الرئيسية / افكار / مَعنى التَشّكل الثَقافي

مَعنى التَشّكل الثَقافي

إن التشكّل الثقافي لا يعني فقط إبداع نص ، أو نظم قصيدة ، أو نشر خواطر ، أو نشر أي كلام ، كما يتّصور البعض ، بل انه يعني ببساطة ووضوح : تلاقح مجموعات هائلة ومركبة من منتجات الحياة الاجتماعية والسياسية ، ومواريث المجتمع وعاداته وتقاليده وفولكلورياته وآدابه وفنونه وإبداعاته مع احترام الحريات والرأي المخالف في اطار العقل .. فضلا عن دور ذلك ” التشكّل” في إغناء مؤسسات الدولة بالمشروعات الدستورية والقانونية والمدينية والعمرانية والخدمية والسكانية والإعلامية والجمالية والإنسانية ، ناهيكم عن دور ذلك ” التشكّل ” في تطوير المجتمع وتربوياته وعلومه ومعارفه وأساليب حياته ، وتنمية تفكيره ومدارسه وجامعاته وأنديته وملتقياته ومعارضه ووسائل راحته وملاعب أطفاله .. ليكون مجتمعا مدينيا صرفا إضافة إلى دور ذلك ” التشكّل الثقافي ” في تحديث الحياة الاقتصادية ومجالاتها النفعية والأسواق والاستثمارات والبنى التحتية وعمليات التبادلات والمواصلات والاتصالات والتسويق والبنوك واحترام ساعات العمل .. الخ
إن حصيلة ما يقدمه ” التشكّل الثقافي ” في أية أمة تسعى نحو التطور والتحديث ، هو جزء أساسي من عملية المنجز الحضاري .. ومن دون شك ، فان المفكرين المتخصصين الذين لهم القدرة على صنع الاحكام بعد تقويم التجارب ودراستها ، يعّدون من المثقفين الحقيقيين في أية أمة تحترم نفسها وتاريخها ، إنهم يقفون على رأس ذلك ” التشكّل ” فمنهم جملة من المستشارين والمساعدين ومنهم التكنوقراط ومنهم نخب المبدعين من أصحاب الرأي والمشورة .. وكلهم يجب أن يشاركوا صانع القرار في الخطط والمشروعات التي تعمل أساسا من اجل المستقبل على أسس علمية من اجل المعالجة والتغيير لا من اجل الإصلاح ورتق الخروقات ، وأيضا من اجل التحديث لا من اجل التراجع وعدم الاستجابة للتحديات .. ويبقى الاحيائيون مهما كانت فصائلهم وتوجهاتهم من تقليديين وإصلاحيين وسلفيين وأصوليين او حتى من اناس مؤدلجين .. وغيرهم عليهم أن يقيموا جسور حوار مع المثقفين المدينيين والمتحررين ، من اجل أن تكون لهم مشاركاتهم ومنافعهم الحيوية في عملية الإرشاد والتهذيب وزرع مكارم الأخلاق ، وان يؤمنوا بالثقافة الحديثة ويشاركوا في مجالاتها الخصبة أدبا وشعرا وفنا وغناء ورسما ونحتا وموسيقى .. فكرا وفولكلورا وحداثة وإعلاما ومتغيرات اجتماعية وسياسية ، وتعلم لغات وأساليب ونظم الحياة .. واحترام إرادة الناس ، وان يلتزموا بقوانين وتحديثات وسياسات واتجاهات وحريات وحقوق عمل ومتطلبات واقع واشتغال المرأة واحترامها .. الخ وكل ذلك لا يتعارض أبدا مع الإسلام في جوهره الناصع ومبادئه السمحاء وسمو تجلياته العظمى. وبعكسه فان الحياة الحديثة والمعاصرة تطالب من يقف ضد أي نوع من تشكيلها الثقافي ، بأن لا يستخدم وسائلها المتطورة ومنتجاتها التكنولوجية المفيدة وإبداعاتها الخدمية الرائعة وأساليب الاتصالات والمواصلات الجديدة .
لكن ؟ السؤال الآن : كيف نفهم فلسفة التشكّل الثقافي عند العرب والمسلمين ؟
من أجل توسيع الرؤية في فهم هذا ” المصطلح ” ( أو التعبير) والتعمق في فلسفته ، لابد أن ندرك أن مصطلح ” الثقافة” نفسه ، إنما هو نحت لغوي ومعرفي عربي مستحدث لا يرقى استخدامه لأكثر من سبعين سنة ، فهو وليد القرن العشرين . وعليه ، فان معانيه الجديدة لا تنطبق بالضرورة على عناصر ومنتجات ومنظومات تجد مرجعياتها في مواطن لا علاقة لها به أصلا ، فضلا عما لحق به من دلالات واستخدامه في عدة توصيفات معاصرة كالوعي الثقافي ، والتبادل الثقافي ، والعلاقات الثقافية ، والعناصر الثقافية ، والمؤسسات الثقافية ، والنخب المثقفة ، والغزو الثقافي ، والملحقيات الثقافية ، والمنظمات الثقافية .. الخ وعليه ، فان الثقافة والمثقف ربما يستفيدان من عناصر التراث ، أي تراث ، مهما كانت طبيعته ، من اجل توظيفه والاستفادة منه في المنتجات الحديثة والمعاصرة ، ولكن التراث نفسه ، والتراثيين أنفسهم مهما كانت طبيعتهما ، لا يمكن أن يكونا ضمن الهيئة أو النخبة أو العناصر أو البنى الثقافية الحديثة والمعاصرة .
ولنا أن نتصور قوة التحولات في التشكّلات الثقافية التي حدثت في العالمين العربي والإسلامي ، إبان القرن التاسع عشر ومؤثراتها النفسية والاجتماعية ، ومنها مثلا : تغيير واضح في أساليب الحياة وافق التفكير ، وتغيير جملة كبرى من سكان المدن لأزيائهم باستحداث الأزياء الأوربية ، ثم العمل والانتظام في تطبيق الأنظمة والقوانين والخطط الجديدة التي أقرتها دول العالم الإسلامي ، مع استحداث المدارس المدنية والانتظام فيها ، ثم مواجهة صدمات متتالية كانت تثير التساؤلات على اقل تقدير إن لم تكن تثير الاندهاش ، كالسفن والموتورات البخارية والرسائل البرقية والتلكرام وانتقال الأخبار بواسطة الصحف التي لم يكن لها وجود قبل القرن التاسع عشر ، وصولا إلى انبثاق الفنون الجديدة كالرسم والمسرح وثمة قصص خيالية كانت تروى بصدد مشاهدة الصور الفوتوغرافية .. الخ من المعالم والتقنيات والتشيؤات الثقافية التي أثارت الوعي عند العرب والمسلمين قبل غيرها من الأمور كالكتابات والشروحات ! وصولا إلى صدمات متتالية آثارها وصول الغرامافون والراديو والسينما .. ثم التلفزيون والأقمار الصناعية .. وهلم جرا في القرن العشرين ، وصولا إلى ثورة المعلومات والاتصالات في بدايات قرن جديد . ومن غرائب هذا الزمن المعاصر أن تجد مجتمعنا الثقافي اليوم منهكا على أيدي أناس ، لا يمكن أن يكونوا عوامل بناء للتشكّل الثقافي ، بل إنهم كانوا وما زالوا وراء تراجع ثقافتنا ونكوصها بشكل مهول إلى الوراء ، نتيجة ما يحملونه من ضيق التفكير ، والتصفيق للأحزاب الحاكمة ، وبث روح الانقسامات الطائفية والعرقية ، ونشرهم الأحقاد والكراهية ، وتزويره الحقائق الدامغة ، وتشويهم جوهر الحداثة مع تقلباتهم الفكرية والمبدئية !
المشكلة التي يمكن لأي إنسان أن يدركها في قراءة التشكلة الثقافية العربية ، هي تمييزه بين جنسين من المخلوقات العربية : جنس تصنع منه الصدمات والتفكير بالتشيؤات الحديثة وعيا يدفعه للإبداع ، وجنس في منتهى الغباء لا تصعقه المستحدثات ، إذ قفل على نفسه ولم يفكر أبدا بقيمة ما يتمتع به من تلك التشيؤات الدنيوية ! فالجنس الأول يمكنه أن يبدع فيغدو من المتمدنين ، والجنس الثاني لا يمكنه البتة أن يكون جزءا من التشكلة الحضارية .. إننا أمام معضلة ستعاني منها الأجيال القادمة ، ما دامت هناك نزوعات ضارة لأي مشروع وطني ، أو مواقف ساذجة من التمدن وأساليب العصر .

نشرت في البيان الاماراتية ، 25 يونيو 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …