الرئيسية / افكار / من يُسكِت تفكيرنا؟ من ينهش مجتمعاتنا؟

من يُسكِت تفكيرنا؟ من ينهش مجتمعاتنا؟


الارتداد نحو الماضي
لقد ارتدت مجتمعاتنا إلى الوراء كثيرا، وبطريقة غير متكافئة لا في الزمان ولا في المكان، وهي تواجه يوما بعد يوم تحديات تخلقها بنفسها من خلال التناقضات التي تعيشها تربية وتفكيرا وأسلوب حياة، فلا تجدها تعيش حاضر هذا الزمن بكل تنوعاته وتطوراته، ولا تساهم بحل معضلاته كونها لا تدرك مشكلاته وتحدياته.. كما ولا تجدها تمتلك أفكارا وأحلاما ومخيالا ورؤى جديدة للمستقبل! إنها تعيش الماضي بكل أبعاده.. تهتك زمنها في سبيله! تتعبد في محاريبه! تقتل طاقاتها وقدراتها من اجله! تفني مواردها لإنعاش تقاليده! المشكلة أن الناس لا تمتلك الوعي بالقطيعة بين الماضي والحاضر! والمشكلة الأكبر، أن التي يسمونها بنخب فكرية وتربوية قلما تمتلك ذاك الوعي أيضا، بل هي تساعد في دمج الزمن لا القطيعة عن ماض بات يشكّل عبئا ثقيلا علينا، وكأننا اليوم دمى في مجتمعات تعيش القرن الواحد والعشرين، لكنها لم نزل شخوصا تقبع عقولنا ومشاعرنا في حلبات العصور الوسطى!
لا أقول أن المجتمعات الأخرى قد أنكرت ماضيها، بل أنها نجحت في فصله عن تفكيرها، كي تتفرغ لمعالجة حاضرها والانطلاق نحو المستقبل.. ولكن بدراية وفهم ووعي لكل الماضي من خلال تاريخ تزداد فيه المعلومات وحجومها، وتقل فيه وجهات النظر واستعراضاتها. إن ما نجده اليوم من سيطرة الماضي وكتاباته وعاداته وتقاليده وأساليب التفكير فيه، إنما يعمي البصيرة والبصائر، بشكل لا يمكن تخيله. السؤال: هل كان مثل هذا النزوع بمثابة رد فعل تاريخي على ما انتشر قبل خمسين سنة من أيديولوجيات ثورية في المجتمعات العربية؟ لا اعتقد ذلك، إذ أن تلك الايديولجيات كانت قد غازلت الماضي، بشكل أو بآخر.. بل وجعلته مادة غير منفصلة عن الحاضر.

النقد ضرورة ووعي ومنهج
لقد مضى أكثر من مائة سنة، ونحن نبتعد يوما بعد آخر عن معاصرتنا، بل وغدا أكثر الناس تقدمية يتراجعون إلى الوراء في هذه الأيام، وقد كثر التخندق باسم الدين تارة وباسم المذهب والطائفة دوما آخر بعد أن فشلت كل المؤدلجات القومية والتقدمية والحركية في تحقيق الحد الأدنى من شعاراتها التي نادت بالحداثة والتقدم وإحراق المراحل.. الخ، وهي لا تزال بصدد قتل تأسيس أي مشروع حداثوي، بوقوفها بالضد من هذا الأفق الذي يستوجب إعادة تأسيسه، وأفترض أن جهودا مطلوب تكريسها، حتى تثمر في النهاية عن مساحة نظرية متميزة داخل مجال الفكر المعاصر. إن السؤال الذي يجترّه كل مجتمع من مجتمعات الشرق الأوسط، وخصوصا في إطار التفكير في كيفية النهوض والتنمية والتحديث: كيف تستطيع تلك المجتمعات تجاوز تأخرها، وما آلت إليه أوضاعها اليوم؟ وسؤال آخر يقول: هل يهمهما التفكير في إمكانية تحقيق تواصل بين الذات التاريخية وبين عالم يحفظ لتلك الذات قوتها ومكانتها، ويسمح لمجتمعاتنا بالتعلم من الآخرين دون إحساس بالدونية من قبلهم إزاءنا، ودون إحساس بأننا في مرتبة أدنى من الآخرين.. وأيضا من دون أي إحساس بالمكابرة الفارغة من قبل مجتمعاتنا ضد الآخرين في هذا العالم.
إن الجامع النظري لكل مجتمعاتنا في المنطقة، هو المنهج التاريخي النقدي، الذي يعد ضرورة أساسية، وان يعطيا اعتباراً وافياً لمسألة القطيعة بين الأزمان، وان الناس ينبغي أن تعرف جيدا أن الأزمان تختلف من عهد لآخر، ومن حقبة لأخرى، ولا يمكن أن نأسر ذواتنا في بقايا الماضي، وأن لا نقدس ترسباته، وعلينا أن نواجه مشاكلنا، وأن نواجه ذاتنا بالنقد وليس بالتمجيد، فإذا كان ماضينا قد غرق بالمشكلات، فما بال مشاكلنا في الوقت الراهن..؟؟ إنها على الأقل بحاجة ماسة إلى كثير من النقد والمعالجات الصرفة. يقول الأستاذ المؤرخ عبد الله العروي، وهو فنان روائي أيضا، بأن “المنهج المفيد والمطابق هو أن يضع الدارس نفسه، لا على مستوى المخلَفات الهامدة بل على مستوى الوعي المتحرَر من ثقل الأعمال الموروثة والمتأهب لتأسيس ثقافة جديدة في قلب المجتمع الثائر. وهذا الوعي النقدي، المتخفف من كلَ إرث، أوليس حضور المستقبل في الحاضر؟” ( الايدولوجيا العربية المعاصرة. المركز الثقافي العربي: 2006، ط 3، ص 27).

تاريخ واحد أم تاريخان؟
إن احد ابرز أسباب تأخرنا، هو تاريخنا ليس إلا، وكل بقاياه وترسباته التي لم تزل تفتك بنا، فلقد جعلنا أصحاب علاقات متوترة مع كل العالم من الناحية الموضوعية.. وان تراجعنا عن أي مشروع نهضوي أو تقدمي أو حضاري.. يكمن في عوامل أشعلها الماضي، ولما تزل تلك ” العوامل ” تلتهب حتى يومنا هذا! إننا أمام انقسام اجتماعي ( وحتى سياسي وسلطوي ) إزاء الماضي، فهو منقسم بين اتجاهين، طرف يجعله تليدا مجيدا كله مفاخر وعظمة وأمجاد وانتصارات.. وطرف آخر يجعله اسودا فاحما مظلما، يسوده الاستبداد والقهر والظلم والعذابات والانتهاكات والغزوات.. وأقسى ما نجد التصنيفين المتصادمين في العراق الذي يعيش حتى اليوم حالة صراع طائفي واحتراب ماضوي بين طرفين، ولكل طرف من يقوم بالدفاع عن وجهة نظره إزاء الآخر! هنا علينا أن نسأل: هل نمتلك تاريخا واحدا ام تاريخان؟ ما دام الانقسام قد اخذ أبعادا سياسية وإعلامية وثقافية ليس في الحياة العراقية التي تفجر فيها هذا الماراثون الأعمى، بل في الحياة العربية كاملة.

اكبر دكتاتور مسلط على مجتمعاتنا
إن مجتمعاتنا ليست كتلك التي توقفت عن النمو الحضاري وتيبست وذوت، بل هي قادرة على استعادة قوتها من جديد، بدليل حيويتها وفعالياتها إلى حد قريب بأسواقها وتجاراتها وفنون أبنائها ونخب مثقفيها وفئات مهنييها وقوة وشائجها، ولكنها غدت اليوم، مغرقة بعوامل الضعف التاريخية التي تجعلها متأخرة دوما، إنها عوامل تشد مجتمعاتنا نحو الوراء دوما.. وخصوصا ما حصل في الثلاثين سنة الأخيرة بحيث تراجعت فكرة التقدم والتطور إلى حيث الكسل التاريخي، واجترار الماضي وصراعاته! لم يعد التفكير بممكنات الحاضر والسعي نحو الثورة والتغيير، بل الخمول في إطار ما ترسّب عن الماضي، واشتعال الصراع سياسيا حول أحقية أي طرف في الماضي ضد الطرف الماضوي الآخر.
وعليه، فلقد غاب عن التفكير النقدي كل ما أنتج في الثلاثين سنة الأخيرة من خطاب يشكله مقول قول: فلسفات وأفكار ونظريات وروايات وقصائد ومقالات الخ.. فضلا عن غياب نصوص أجنبية لثقافات متنوعة، لم تجد الأعمال اليوم من يقوم بتعريبها، كما كان يجري سابقا، إذ تترجم إلى العربية لتغني المعاصرة والحداثة من خلال الثقافة والاهتمامات الثقافية. لقد نجح ” الماضي ” وأنصاره من الماضويين الغلاة أيضا بتحول اهتمام مجتمعاتنا من الأدوات الثقافية وكل صنوف الإبداعات المعاصرة بكل اتجاهاتها ومدارسها.. إلى ركام من الشعارات السياسية، والمركبات التقليدية وسذاجات ما يضمه التراث من كتب ( تفسير أحلام ابن سيرين مثلا ).. غابت الموجة النقدية هنا وهناك.. غاب الاستيعاب التاريخي للماضي، إذ سيطر الماضي على فهم التاريخ.. لم نعد نجد منظورات جديدة، ولا إبداعات صوتية جديدة، ولا فلسفات حديثة للحياة، ولا مقطوعات أدبية، ولا مشروعات نقدية، ولا مسرحيات معمقة، ولا مجلات ثقافية حقيقية ينتظرها الناس بداية كل أسبوع أو بداية كل شهر..

مجتمعات واهنة بين زمنين..
لقد أصبحت مجتمعاتنا اليوم تعبد الشاشة التلفزيونية وقنواتها الفضائية بما يقدّم عليها من مسلسلات رمضانية، وأحاديث رجال دين خالية من أية معاني، أو ومواعظ متوازنة، وثرثرات سياسية وجداليات عقيمة خالية من الفائدة.. أصبحت النخب مغرمة بالتحليلات السياسية باسم الديمقراطية، وهي لا تعرف معاني الديمقراطية، وكلها مغرقة بالأكاذيب وإنشاء كلام لا معنى له.. أمست المدارس لا تعتني بالمواهب، ولا بالكشافة، ولا بالجماليات، ولا بمعاني الحياة الجديدة.. أمست المناسبات الوطنية مكروهة لدى العامة، وحلت بدلها المناسبات الماضوية.. اختفت روح المناسبات الدينية والمذهبية ومعالمها الهادئة، وأصبحت ميادين فوضى وقتل زمن وجمود حياة. لقد اختلفت مجتمعاتنا كما عاشت عليها الأجيال السابقة، وغدت المناسبات الدينية والمذهبية مجرد ساعات نوم، أو سهر، أو شيشة، أو حفلات رقص وتهريج غنائي، أو مجاذيب يهلوسون ويدورون حول أنفسهم.. الخ أو تجدها مآتم حزن، وبكائيات وعزايات وقرايات ولطميات وضرب بالسلاسل وتطبيرات الخ.. فهل ستنتبه مجتمعاتنا إلى ما آلت إليه أوضاعها اليوم، وخصوصا في ظل انقسامات مذهبية وطائفية، بحيث غدا المغالون والمتطرفون والمتعصبون من كلا الجانبين، يذكي الصراع في مجتمعاتنا.. والانكى من ذلك كله أن تساهم فيه دول وسياسات وحكومات ووزارات وسفارات وقنصليات ومراكز ( دراسات )، والمحزن من ذلك أن هناك البعض ممن يحسب نفسه مثقفا يشارك في إثراء هذه الجهالة ببث روح الانقسام بين أبناء المجتمع الواحد، ومزورا للتاريخ، ومشوهّا للمجتمع، وهدفه أن يزيد من التنكيل بهذه المجتمعات، بحيث أن الضرورة عند العقلاء، تقضي بتجاهل مثل هذه الانقسامات التي حدثت في الماضي ولأسباب سياسية.. وقبل أكثر من ألف سنة. فما بال مجتمعاتنا تعيش مثل هذه البلادة؟ ولكن هل بمقدورنا أن نعيد وضع كل شيء ضمن منظور جديد؟

هذا ما سنحاول معالجته في مقال قادم .

نشرت في ايلاف الالكترونية ، 18 تموز / يوليو 2010 ، وبعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …