الرئيسية / الشأن العراقي / حقوق الإنسان في العراق.. الوعي المفقود

حقوق الإنسان في العراق.. الوعي المفقود


لائحة حقوق لا وزارة حقوق
حقوق الإنسان لا يمكن أن تستحدثها ندوة تخصصية ، ولا تخلقها منظمات أو وزارات أو سفارات .. ولا يستحضرها خطاب سياسي لرئيس حكومة ! حقوق الإنسان اكبر منهم جميعا ، وهي اكبر من أن تفهم سياسيا .. حقوق الإنسان ليست مجرد لافتة يرفعها نظام سياسي أو يتشدق بها مسؤولون في دولة أو حكومة ! حقوق الإنسان لا يمكن اعتبارها منجزا حكوميا لشعب عانى من الاضطهاد السياسي والاجتماعي زمنا طويلا ، فهل يتحول كل أبنائه وقد تحققت حقوقهم الإنسانية فجأة ! حقوق الإنسان ليست مجرد وزارة أو مؤسسة أو دائرة .. تتشكّل ضمن حكومة تدرك جيدا ما الذي يعانيه الإنسان من فقدان حقيقي لكل حقوقه ، وكان ولم يزل حتى يومنا هذا ممتهنا ومضطهدا ومرتعبا ولا يتمتع بأبسط مقومات الحياة .. كما لم يتمتع حتى اليوم بحرياته الشخصية والفكرية والسياسية والاجتماعية ! حقوق الإنسان في العراق معدمة في كل شبر منه .. فليس من الهين أبدا أن نتعامى عن الحقائق ، ونتحدث باسم حقوق الإنسان ، والإنسان الذي تحرر من قمع الدكتاتورية سجنته القوى والظروف الصعبة الجديدة ، والإنسان الذي لوحق واضطهد وعذّب وهّجر .. من قبل سلطات حزبية وأمنية وسياسية ومخابراتية في الماضي ، غدا اليوم مطاردا ومشردا ومهجرا ومضطهدا .. ولكن على أيدي مليشيات وعصابات وجماعات وملثمين ومتحزبين .. يشكلون سلطات قوى دينية وطائفية وشوفينية في الحاضر .. أو يغدو مهانا ومحتقرا ومعرضا للقتل في أي لحظة على أيدي محتلين وجواسيس ومرتزقة وقوات بلاك ووتر .. !

أين العراق من فلسفة نظام عقد اجتماعي ؟
إن حقوق الإنسان اكبر بكثير مما يتصورها البسطاء أو الناس العاديين .. إنها فلسفة نظام اجتماعي يضمن للإنسان كل حقوقه الخاصة والعامة . إنها ليست سياسية فقط ، بل إنها حقوق دستورية واجتماعية وفكرية واخلاقية .. كما أنها حقوق رأي وتفكير وتصرف وتعبير وكرامة وحسن علاقات وتربية .. الخ إنها حقوق يكفلها الدستور ويصونها القانون . إنها لا يمكنها أن تنحسر بالذكور دون الإناث ، فليس من حق الرجل أن يعبث بما يسيء بحقوق المرأة كونه الأقوى اجتماعيا ، أو انه يطغى في مجتمع ذكوري باسم الدين أو القبيلة أو العرف أو التقاليد البالية .. وليس من حق الكبير أن يضطهد الطفل ولما دون الثامنة عشرة تحت ذرائع وحجج واهية !
الإنسان في العراق مفتقد لحقوقه كانسان منذ أزمان .. وليس لأن غيره من أبناء مجتمعات الشرق الأوسط قد تمتع بحقوقه كإنسان ، بل أجد أن العراقيين قد دفعوا أثمانا باهظة جدا من حقوقهم الإنسانية على مدى عقود طوال من القرن العشرين . إن القوي في العراق يأكل الضعيف مهما كان هناك من قانون وبنود دستور .. وان المستبد في العراق يضطهد الأعزل مهما كان هناك من قيم وأعراف .. وان الاكثريات في العراق تمتهن ( الأقليات ) كونها الحلقات الأوهى في المجتمع من سطوة الاكثريات .. إن حقوق الإنسان مهدورة منذ أزمان سحيقة . ومن المؤلم ، أن العراقيين قد تكلموا وكتبوا في اغلب الموضوعات ، ولكن لم يعتنوا بما فيه الكفاية بمسألة حقوق الإنسان .. وان أبناء المجتمع كلهم ، ليس لديهم أبدا الوعي التام بماهية حقوق الإنسان .. إنها ليست مجرد بعض حقوق سياسية غيبّها نظام سياسي ، كما أنها ليست مجرد إهدار كرامة قد سحقها دكتاتور ، وإنها ـ أيضا ـ ليست مجرد امتهان إرادة قد صادرها حزب حاكم .. إنها ليست مجرد تخريب لمنظومة القيم ، بل زرع قيم فاسدة في المجتمع ، لا يمكنه التخّلص منها إلا بعد أجيال ! إنها اكبر من ذلك بكثير ..

اقوياء وضعفاء
إن مسألة حقوق الإنسان ، تمنح عنايتها اجتماعيا وسياسيا للموضوع والذات لأي إنسان بحيث يشعر انه ( الإنسان) الذي يتمتع بكل حقوقه في كل من الدولة والمجتمع من دون أية قيود ملزمة ، أو ضغوط مجحفة ، أو توجيهات مخيفة او اشتراطات قاسية .. إن حقوق الإنسان لا يمكنها أن تكون منحسرة بين الدولة والمجتمع ـ كما يعرفها الجميع ـ ، بل هي التي ينبغي أن تتحرك بين خلايا نسيج المجتمع أيضا .. إن المجتمع العراقي يتكون من أقوياء وضعفاء ، واكثريات وأقليات ، وأغنياء وفقراء ، وسادة وعبيد .. الخ وهنا تضيع حقوق الإنسان ضياعا لا يمكن لأحد أن يتصوره إلا من يكابده أو يعانيه .. وعلينا أن نتأّمل قليلا في كل ما افرزه المجتمع من بقايا عادات متوارثة يقع تحت وطأتها الضعفاء في المجتمع ، أولئك الذين يعانون من اضطهادات غير مرئية أو حتى معلنة .. لقد كان انسحاق حقوق الإنسان في العراق واحدة من الأسباب الحقيقية التي ضربت نسيج مجتمعنا منذ زمن طويل عندما يكتشف المرء أن العلاقات الاجتماعية غير طبيعية أبدا ، بل وان الدولة لم تساهم أبدا في إزالتها من خلال الدستور او القانون أو التربية والتعليم أو الإعلام ..

نماذج فاضحة
كلنا يعلم كم كان يسحق ابن الأقليات مثلا ، في الثكنات العسكرية كونه الحلقة الأضعف وسط عالم غير متجانس أبدا من حوله .. وكلنا يعلم كم كان ابن الدواخل الحضرية يتميز على ابن الأطراف ويدعوه بـ ” القروي ” ؟ وكم كان ابن القرية يسخر من أخلاق الحضر ونسوتهم ؟ .. وكم كان جميعنا يسمع كيف يهان من كان اسمه ( حّنا ) أو ( ميخا ) في النوادي الليلية ، أو حتى في الشوارع الخلفية سواء بأسلوب التورية أو السخرية ! وكلنا يدرك من كان يوصم بالحماقة والغباء من أبناء الشعب ، فيكظمها صاحبنا بمرارة ! وكلنا يستفهم عن سر استهجان المجتمع من المعدان أو الشروك ، فالشروكي سّبة ! بل ويقصى علنا أمام الناس من كان يعمل بالفن سواء كان مطربا أو موسيقيا أو طبالا ! الشرطي في العراق ( أبو إسماعيل ) هو اقل درجة من ( ابو خليل ) وهو الجندي العراقي ، وكل منهما مستقبح في نظر الجميع ! كما توارث المجتمع أن يطلق صفة ( الصقاعة أي : البهاتة ) لكل من المّلا والمعلم والحلاق ، بل أن الأخير تثار حول ثرثرته الأقاويل ونسج مسلسل تلفزيوني فكاهي كوميدي شهير اسمه ( تحت موس الحلاق ) !
لقد توارثت مجتمعات المدن الكبيرة ظاهرة ( الشقاوات ) سيئة الصيت ، حيث تموت كل حقوق الإنسان أمام الأشقياء الذين يتمتعون بعادات وتقاليد شرسة تخترق كل القانون ! اما بعض شيوخ القبائل والعشائر فهم يتمتعون بسلطات محلية وعشائرية تبيح ضرب الإنسان أو حتى قتله ! كان كل من يتكّلم المحليات العراقية بلسان اعوج ، وبعربية مكسّرة يصبح مسخرة في المجتمع ! كان اليهود والمسيحيون ـ مثلا ـ يتحاشون مؤسسات الدولة الحساسة ، فيربون أولادهم على أن يكونوا أصحاب مهن حرة أو مهن نقابية ليكونوا أطباء وصيادلة ومهندسين .. اذ لا قدرة لهم على مواجهة من هو اقوى منهم ، فيتحاشون المسؤوليات العليا والمباشرة خوفا على كرامتهم .. وكثيرا ما كانت حقوقهم تهدر من قبل الأكثرية في السوق والمدرسة والدوائر الرسمية .. اما المرأة ، فلقد كانت حقوقها مضاعة ، بل وأنها تخشى على نفسها حتى وهي في سوق أو نزهة برفقة غيرها .. وقد تتعّرض للسوء والأذى والتحّرش وسماع التعليقات الخشنة في أي مكان عام ! الخدم في البيوت يعاملون أسوء معاملة ، وكانوا وما زالوا يتعرضون للسخط والاهانة لأسباب تافهة ..
هذه الأمثلة الحية وغيرها كثير هي ليست من جيبي بل منها ما تعرفه الذاكرة العراقية الاجتماعية ، ومنها ما أشار إليه بعض كبار السن في مروياتهم وبعض ما عشناه نحن في القرن العشرين .. واعتقد أن ثمة ما استجد مؤخرا من عادات وتقاليد سمجة ضد حقوق الإنسان في المجتمع العراقي .. إنها عادات متوارثة لم تساهم المؤسسات التربوية والجامعية والإعلامية والقانونية العراقية على اجتثاثها .. الدولة في العراق منذ أن نشأت وحتى اليوم لم تسهم إسهاما حقيقيا في خلق وعي حقيقي بحقوق الإنسان ، أيا كان ذلك دينه آو مذهبه أو عرقه أو بيئته أو أصله أو فصله ..

حقوق الانسان ليست قميص عثمان
ان المجتمع العراقي الذي يخفق اليوم في معالجة خروقاته التي انتابت نسيجه جراء انهيار أقوى مؤسساته .. بدأ يعّبر عن مكبوتاته إزاء بعضه بعضا .. إن الإنسان في العراق قد اضطهد طويلا ، ليس بسبب وجود زعيم أوحد ، أو رئيس أهوج ، أو دكتاتور مستبد فحسب ، بل لأن في كل بيئة ، أو دائرة ، أو محلة ، أو جماعة معينة : دكتاتور صغير يمارس عنجهيته وطيشه بحق الآخرين .. لأن في كل من يشعر انه امتلك مالا ، أو جاها ، أو سلطة ، أو حتى رئاسة أو إدارة من نوع ما .. نفخ نفسه وغدا دكتاتورا متسلطا على مجموعته ! وان كل من امتلك شعورا بالقوة حتى إن كان في زقاق كئيب ، بدأ مارس الاضطهاد إزاء من يمر بذاك الطريق .. واغلب الفاشلين في دراستهم إن امتلك وسائل القوة نال من الأذكياء .. وكل من عاش فقيرا مسحوقا ، وغدا من أصحاب القوة والسلطة نال من الأغنياء .. وهكذا ، فان كل من كبت في نفسه أو انه توارث الكبت عن سلاسل من مضى سيكون في مقدمة من يريد إرجاع حقوقه المستلبة . إن اضطهاد الناس ليس هو قتل للإبداع حسب ، بل قتل للمشاعر والضمائر .. صحيح أن القوي يأكل الضعيف في عرف الطبيعة ، ولكن قانون الغاب ليس لائحة حقوق الإنسان .. أي دين يقبل بما جرى ويجري من امتهان للإنسان في العراق ؟ أي قيم فاضلة أو ” منظومة قيم ” عراقية يتغنى بها المتعصبون أو الساذجون ، وهم لا يفكرون إلا بأنفسهم ، أو بدينهم ، أو بطائفتهم ، أو بشوفينيتهم ؟ فالعراق ترابا وهوية وانتماء لا يمكن أن يحتكره أي طرف من الأطراف ما دام المجتمع شرائح متنوعة من الطيف .. وكان وسيبقى بلدا منفتحا أمام الآخرين للعبور والتوطن .
إن حقوق الإنسان لا يمكن حصرها في العراق بالدفاع عن مجرمين ، أو سلابة ، أو قتلة ، أو حرامية ، أو مسيئين أو كل من يضر الهيئة الاجتماعية .. وهذا ما يجري التصفيق له سياسيا بغية خلط الأوراق . إن حقوق الإنسان لائحة تراعي شؤون المضطهدين في حياتهم لأسباب سياسية أو اجتماعية أو غيرها .. إن المجتمع العراقي اليوم بأمس الحاجة لحقوق الضحايا واليتامى والأرامل والتائهين والمشردين والمسفرّين والمنحرفين والشاذين والمجانين .. ولحقوق الطفل والمرأة والشيخ الكبير .. لحقوق كل من يشعر بالغبن والحيف والاضطهاد والظلم .. لكل من عانى ويعاني ليس من القتل والتفجير والتهجير والغدر حسب ، بل حتى من العبارات الجارحة والتمييز الديني والعرقي والطائفي ..

ما العمل ؟
لا تكفينا ” وزارة ” حقوق إنسان لا تدرك مديات ما سجلته آنفا ، بل إن العراقيين بحاجة إلى ” وعي ” حقيقي باللائحة ومضامينها .. إذا كان قانون العقوبات يحرم قتل الحيوانات الأليفة ، فكيف يسكت المجتمع لسنوات طوال على قتل الآلاف المؤلفة من البشر العراقيين .. ؟؟ كيف يهّجر الإنسان من بيته وأرضه ويحرم من أهله ويصادر ماله وحلاله وأملاكه ويرمى خارج الحدود بلا أسباب قانونية ؟ كيف يشّرد الملايين من العراقيين عن وطنهم غصبا عنهم منذ عقود من السنين ؟؟ ويزداد عددهم اليوم ليكونوا من اكبر المهاجرين في العالم بلا أسباب تعقل ؟ أليس من الأجدى اليوم أن يزرع وعي جديد عند الجيل الجديد بحقوق الإنسان ؟ أليس من مهام مدارسنا وجامعاتنا في العراق أن تعمل على خلق جيل جديد مسلح بالوعي والمعرفة بما هو عليه الحال . على كل مؤسستنا أن ترّبي أولادنا وبناتنا في دواخل العراق على مبادئ حقوق الإنسان ؟ ثمّ أليس حريا بعشرات المحطات الفضائية والمواقع العراقية أن تعمل ليل نهار على خلق فضاء إنساني جديد يدور في فلكه كل العراقيين بدل كل ما يعرض من تفاهات وبيانات ؟ نتمنى أن تحدث ثورة حقيقية في المجتمع من اجل ان يحترم الانسان ويتمتع بحقوقه كاملة .. فهل سيحدث ذلك يوما ؟

نشرت في ايلاف ، 9 يوليو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com
( حقوق النشر محفوظة لايلاف )

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …