الرئيسية / افكار / نحن أسرى القرن العشرين

نحن أسرى القرن العشرين

طلب منى بعض الزملاء أن أنشر في أسبوعياتى «على ورق الورد» فى روزاليوسف الزاهرة، خلاصة ما كانت قد تضمنته ورقتي عن «التكامل الثقافي العربي إزاء العولمة»، والتي نشرها معهد الدراسات والبحوث العربية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة منذ سنين ضمن أعمال ندوة المعهد، وأزعم أن تلك «الورقة» النقدية المتواضعة قد سعت حثيثا إلى تحليل مأزق التأخر والتخلف الذي منى به العرب في القرن العشرين، وخصوصا في نهاياته الصعبة على ضوء ثورة المعلومات العميقة المعاصرة.. ولقد تضمنت تلك «المحاولة» – سواء في مدخلاتها المنهجية، أو في تحليل ونقد ومعالجة المضامين الواسعة، أو في الخروج ببعض المقترحات والآراء- التوصل إلى فهم ما يحتاجه العرب اليوم عند مطلع القرن الحادي والعشرين من مشروعات في التغيير الحضاري على مستوى الرؤية الذهنية والتفكير من أجل الوصول إلى مستوى معين في الارتقاء الثقافي Cultural Evolution في مجتمعاتنا التي لا تتجانس ثقافاتها نظرا لخصوصيات كل بلد عربي.. تلك «الخصوصيات» التي لم تعتن بها كل الحركات القومية العربية !
إن كل جهد عربي لابد أن ينصب أساسا ويسعى دوما لاختزال التطورات التي حصلت في مجتمعات أخرى بدءا من التفكير العلمي وصولا إلى التفكير «المرقمن» – إن صح التعبير والترجمة لمصطلح Digital Thinking – نسبة للثورة المعرفية في الأرقام والاتصالات البشرية التي دفعت بالثقافة العالمية إلى مديات لا يمكن تصورها، أو تخيلها بكل ما تحفل به اليوم من المفاجآت في مختلف حقول الحياة بحيث لم تقتصر على البيئة والبيولوجيا، بل استكشاف أعماق الكون.. فما ضر مشروعنا الحضاري إن كان هناك في الأساس أي برنامج حقيقي يجعل ثقافتنا العربية أكثر اقترابا ليس من نفسها فحسب، بل أكثر التصاقا بآليات تحقيق المعرفة والعلوم والآداب والفنون في الثقافات الأخرى، وبشكل جذري عبر تحولات حضارية حقيقية تضعنا في المكان الحقيقي من العالم اليوم، خصوصا عندما يكتشف التفكير في مجتمعاتنا، وقد احتل درجة عليا من النسبية والمنطقية إزاء المطلقات التي تحتله وتكبله أو الشائعات والأكذوبات التي تمتد فيه.. عندها سيدرك الناس إن ساعات العمل المنتج مقدسة وأن المعرفة ضرورة حياة وأن الثقافة أسلوب حياة وأن المعاصرة لا يمكن أن تجد مرجعياتها من أى ماضويات سقيمة وأوهام غير نافعة.

التخلف والعبث والمزدوجات
إن أكثر ما يؤلم في مجتمعاتنا قاطبة اليوم أن يجرى استخدام آخر وسائل الاتصال والميديا الإعلامية الكبرى وثورة المعرفة والتكنولوجيا المتطورة استخداما استهلاكيا بليدا وماديا في حياتهم لمزاولة اجترار كل المألوفات والنصوص والتقاليد والمكررات والإنشائيات والخطب والشعارات.. بعيدا عن توظيف الثورة المعرفية والثقافات المعاصرة توظيفا إنتاجيا ومعنويا في حياتهم. فالاستخدام للمستهلكات غير التوظيف والابتكار للمنتجات! لقد أبقانا استخدام أدوات العصر على ما نحن عليه في القرن العشرين في حين يحاول التوظيف والابتكار أن يجعل الجيل الجديد في قلب الاتصال الثقافي وإدراك تلاشى المسافات وقيمة الزمن. ولعل وسائل الاتصال والإعلاميات الميدية الحديثة تساهم مساهمات فعالة في اختراق الأمكنة، وتقليل فجوة المسافات في دواخل بلداننا على أقل تقدير، ومن خلال خلق مفاهيم موحدة ولغة مشتركة وكونية فاعلة لا صامتة، وإحياء للأدوار النخبوية للقوى المنتجة ودينامية في العلاقات التبادلية وانفضاح الهزالة أمام الرأي العام والتفكير بإحلال مبدأ تكافؤ الفرص من أجل الإبقاء على الأحسن والأجود.. الخ.
إن كل هذا وذاك لا يأتي البتة إذا ما بقيت صيغ وقوالب التفكير في التوفيقيات التي أغرقت التفكير العربي الراهن بالمزيد من التناقضات المفجعة، ولا من حيث إبقاء القديم على قدمه، إذ لابد لحياة مجتمعاتنا أن تتجدد على أيدي شباب متميزين ونخبويين من أبناء جيل جديد، سيختلف لا محالة عن أبناء الجيل الماضي، ولم يزل الجيل الماضي يحتكر كل المؤسسات والأجهزة والإدارات والجامعات.. الخ بيديه. وإن أي منتجات مبدعة في مجتمعاتنا، لابد أن تصل بأصواتها إلى العالم كله بلغة وافق تفكير ورؤية عالمية من أجل أن تغدو لها مكانة فى الثورة المعرفية والتكنولوجيا المعاصرة.. وإذا ما بقيت كل المستهلكات الضعيفة هى المسيطرة، ويبقى التفكير الراهن ، وقد غرق فى تناقضاته وأزماته ومعضلاته، فسوف تبقى مجتمعاتنا عالة على غيرها، وقد ازدادت ثنائياتها وازدواجياتها القاتلة ! إن المستقبل سوف لن يرحم أبدا، وسيجد الناس أنفسهم وقد تكلسوا أمام ما يشهده العصر من تحولات مريعة ومتغيرات قاسية. ببساطة، إنهم يقفون عاجزين أمام سطوة الآخر وقوته وغطرسته، بل وإنهم يدفعون ثمن تخلفهم ثمنا باهظا.. كما دلت على ذلك الأحداث التاريخية التي افتتح القرن الواحد والعشرون نفسه بها.

حلم المستقبلات : البحث عن ديالكتيكات جديدة
لقد عملت المتغيرات التي شهدها العالم في العشرين سنة الأخيرة على حدوث جملة من ردود أفعال ومؤثرات على مجتمعاتنا كلها سواء في فئاتها الاجتماعية أو نخبها المثقفة والمهنية أو حتى على قياداتها السياسية.. وإن سرعة المؤثرات قد أنتجت تداعيات لا حصر لها فى ظل معطيات لم تكن موجودة سابقا، فجاءت ردود الأفعال مؤثرة ومأساوية حقا ! وعليه، فقد باتت مجتمعاتنا، فى المنطقة كلها، بحاجة ماسة إلى ديالكتيكات جديدة تحاول أن توازن بين مختلف الأضداد القائمة، فضلا عن محاولة تأسيس عقد اجتماعي قوى بين قوى المثقفين وبين القادة السياسيين من أجل خلق إمكانات جديدة للحياة القادمة التي لابد أن تحكمها دساتير محترمة تتضمن طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع من خلال الحقوق والواجبات وسيادة أركان المواطنة الحقيقية..
لقد طالت الثورة المعرفية جانبي العالم بين الشرق والغرب، وانعكست الاتجاهات فجأة اليوم لتغدو المعادلة غير متكافئة بين الشمال والجنوب من خلال المتغيرات الجديدة في السنوات العشر الأخيرة، وخصوصا في محتويات وأوزان المفردات المتنوعة في المجتمعات بكل ما يتم تبادله من الوسائل الثقافية والإعلامية والاقتصادية والتقنية التي تعبر عن حالات مستحدثة من التطورات المذهلة، وخصوصا في اللغة ووسائل الاتصال والإعلام وقوى الإبداع والتجمعات والعمليات وطواقم العمل المنتج عبر القارات.. الخ، مما أنتج مفاهيم جديدة للعمل والمصالح والزمن والإبداع والمسافات والإنتاج والحريات والإنسان والمرأة والطفولة والإدارة والأفكار وصنع القرار والقيادات وإدارة شئون السلم والحرب والصفوات النخبوية من الإنتلجينسيا الفاعلة والتعايش والتمايزات والتبادلات وشبكة المعلومات ونسبية الأشياء والبيئة والمعيشة والصحة والتنظيم واستخدام الفضاء والذرة والبيولوجيا والجينات.. الخ، وغير ذلك كثير مما يمكن اعتباره جملة مقاييس ليست حضارية أساسا بل ثقافية بالدرجة الأولى.
وعليه، نتساءل عن دور القوى الفاعلة في مجتمعاتنا من أجل التكامل الثقافي إبان مرحلة العولمة التي بدأها العالم.. وعن دور التنمية الثقافية والوعي الثقافي في تشكيل الهياكل المؤسسية في المجتمع أولا وفى بناء الوعي عند الإنسان ثانيا.. هنا، علينا أن ندرك، بأن ليس للمصنفات الرائجة عربيا اليوم بدءا بما ينشر من كتب ومجلات وصحف وانتهاء بما تشكله المؤسسات والمراكز والجامعات.. ليس لها أي قيمة تذكر أو دور مؤثر في الثقافة العالمية المعاصرة أولا، وليس لها أيضا أي تأثير إيجابي في حياتنا المعاصرة.. إن المرء لينبهر جدا بحجم ما نشره العرب إبان القرن العشرين، ولكن – مع الأسف – لم يتطور بدليل ما حدث من انتكاسات مرعبة عند الجيل الجديد الذي أخذ يلتفت نحو الماضي ليجد فيه ضالته المؤقتة، ولينكر من خلاله كل متغيرات العصر ويتهمها بشتى التهم كونه يجد نفسه دوما على صواب وغيره على خطأ!

المطلوب : ثورة نقدية في التفكير
إن المطلوب، حدوث ثورة نقدية لكل منتجات مجتمعاتنا الثقافية، ليتم تفكيكها من أجل إعادة صياغتها وتركيبها من جديد كأية متغيرات أخرى في المفاهيم والأدوات والأساليب وحتى الأنظمة والعلاقات ولتصبح المعرفة والمعلومات أول مصدر للقيمة بدل تكريس الإنشائيات والانشغال بـ «قلنا وقالوا»! إن ما تحتاجه أجيالنا الثلاثة القادمة يكمن في تأسيس ذهنية جديدة تقبل حالات التغير في التفكير والوعي الجمعيين.. ذلك أن التطورات العلمية التقنية السريعة والمفاجئة قد نقلت الإنسان في عموم الأرض إلى مصير مذهل.. ولم تزل مجتمعاتنا غير مدرجة لما سيؤول إليه مصيرها في ظل أوضاعها الحالية، خصوصا أنها تختلف عن غيرها، كونها مجتمعات مثقلة بالتناقضات، ومقفلة على الذات، ومغرقة بالترسبات والمواريث القديمة التي لم تستطع أن تستجيب بسرعة لما يحدث في الثقافات الأخرى. إن أوعيتنا الثقافية متخمة بالترسبات وتترسّب في أذهانها بقايا الطوباويات والخيالات والأحلام الوردية! إن تجارب العرب المتنوعة في القرنين الأخيرين تبدو وكأنها تتراقص على نغمات متلاحقة ومتناسقة في ترويج كل ما فى الثقافات الغربية الكبرى وخصوصا في تقليد الأفكار، واستنساخ الأيديولوجيات، وترديد الأوهام والشعارات، وملاحقة الموديلات، واستخدام التقنيات طورا بعد آخر! لقد حدثت تمردات وديماجوجيات وازدواجيات وتناقضات مضحكة على امتداد القرن العشرين… وأخيرا، لابد أن نردد جميعا بتفاؤل : متى يتحقق الحلم لبناء المستقبل المنشود من خلال المرتكزات الحقيقية التي تحتاج إلى مجهودات مضاعفة ومتطلبات كبرى، ودماء شباب جدد، ومجتمعاتنا تعيش في ظل واقع مرير كالذي نجتازه اليوم يقدّر فيه الجهلاء ويهجّر منه العلماء ؟ ولا يتم التمييز فيه بين الأميين المتخلفين وبين المثقفين الحقيقيين ؟ هذا ما سيجيب عنه المستقبل.

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4284 – السبت الموافق – 17 يوليو 2010 ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …