق أن الاتحاد السوفييتي سيسقط وبمعيته كل المنظومة الاشتراكية، كي تستحوذ الولايات المتحدة الأميركية على كل الإرادة الدولية.
هنا نتساءل، وفي خضم هذا المناخ الجديد الذي فرضه علينا القرن الجديد: هل من الإنصاف أن تبقى إرادة الناس مكبلة بالحديد والنار كي يبقى الطغاة على عروشهم؟ هل من الحق أن يورث الزعماء الجمهوريون العرب الحكم لأولادهم؟ هل من العقل أن يبقى الظلم والاضطهاد سائدا في مجتمعاتنا، ومن خلال أجهزة قمعية، وأدوات ارتزاقية، وأحزاب طائفية لتقسيم الأوطان ومحاربة الأحرار، ووأد الحرية والعدالة والمساواة؟ هل من الضمير بقاء مؤسسات وسلطات هذه الدول منحصرة في أيدي أعوان وتابعين وشراذم وعصابات وميليشيات وكتائب وقوات أمن ومرتزقة وحزبيين .. يتحكمون في الموارد ويعيثون فسادا ويقمعون أي صوت معارض لهم؟ لقد أصبحت معارضة الثورات العربية اليوم لها أسبابها السياسية وعواملها البراغماتية، بعيدا عن أية مبادئ وبعيدا عن أية لوائح أخلاقية..
إن البعض يحابي بقاء هذه الأنظمة ويتشبث بوجودها، تحت ذرائع مبدئية أو مخاوف مستقبلية، ولكنها في الحقيقة تتعلق بمصالح حزبية، أو لأسباب طائفية، أو لعلاقات مشبوهة، أو لمصائر سلطوية.. ربما ينساق الناس للبقاء في دائرة الصمت، كونهم يجدون في التدخلات الدولية عاملا من عوامل الهيمنة الجديدة، أو أنهم يضعون علامات استفهام واستغراب جراء الشحن الإعلامي الذي يساهم اليوم مساهمة كبرى في تحقيق الأهداف الثورية ضمن المتغيرات السريعة على الأرض.
وتختلف المواقف باختلاف حجم التدخلات، لا باختلاف نوعية الطغاة، فلقد تدفق الناس في الشوارع لمعارضة الغزو الأميركي للعراق عام 2003، في حين صمتت الشوارع إزاء تدخل الناتو في ليبيا عام 2011! إنها رسالة إلى كل العالم بأن زمن الطغاة قد ولى إلى الأبد، وأن مجتمعاتنا تطمح لصنع إرادتها من أجل نيل الحرية مهما بلغ الثمن.. وأن الخوف من المجهول سوف لا يطعمنا ولا يسقينا، وأن الجزع من الفوضى سوف لا يثني الناس على الأرض العربية عن النضال ضد القهر والطغيان.. كما أن نموذج العراق لا يمكن أن يكون صورة مستنسخة لكل البلدان العربية التي تعيش اليوم ثورات وانتفاضات، ممثلة بنضالات هذا الشعب أو ذاك من أجل صنع مستقبل جديد.
ليعلم كل الذين لا يريدون التغيير، وليدرك كل الذين آثروا الصمت، بل وليفقه كل الذين يطعنون في كل الذي حدث في تونس ومصر وليبيا.. وما يحدث اليوم في كل من اليمن وسوريا والعراق، أن ثورات الناس في الشوارع، وسقوط الشهداء البررة، لا يمكن أن يدان بجريرة التدخلات الأجنبية، أو بتهمة التغطيات الإعلامية.. كما لا يمكن أن يقرن ما يحدث اليوم في هذا البلد أو ذاك، بالذي حدث في العراق، فالعراق قضية مأساوية تختلف تماما عن كل ما يحدث من ثورات، والعراقيون في طريقهم نحو الثورة، مهما بلغ حجم أجندات التزوير وكم الأفواه.
وأتساءل: لماذا الكيل بمكيالين في الوقوف إزاء تونس ومصر بمكيال يختلف تماما عن مكيال الوقوف إزاء ليبيا وسوريا؟ إن هذه «المسألة» تعّبر تعبيرا حقيقيا عن الانقسام السياسي والصراع الأيديولوجي بين معسكرين اثنين: معسكر مبادئ صرفة لمجتمعات عربية مسحوقة تطمح للتغيير من أجل مستقبل جديد، ومعسكر مصالح إقليمية وطائفية وسياسية صرفة تؤمن بها أرتال وطوائف وسلطات وتشكيلات وأجهزة ومنظمات وأحزاب وجماعات وبقايا أصنام، تريد إبقاء القديم على قدمه، كي يبقى الوضع على حاله، ومن أجل أن يظلّ الإنسان مسحوقا، والموارد مضاعة ، والدكتاتورية قائمة، ولكن هيهات، فلقد سبق السيف العذل، إنه صراع واضح الأبعاد بين المبادئ التي يؤمن بها الناس، وبين المصالح التي تعمل من أجلها الأرتال المضادة، إن إرادة الحياة ستنتصر مهما كانت الأثمان، ومهما بلغت الأثقال.

نشرت في البيان الاماراتية ، 14 سبتمبر / ايلول 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …