الرئيسية / افكار / كيف يمكننا القفز فوق تناقضاتنا ؟

كيف يمكننا القفز فوق تناقضاتنا ؟


الحركة المتوقفة عن التواصل
إننا لا نستطيع أن نقفز على الزمن لننادي بمجتمع صناعي أو زراعي متطور .. علينا أن نكون متواضعين قليلا في فهمنا لأوضاعنا وتحليل تناقضاتنا .. إن مجتمعاتنا لم تمر أصلا بمراحل التطور الاقتصادي العالمي الحديث .. إنها انتقلت ، أو لم تزل في حالة انتقال من كونها مجتمعات تقليدية تعتمد السوق الريعي والاستهلاك في كل الميادين بعيدا عن الإنتاج كواحد من أهم سمات التقدم ، أو بالأحرى التحول من مرحلة السكون إلى مرحلة الحركة .. ( والسكونية مصطلح أطلقته على المراحل التاريخية منذ القرن السادس عشر حتى القرن العشرين للعالم الاسلامي ، انظر : كتابي : العثمانيون وتكوين العرب الحديث : من اجل بحث رؤيوي معاصر ، ط1 ، بيروت 1987) . لقد مر القرن العشرون بطوله من دون إي حراك حضاري في كل عالمنا العربي وبضمنه الشرق الأوسط .. والحراك الحضاري هو مقدرتنا في التأثير على العالم بأي منتج أو إبداع أو اكتشاف أو اختراع .. كما خابت كل المساعي في تطوير أي حراك سياسي على امتداد قرن كامل ، بل حرقنا عقودا طوالا من السنين في صراعات لا معنى لها ، وفي طوباويات لا نفع فيها ، وفي خطابات مؤدلجة أدخلت الناس في متاهات لا تعد ولا تحصى ! وعليه ، لا يمكننا أبدا أن نقارن مجتمعاتنا بمجتمعات أوروبا ، فلكل منهما سماته ومظاهرة وطبيعة علاقاته الداخلية وبنيوياته الخاصة .. وعليه ، فليس بالضرورة ان تتأسس ديمقراطية هنا في مجتمعاتنا على نفس الأنساق التي مرت في أوروبا .

نحن واوربا
لا يمكن مقارنة التجارب الأوربية في ما بين الحربين العظميين بتجارب أنظمة حكم الشرق الأوسط .. وإذا كان المجتمع المدني قد انتكس في كل من ألمانيا على يد هتلر وايطاليا على يد موسليني ، وان الاتحاد السوفييتي لم يعرف المؤسسات الديمقراطية طوال حياته ، فلا يعتبر حكم ستالين انتكاسة للمجتمع المدني ، إذ لم نجد أي مؤسسة للمجتمع المدني في الاتحاد السوفييتي مطلقا .. وبقي المجتمع مكبلا وغير مسموح له بالانفتاح ولا بالالتقاء مع تجارب أخرى .. وهذا ما جرى بدرجات متفاوتة بين الانغلاق الكامل وبين الانغلاق المشروط في كل من تجربة ألبانيا الشديدة وتجربة بولندا .. وهكذا بالنسبة لألمانيا الشرقية وهنغاريا ورومانيا ويوغسلافيا وبلغاريا .. الخ
وليس هناك حالة مثالية واحدة حتى يومنا هذا حتى نقول بأن الانتكاسات قد حصلت في ما بين الحربين فقط ، اذ كانت هناك انتكاسات في كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة لما بعد الحرب العالمية الثانية . المهم ، إن تجاربنا الليبرالية في مجتمعاتنا الشرق أوسطية قد سحقتها الانقلابات العسكرية ، فلا يمكن ابدا ان نقلب المعادلة التاريخية لنشيد بحكومات عسكرية وفردية ودكتاتورية مستبدة وننكر وجود برلمانات وأحزاب حيوية في مصر والعراق وسوريا ولبنان وتركيا وتونس والجزائر والمغرب .. فالتاريخ المعاصر للقرن العشرين يعلمنا ان الخمسين سنة الأولى من القرن العشرين كانت أفضل بكثير في تجاربها السياسية والليبرالية من الخمسين سنة الثانية التي سحقتها الانقلابات العسكرية وصراعات الأحزاب الثورية ثم الممارسات الشوفينية والأحكام الاستثنائية والدكتاتورية فضلا عن التناقضات التي تقض اليوم مجتمعاتنا بفعل الإسلام السياسي .

اين هي العلاقات الانتاجية الابوية في مجتمعاتنا ؟
نعم ، أين هي تلك العلاقات الإنتاجية الأبوية في مجتمعاتنا قاطبة ؟ أين هي العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية ؟ متى نشأت في مجتمعاتنا علاقات رأسمالية صناعية ؟ وأين هو نظام القنانة ؟ ان الوعي الاجتماعي لا يولد من خلال هذه الافتراضات ، بل يتبلور في كل مرحلة من خلال ولادة ظروف وأسباب .. وربما كان المثقفون والإعلاميون اقل وعيا بالظروف والمتغيرات مما يجعلهم غير قادرين فعلا على استيعاب التحولات .. بل وان التجربة التاريخية توضح لنا بأن ليس هناك ما يسمى بـ ” الوعي الديني ” كما هي كانت أكذوبة ” الوعي القومي ” ، وإذا كان الأخير يؤمن بأحقية (الأمة العربية) في تحقيق الأهداف في الوحدة والحرية والاشتراكية ـ مثلا ـ ، ؟ فماذا يريد الوعي الديني أن يقول ؟ إن الوعي بالدين سيقف حجر عثرة أمام الديمقراطية التي لا وجود لها في أي دين من الأديان .. ولكن في الإسلام هناك نظام الشورى بديلا عن الديمقراطية ، ونظام المبايعة بديلا عن الانتخابات !
إن الوعي الاجتماعي الحديث لا ينشأ ويتبلور إلا بوعي علمي وفكر مستنير .. ولا يمكن لذلك الوعي أن يقترن بوعي ديني جديد أكثر تنورا ووعيا بدور الدين ودور الدولة والفاصل بينهما .. ذلك لأننا دوما ما نقرن تحولات مجتمعاتنا بتحولات المجتمعات الأوربية ، وهذا خطأ كبير فالمسيحية في أوربا كانت قابلة للانقسامات لا الفكرية حسب ، بل للعقدية ومن هنا نشأت منذ بدايات القرن 16 فجوة بين الدين والدنيا من خلال ثورة الإصلاح الديني ، واخذت تتسع على الأرض بدءا بثورة الفلاحين في ألمانيا إبان القرن 16 الى الثورة الماركنتالية ابان القرن السابع عشر ، ثم الثورة السياسية الدستورية متمثلة بحركة كرومويل وانتقالا الى الفكر الحر وثورة القانون المدني وعهد التنوير والفلسفات في القرن الثامن عشر متوجة بالثورة الفرنسية انتقالا الى الثورة الصناعية والبرق وسكك الحديد في القرن التاسع عشر وصولا إلى الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن العشرين وانتهاء بثورة المعلومات والكومبيوتر والاتصالات في القرن الواحد والعشرين .. هذه كلها لم يصنعها الوعي الديني ، بل صنعها الإنسان ..

التمفصل الاحادي والتشعبّات الخطيرة
ومع كل هذا وذاك فان تفكير مجتمعاتنا لا ينفع معه اي وعي ديني جديد ، ذلك أن الإسلام نفسه لا يقبل اي تفسير من الناحية العقدية ، ولكنه قابل لأن يوظفه هذا وذاك لمآربه وان الفكر الإسلامي هو غير العقيدة الإسلامية وان الفقه هو غير أصول الفقه .. فأنت يمكنك ان تجد عدة ( اسلامات ) سياسية ومذهبية واجتماعية وفكرية في التاريخ والجغرافية ، ولكنك لا تستطيع ان تجد أكثر من قرآن كريم واحد يجتمع عليه العالم الإسلامي كله .. انه باستطاعتك ان تجد العديد من أشكال الإسلام : إسلام سلفي ، وإسلام إيراني ، وإسلام تركي ، وإسلام اباضي ، وإسلام أصولي ، وإسلام زيدي .. الخ وقد وجدنا في أزمان مضت : إسلام حنفي وآخر شافعي وآخر جعفري وآخر علوي وآخر حنبلي وآخر درزي .. الخ ولكن لا يمكنك أن تبعد الإسلام برمته عن الفروض والطاعات والعبادات .. عن الحياة الاجتماعية .. الوعي بالدين لا يحل لك المشكلة ، بل ان الاجتهادات في الدين ستعمل على تفكيك كل تعقيداتها ..
المثقفون ليس باستطاعتهم ان يأخذوا دور الوعاة بالدين لا الدعاة إليه .. بل ان علماء الدين لابد أن تكون لهم مساهماتهم في إبعاد الدين عن الدولة والسياسات والسلطات ايا كان نوعها .. ان عليهم ان يعملوا على ابعاد الدين عن السياسة وابعاد رجال الدين عن الحياة السياسية .. عليهم ان يكونوا شجعانا ليعلنوا بأن هناك سياسة مدنية وسياسة شرعية وهناك قانون مدني وهناك شريعة دينية وان الاثنين لن يلتقيا في العديد من الجوانب ..

بضاعة كلام .. ليس الا !
وأسأل : أي نخبة قيادية ومفكرة ومبدعة من الاعلاميين لدينا حتى يمكنهم ان يغيروا الحياة ؟ ان الإعلام اليوم ينحصر على الشاشة بين ما يمارسه رجال الدين وأهل الفن مع ركام من المراسلين والمعلقين السياسيين الذين ليس لهم الا بضاعة كلام .. ولم نشهد اي توظيف حقيقي لرجال الفكر ولا الفلسفة ولا المثقف الحر في ان يقول للعالم ما يؤمن به .. انني دوما ما اشبه عملية التحولات الجذرية لدى اي مجتمع بمغامرة يمكن ان يتبناها هذا او شجاعة يمكن ان يؤديها ذاك .. كالتجارة في السوق لا تنمو الا من خلال اناس مغامرين الفرق الوحيد ان التاجر محتمل يكون مغامر غبي فينجح ، اما المفكر الحر فيبقى منطويا بذكائه بسبب خوفه او رعبه ، فيسكت مع تهميش حقيقي له ، ولكنه ان سكت ، فليس معنى ذلك انه قد صمت صمتا مطبقا ! انه متى ما وجد نفسه حرّا وقد انطلق من سجنه الكبير ، فانه سيقول كلمته الحقيقية .
إن بضاعة الكلام لها سوقها اليوم ـ كما يبدو ـ ، ولم تعد محتكرة من قبل الساسة والمؤدلجين والمتحزبين .. بل وصلت حتى الى انواع المثقفين ، او أولئك الذين يصنفون أنفسهم بمثقفين .. ولم تنجح أية تجربة عربية ـ مثلا ـ حتى يومنا هذا ، باجتماع يوافق عليه الاغلبية ، بشكل حر يخلو من اية اجندة معينة يفرضها الأقوى دوما .. وثمة من تأكله الاحقاد والضغائن ضد الاخرين ، كونه يجد نفسه اعلى درجة من الآخرين وهو أجوف فارغ .. وهنا أود القول بأن روح التعاون والاحترام بالامكان الاستفادة منها ، ولكن الانانية وروح الفردية مسيطر على اولئك الذين اهتزت ثقتهم بالناس وبالاخرين .. تجدهم دوما يضعون الاحجار امامك ، ويريدون النيل منك .. انهم يعبرون عن تناقضات لا حصر لها .
دعوني أكمل هذا ” الموضوع ” في مقال آخر .

نشرت في الف ياء الزمان ، 3 آب / اغسطس 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …