الرئيسية / مقالات / فنتازيا يصفّق لها المهرّجون !

فنتازيا يصفّق لها المهرّجون !

انني أسأل : لماذا لم نعد نسمع بمصطلح ( الاستعمار ) الذي حاربته الالاف المؤلفة من ابنائنا ، وقاومناه بعقولنا واحاسيسنا ودمائنا ؟ لماذا مررنا بمرحلة العتمة الفكرية ، والتشوش الذهني ، والاضطراب النفسي كي ندخل مرحلة التوحش الحقيقي ؟؟ العالم كله لم يقف اليوم مع أحد .. العالم اليوم مجموعة حيتان اقتصادية تبحث عن مصالحها ضمن ارادة استقطاب عالمي .. لقد اصبحنا اسرى هذا الزمن المشّوه الذي سينقلنا الى الزمن المتوحش الذي تفتقد فيه كل المعايير والقيم ، وما تبقى في مجتمعاتنا من اخلاقيات! ان مجرد كونها مجتمعات مستهلكة غير منتجة لما يسدّ رمقها من الغذاء ستكون عالة متطفلة على الاخرين .. فليس كل مجتمعاتنا غنية تبيع البترول . ان الازمات والمشكلات التي تعاني منها سيتفاقم امرها يوما بعد آخر في ظل الابقاء على دوامة الاستلاب .. وفي ظل غياب مفاهيم وقيم مدنية كانت راسخة الى حد كبير في القرن العشرين .. وقد تحوّلت بعد مسخها وسلخها الى فراغات ومساحات قاحلة ، بل الى احقاد وكراهية بين مجتمعاتنا كلها ! وغدت دولنا منعدمة الثقة في ما بينها وهي تنتمي الى منظومة عتيقة اسمها ( جامعة الدول العربية ) في حين ساهم الاعلام ولم يزل بخلق المضادات وزرع الكراهية بين هذا وذاك .
عندما اقارن منظومتنا العربية بغيرها في جنوب شرق آسيا او الصين او آسيا الجنوبية ، او حتى مع المنظومة الاشتراكية الراحلة التي تفككت الى دول وكيانات جديدة ، اجد العالم كله يسعى الى التكتل ضمن منظومات من نوع آخر كالاتحاد الاوربي والآسيان والنافتا .. الخ في حين تسعى مجتمعاتنا الى التفكك والتهرؤ والانقسام .. ان مجتمعاتنا لم تزل تعاني من شقاء التخلف والشوفينية والطائفية وتهوى الانفصالات بديلا عن التكتلات .. انها تأتي اليوم بعد مرور قرنين من الزمن على هذه الافكار لتجسدها ، كونها عاشت مفتقدة اياها ! ولكنها تسعى ليس الى حتفها ، بل الى الانسحاق ومن معها ايضا . المشكلة الحقيقية اليوم ان تكون ايدينا مع الاخر لا مع بعضنا الاخر ! وعندما اقارن سوسيولوجيا بين الذي تمتلكه مجتمعاتنا من كم هائل من سحر العلاقة والود والتراحم والعواطف .. بل ومن مفاهيم سحرية لا تقارن ابدا بما لدى شعوب ومجتمعات اخرى ، اذ تجد مواريثها وحالاتها خاوية من سحر العلاقة ودفئ المودة .. ومع كل هذا وذاك فنحن نمضي نحو الزمن المتوحش وبارادتنا كوننا تركنا مرحلة المبادئ ودخلنا مرحلة الهذيان ! فهل من هزة سوسيولوجية هائلة ،او صدمة فكرية كبرى ،تنقذنا من هذا الاستسلام وتبعدنا عن كل التشظّيات .. بل وتجعل مجتمعاتنا تدرك اي نوع مدمّر تمارسه من الغيبوبة والتقلبات ؟ اعرف صديقا منذ سنوات طويلة كان له فكره الناصع وناضل طويلا في قيادة التيار القومي ، وكان ولم يزل معجب بالرئيس الراحل عبد الناصر .. لكن نجده اليوم وقد تراجع فكره تماما بشكل لا يصدّق ، وآخرون من التقدميين الماركسيين ( الشيوعيين ) تجدهم اليوم يسبحون ليل نهار بالوجود الامريكي ! انهم خدعوا انفسهم وكل الاخرين كونهم لا يعترفون بتقلباتهم واين هم اليوم من ماضيهم ذاك .
ان التاريخ لا يمشي معنا .. انه مسيطر علينا فهو فوقنا دوما ولا يتساوق معنا اليوم ، كما احب القول ان مجتمعات اخرى جعلت التاريخ من تحتها فهي التي تسيطر عليه لا هو المسيطر عليها .. هي التي تستفد منه لا هو الذي يجعلها منقادة له .. ان متغيرات هذا العصر لا نجدها في كتب التاريخ ، وعليه ، فلابد ان يحصل ادراك متبادل بين مجتمعاتنا ومتغيرات العصر ، فالتاريخ بكل افرازاته الانقسامية والطائفية سوف لا يطعمنا او يسقينا وهو لا ينقذنا ولا يحيينا .. قد يحفزنا ويعلمنا .. يرشدنا ويهدينا ، ولكن ان يصبح دكتاتورا مشعوذا علينا ، فهذا ما سيضرنا كثيرا ويجعلنا كالمهرجين .. ليس من الصواب نفي التاريخ في مدارسنا وجامعاتنا ، بل ينبغي معرفته والتيقن من دروسه ! ان احياء اليوم لا تنقذها عظام الماضي ، كما يؤمن بذلك البعض ايمانا جارفا من دون اي شعور بالذنب .. ولا اعتقد ان احدا سينتقدني اذا علم ان هناك من لم يزل يؤمن بالتعويذات والاضرحة والبكائيات ورقص المشعوذين وانتظار الغائبين .. الخ هناك من يختزل تاريخنا بهذا من دون ان يعلم ان حياتنا بحاجة الى فقه جديد ، ومصالح مرسلة جديدة .. بل والى تغيير جوهري كبير .. والفرق كبير بين انقسامات فرق الملل والنحل في مجتمعاتنا وبين تجليات فلسفتنا وترجماتنا وعلومنا وآدابنا في تاريخنا !
ما العمل ؟
ان العالم يسير في طريق ونحن نسير في طريق اخرى .. نشعر بالخجل الشديد لأننا ضعفاء ازاء اقوياء ، والاقوياء تسيطر على الضعفاء وتستعبدها .. لا يكفي ان ندرك اين هو ايقاع العصر وليس لنا الا ان نردد معه او نسّوق شعاراته كما حدث في القرن العشرين .. ليس مطلوبا منّا ان نتواطئ مع الافكار المضادة لنا ، ولكن مطلوبا منّا ان نتعّرف عليها لنجادلها ونحاور اصحابها من موقع القوة .. ليس مطلوبا منّا ان نبقى كما نحن عليه اليوم ، ففي ذلك ليس تهميشا لنا بل عزلنا وانهائنا ، بل علينا التغيير لمزاولة تفكيرنا على حلبة الحياة القادمة .. والتغيير صعب ولكن من السهولة ان يبدأ من حيث يقبل اي واحد منّا بالاخر .. التغيير هو العدو اللدود للمحافظين على القديم ، ولكنه ايضا ليس هو مجرد مبادرة عادية لفنتازيا امريكية يصفق لها المهرجون !

البيان الاماراتية ، 3 ديسمبر 2008
وتنشر في موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …