قبل 16 عاما ، جرى في بيروت حوار عربي تركي مشابه ، ولكن كان التفاعل كبيرا ، والحوارات أكثر جدية ، والموضوعات أكثر أهمية .. لم يحدث أي تراكم معرفي بين ذاك وهذا ، بل وان مشاركين عربا ، حضروا اليوم من دون أن يطلّعوا على أعمال ذاك الحوار الخصب مطلع التسعينيات .. ولم يحضر أي مشارك تركي من حوار بيروت إلى حوار اليوم . ويخطئ من يقول أن تركيا قد انفتحت على العرب بعد انغلاق طويل ، إنها منفتحة على العرب منذ زمن طويل ، ولكن ضمن شروطها ومصالحها .. وإذا كانت اليوم قد زادت من انفتاحها ، فلأن العرب هم الذين يسعون إليها أولا ، ولملء الفراغات التي حصلت ثانيا .
خلال العام 2009 ، شهدت بنفسي ثلاثة أنواع من اللقاءات العربية التركية في اسطنبول ، أولها كان في جامعة مرمرة حول العلاقات التاريخية بين الطرفين ، وثانيها كان في مبنى بلدية اسطنبول حول عقد اتفاقيات اقتصادية ، وثالثها كان هذا الحوار العربي التركي .. وتبين واضحا أن الأتراك يهمهم في الدرجة الأساس العراق وسوريا ، قبل أن يهمهم أي بلد عربي آخر .. ربما هناك علاقات اقتصادية وسياسية متطورة مع هذا أو ذاك .. ولكن كراتهم لا يريدون إسقاطها إلا في سلتين اثنتين يمثلهما العراق وسوريا كونهما يشاركان تركيا حدودها الجنوبية ، ولأن مصالحها معهما اكبر بكثير من أية مصالح عربية أخرى . هذه المعادلة لم يفهمها الطرف العربي ، أو انه يدركها ، ولكنه يريد أن يزاحم العراق وسوريا مكانتهما الجغرافية ! إن تركيا قد تبحث لها عن ادوار سياسية إقليمية ، ولكن أهدافها الأساسية تكمن في كيفية الاستفادة من بناء مصالح كبرى قوامها الاقتصادات والاستثمارات والتجارة والترانسيت والطاقة والأسواق .. الخ إن من يثرثر مع الأتراك باسم 22 دولة عربية يثير استهزاءهم، فهم يدركون تماما أن ليس هناك مصالح حيوية بينهم وبين موريتانيا أو السودان أو جيبوتي ، بقدر ما تكمن مصالحهم الحيوية مع العراق وسوريا !
وكنت أتمنى أن تعالج مشكلة المياه بين الدول الثلاث المتشاطئة : تركيا وسوريا والعراق في جلسة كاملة ، نظرا لأهمية ” الموضوع ” وحيويته للعرب قبل الأتراك ، وقد اكتفى المشاركون العرب بتقديم مجرد ” تعقيب ” حول موضوع المياه ، ولكن الضرورة كانت ماسة لمعالجته على مهل وتقديم معلومات واسعة ، مع ضرورة تقديم ورقة متكاملة عن مشروع الغاب التركي الذي يقود اليوم ثورة زراعية في جنوب شرقي تركيا .. ومدى استفادة كل من العراق وسوريا من حصصهما المشروعة من المياه .. وهل ثمة إمكانية لتطوير مشروع الغاب في كل بادية الجزيرة الفراتية بين سوريا والعراق؟ هذا لم يجر البحث فيه طويلا ، بالرغم من إثارتي له لأكثر من مرة !
جاء الطرف العربي ليس ليحاور في قضايا حيوية وجوهرية ، ويوظف كل دقيقة من اجل بناء مسيرة طريق ومستقبل مشترك .. بل جاء ليحكي عن الاستراتيجيات المركزية والتغّزل باردوغان وحزبه الإسلامي وإعجابه بالمسلسلات التركية التلفزيونية ، بل وليتدّخل في الشأن التركي متسائلا عن دور العسكر في السياسة التركية .. جاء ليتكلم باسم 22 دولة ، من دون أن يدعم قوة العلاقات الاقتصادية والسياسية بين تركيا وجوارها العربي ، فالطرف العربي شتات ، هذا يريد الزعامة ، وذاك يبحث عن مصالح خاصة ! وعندما تكلم العرب أيديولوجيا ، كان الأتراك يردّون عليهم باسم الواقعية . قال احد السفراء الأتراك في تعليقه على ورقة عربية : لقد كّنا مثلكم قبل خمسين سنة من اليوم ، ولكننا اليوم أكثر واقعية ! انتم تتكلمون بالمطلق العربي ، ونحن نتكلم بالمتناسب التركي ! ثمّة ورقة تركية تقّدم بها احد المشاركين الأتراك ، موضحا ومقارنا على الشاشة وأمام الجميع حجم الصناعات التركية ، إذ بدت تركيا الدولة المصنّعة الأولى في المنطقة ، وتأتي إسرائيل من بعدها ، إذ يتصاعد حجم منتوجات تركيا طويلا مقارنة بحجم التصنيع عند العرب الذي يصل في اغلب الأحيان درجة الصفر ، مما اشعر بعض المشاركين العرب بالحزن جراء ضحالة دور العرب الاقتصادي ليس في العالم ، بل في الإقليم نفسه ! أما البعض الآخر من العرب ، فلم يتململ أبدا ، فالأمر لا يعنيه ـ كما يبدو ـ ، فهو يؤمن حتى اليوم بشعارات وهمية قديمة عفا عليها الزمن !
وأخيرا، للأسف الشديد بقي المتحدثون العرب يدورون حول أنفسهم في الجلسة الأخيرة التي غاب عنها اغلب الأتراك، وبقي العرب لوحدهم يتحاورون ويثرثرون حتى النهاية !
نشرت في البيان الاماراتية ، 9 ديسمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com