الرئيسية / الشأن العراقي / وطن موّحد أم صراع مكوّنات؟

وطن موّحد أم صراع مكوّنات؟

كثيراً ما أشبه العراقيين منذ زمن طويل، بأنهم يمتدون في جوف واد عميق جدا، وتفصلهم عن النخبة الحاكمة مسافات شاسعة، تلك “النخبة” التي تعيش في قفص مغلق لا تعرف كيف تفتح أبوابه، وقد أسماه الأميركان لهم بالمنطقة الخضراء! إن من حق أي مواطن عراقي أن يعمل من أجل بلاده ليقدم خدماته إليها، ولكن أن تصبح العملية منحصرة داخل قفص لا يستطيع أي أحد الاقتراب منه، كونه مجموعة دبابير يأكل بعضها بعضا اليوم.. ومن الأعراف التي يألفها كل العالم أن من يفشل في سياسته، لا بد أن يشعر بأخطائه ويعترف بها، ويفسح المجال لغيره ليقوم بدوره، إذ ليس من الأخلاقيات الديمقراطية، أن تكبّل الحريات، وتقمع التظاهرات، وتمتلئ السجون والمعتقلات، علما بأن الانتماء للوطن ليس لعبة سياسية، بل هو قضية مبدئية، فأي عاقل يؤمن بمثل هذه الديمقراطية الكسيحة التي تلتقي عندها كل التناقضات في بؤرة واحدة؟ إن مثل هذه “الحالة” ليس لها إلا تفسير واحد، هو السعي المحموم للسلطة والقوة والنفوذ والمال بأي ثمن كان!
إن النخبة التي تتزعم العراق اليوم، لا تمثّل كل القوى السياسية والوطنية والمدنية، حتى إن كانت قد وصلت السلطة بواسطة صناديق انتخاب خدعت بها الناس، فهناك قوى سياسية أخرى، انسحقت بين الأرجل! صعدت النخبة بإرادات خارجية، كي تجد نفسها تملك العراق، وغدا أفرادها طغاة وطفيليون، فعرفهم الشعب من تصرفاتهم وتوجهاتهم وارتباطاتهم، بل وكانوا أغبياء في الإفصاح عن طائفيتهم وارتهان إرادتهم.. إنهم يمثّلون أحزابهم وقواهم باسم “المكونّات”، فهم لا يمثلون الشعب العراقي أبدا، وهم لم ينجزوا أبدا أي قانون للانتخابات، كي يبقوا قوى متنفذة ومستحوذة على كل العراق.. إنهم لم يعدّلوا دستور البلاد، لأنهم يتبادلون المصالح في ما بينهم على حساب مستقبل وحدة البلاد ومصيرها.. إنهم لا يعنيهم أي قانون للأحزاب، كونهم خاطوا العراق على مقاساتهم، وكأنه أصبح ملكا لهم إلى الأبد! إنهم ما زالوا يتحدثون باسم “المكونات” التي بعثرت كل العراق، وهتكت وحدة مجتمعه.. إنهم يغيرون شعاراتهم ومبادئهم ، كما يغيرون ملابسهم، يتلونون كما تتلون الحرباء في الصحراء، أو يتبدلون كما تتبدل البضاعة في السوق! أين المبادئ ومضامينها؟ هل أن الإعلانات والشعارات باستطاعتها تغيير ما تحتويه المضامين، ليصبحوا علمانيين فجأة بعد أن كانوا دعويين.. أو يصبحوا دولة قانون بعد أن كانوا ينادون بولاية شريعة؟ لقد أثبتت الأحزاب الطائفية العراقية كلها، فشلها الذريع في قيادة العراق، وسيكون المخاض صعبا إن بقي ممثلوها لا يعبرون إلا عن أهداف أحزابهم، من دون أي مشروع وطني موحّد يعمل على إنقاذ العراق من انسحاقاته.. ومن دون الإتيان بنواب عراقيين تهمهم مصلحة العراق، لا أي مصالح أخرى، يدافعون فيها عن كل العراقيين من دون طوائفية ولا جهويات ولا مكونات ..
لقد شهدنا كم كانت هناك قرارات عقيمة وساذجة وبليدة، ولم تزل هناك قوانين لا يريدون تشريعها كونها تقلب الطاولة على الرؤوس التي لا تعرف الانسجام، بل تعرف كيف يأكل بعضها بعضا، وعند الشدائد ينسون صراعاتهم ليكونوا جوقة واحدة من أجل السلطة! قوانين عدة ينتظرها الناس منذ سنوات تخص : الأمن الداخلي.. الانتخابات.. الأحزاب.. التقاعد.. الخدمة العسكرية.. إصلاح التعليم.. النفط.. المواد الخاصة بالأقاليم.. إصلاح الدستور، إصلاح الخدمات، وإعمار البنية التحتية.. الخ. لقد ضاعت على مدى عهد الحكومة السابقة خمس سنوات مهمة، كان لا بد للعراق خلالها أن يتقدم خطوات إلى الأمام. ولم تخفت حدة الصراعات التي خلقتها القوى السياسية والأوليغارية التي كانت ولم تزل تسّيرها إرادات خارجية وإقليمية.. أما مسألة الاحتلال، فلا أعتقد أن النخبة الحاكمة تطمح لزوال الاحتلال الأميركي عن التراب العراقي، بل هناك من يطالب علنا بإبقائه لأسباب وتبريرات شتى!
لقد مرّ على العراقيين أكثر من ثماني سنوات عانوا فيها من بشاعة الطائفية التي آذتهم وكل المنطقة، جراء احتداماتها وصراعاتها الأهلية، والانقسامات التي يذيعها السياسيون الجدد باسم “المكونات”. خطط خبيثة قد مزقّت العراق شر ممزّق، وهم يدركون أنهم خلقوا ليحكموا عراقا مفككا مهلهلا، بواسطة الأحزاب الطائفية (مهما اتخذت لها من أسماء جميلة) التي هي وبال على البلاد وأهلها. إن المحاصصات والتوافقات والتحالفات، هي غير الديمقراطية الحقيقية التي لا يمكن أن تمارسها أحزاب طائفية وعنصرية، وقوى عسكرية مليشياوية.. الديمقراطية الحقيقية لا يمكنها أن تقوم إلا من خلال أحزاب سياسية مدنية وطنية، يضمها جميعا “مشروع وطني” يؤمن بمبادئه وأسسه الجميع، ويختلفون في الاجتهاد والتطبيق.
لقد تعلم العراقيون أن الكثير من القوى السياسية مرتبط بأجهزة دول أخرى، بل وأن سياسات مجاورة تطبق في العراق لأهداف مجهولة لا تصب أبدا في صالح العراق والعراقيين! لقد تعلم العراقيون أن الفساد لم يزل يعشش عاليا عند أغلب المسؤولين والموظفين في الدولة، .
وكنت أتمنى أن يحاسب كل مسؤول فاسد أو مختلس، حتى بعد هروبه، من خلال محاكم تحكم عليه غيابيا! لقد تعلم العراقيون أن العراق كان ولم يزل ساحة لتصفية حسابات خارجية وداخلية.. ويدفع ثمنها أبناء الشعب العراقي من دمائهم وأعمارهم ومستقبل أبنائهم! سيبقى العراق مذبوحا من الوريد إلى الوريد، ما دام هناك احتلال همجي له من هذا واختراق خطير من ذاك.. سيبقى العراق مسحوقا، ما دام يعيش من دون أي مشروع وطني يوحده في الاتجاه والرؤية نحو المستقبل.

نشرت في البيان الاماراتية ، 20 يونيو / حزيران 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل ،
www.sayyarajamil.com

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …