الرئيسية / افكار / هواجس مؤرخ… رؤيةٌ مِهََنيِّةٌ لواقعِ الكتاباتِ التاريخية -2-

هواجس مؤرخ… رؤيةٌ مِهََنيِّةٌ لواقعِ الكتاباتِ التاريخية -2-

للبحث صلة : هواجس مؤرخ !
ان اهمية ما يكتبه المؤرخ من تحليلات وما ينبه اليه من النداءات وما يوحي اليه من الايحاءات وما يشهد به من الشهادات وما ينشره من المقالات والكتابات ، وما يكتبه من الهواجس والتخوفات .. كلها تكمن من اجل تحديد المسئولية التاريخية امام كل من الرسميين في الدولة والجماهير في المجتمع ، وتغدو تلك كلها بمثابة شهادة ذات طابع ” علمي ” و «قانوني» ، وايضا بمثابة مؤشرات حقيقية على «اعادة مكانة واهمية تعريف مهنة المؤرخ» نفسها بحيث انه الوحيد القادر على ان يندفع اكثر فأكثر الى اطلاق الاحكام وابداء التوقعات ومزاولة الاحتمالات باعلى درجاتها وعلى نحو من «المواجهة» بصفة «خبير» الى الدرجة التي يمكن من خلالها ممارسة المفاوضات او مخاطبة المسؤولين او كتابة البيانات او استخدام المعلومات مهما بلغت درجتها من الدقة .
ونلاحظ بهذا الصدد ومن باب الاطلاع على ما كتبه العديد من المؤرخين الاساسيين كخبراء دوليين او حتى اقليميين بأن تجارب انشطتهم الفاعلة من خلال مراكز بحوث استراتيجية او مؤسسات معرفة موسوعية بان العقدين الاخيرين من القرن العشرين قد شهدا بروزا اكبر لدور المؤرخ وتحديدا الدور السياسي له بالنسبة لمؤسسات الدولة والدور الاجتماعي بالنسبة للمجتمع الذي لا يكتفي بمحاولة «فهم» الوقائع والاحداث الاجتماعية حسب ، بل عليه مهمة من نوع ما تمثله وتمثل مداركه العليا وهو يقدم «احكاما» او جملة ” مفاهيم .. هنا تصل درجة المؤرخ الى مكانة عالية من المعرفة واختزان المعلومات والحقائق ، اي يغدو بمثابة «خبير» يمكن اللجوء اليه وقراءة احكامه وموحياته ونداءاته اثناء الاحداث المصيرية ، فهو ليس مجرد شاهد «عابر» سبيل ! وعليه ، لا يمكن ابدا الاستغناء عن مثل هذا ” الدور ” اذا ما نجح المجتمع المتمدن فعلا بالاعتماد على مختصين حقيقيين منهاجيين لهم رؤيتهم النقدية في التاريخ المعاصر يمكنهم ان ينجحوا في تأسيس اية قاعدة معرفية او الخروج باستنتاجات حاسمة حول فهم ما يجري وتقييمهم للاحداث وهي حية قبل ان تموت من خلال معايشته الحقيقية لها .
متى يخرج العلماء عن صمتهم ؟
باختصار ، هناك قضايا عديدة في سيرورة الاحداث الاساسية بحاجة الى اعادة نظر «تاريخية» من قبل المسؤولين ( المنتصرين ) بصفحات «لاتزال مشوشة» من تاريخهم الحديث والمعاصر . وهنا لابد ان نعلم بأن ثمة حاجة ضرورية لابد من توفرها وهي مدى استجابة المؤرخ للمنتصر في فرض اجندته السياسية بشكل حاسم بعد ان فرض الامر العسكري الواقع . وهنا لا يمكن ان تخرج مهنة المؤرخ من الاطار «الاكاديمي المنعزل» البحت كي تصبح بمثابة «رهان عام» وبذلك لابد ان يفتح المجال لفتح ملفات «تاريخية» من موقع يشابه الى حد بعيد موقع التحقيق العدلي لكل الاعمال والكتابات أو موقع الطب العدلي في تشريح الشهادات والتقارير والملفات الخ ، اي دخل المؤرخ بصيغة ما، في جلد الاحداث التي صنعها المنتصر بالقوة .. وهنا ينبغي تحقيق اشتراطات الامانة والموضوعية والحيادية او على الاقل ابداء رأي «الشاهد» النزيه بعيدا عما تتصف او تشتهر به وسائل الاعلام المكتوبة او السمعية او البصرية من تحيزات واختلاقات ومفبركات واشاعات .. وعلى المؤرخين الحقيقيين والنقاد المعرفيين استخدام كل ما لديهم من براهين «علمية» من اجل دحض ليس آراء خصومهم حسب ، بل ايضا ما يذيعه الاعلاميون والسياسيون والدبلوماسيون والمسؤولون القياديون . ان المؤرخ لابد له من كشف اوضاع «الحالة المشوشة» لأولئك البعض الذي لا يدرك «معنى الاحداث» وتموجاتها من ولادتها حتى نهاياتها . ان من ضرورات العصر ومن متطلبات الحياة الحديثة اليوم ان يبادر العلماء لنقد ما يرونه يخالف الحقائق والمنطق .. عليهم ان يخرجوا من صمتهم ليعيدوا التوازن الى المعرفة .. خصوصا في عصر تكنولوجيا المعلومات وقد بات الغث والسمين ينشر على الملأ .. علينا ان نحافظ على حقائقنا من خلال ما يستوجب ان تتعلمه الاجيال الجديدة .. فانها ان ترّبت على غثاء ما ينشره هذا او ذاك ضاعت كل المعرفة التي استطاع الاباء والاجداد ان يختزنوها ويحترزوا عليها .. علي من يجد الاخطاء تصويبها .. وعلى من يسمع الاكاذيب دحضها .. وعلى من يجد اي جنوح في غير محله كشفه وتعريته ..
المؤرخ : محترف سياسة
ان مهنة المؤرخ لم تبق مجرد حالة اداء «تقليدي» ، فقد غدت في السنوات الاخيرة من القرن العشرين حالة جديدة تنطبق اساسا على مقتضيات العصر بكل تفاعلاته ومتغيراته .. وهنا لابد لها وقد اكتسبت بعد خصائص الحياة المعاصرة الجديدة. ان المؤرخ يصبح في مثل هذه الحالة من التعايش مع الاحداث التاريخية الحية وكأنه شرطي مرور يمرر الوقائع على مفترق الطرق الصعبة عند الدوارات ذات الاتجاهات المتنوعة ، اذ انه لم يعد مجرد «كاتب تقليدي » أو «استاذ جامعي خامل وكسول» كما هو مألوف ، وانما يقترب الان اكثر فأكثر من ادوار «صاحب الخبرة الاعلامية » والخبرة التاريخية المطلوبة في «الزمن الحاضر الذي يعاصره » وفي مواجهة «حالات عيانية من تاريخ يصنع امامه » في واقع من نوع ما. ان ما يحدث هذه الايام من جملة تداخلات حقيقية بين مهمة «المؤرخ» ومهمة «الخبير» يمثل نوعا من اقتراب المؤرخ من الناس الذين يأخذون كلامه على محمل الجد مقارنة بما يذيعه السياسي او يكتبه ، فالمؤرخ يبقى في خدمة المجتمع ومؤسساته المدنية ، اما السياسي فهو حلقة ربما يصبح في خدمة اوضاع سياسية معينة وربما اصبح في «خدمة الدولة». بتعبير آخر لم يعد المؤرخ مجرد باحث اكاديمي هزيل بكل ما هو «محترف» وانما غدا في حقيقة الامر «مساهما» في الحياة العامة للمجتمع والاحداث التاريخية التي يعيشها ذلك المجتمع لا يعرف تسلسل امتداداتها الا المؤرخ . وعليه ، فهو مسؤول عما يقوله من دون ان يلوي عنق الحقيقة مهما كانت الاثمان.
وأخيرا : ما الذي اريد التوصّل اليه ؟
ان آخر ما أوصي به كل المهتمين والقراء الكرام الذين يتابعون ما اكتبه في مختلف الشؤون مراجعة كتاب اوليفييه دومولان الموسوم في ادناه .. او مراجعة بعض اعمال اخرى لمؤلفين بدأوا يهتمون اهتماما كبيرا بهذا الشأن الخطير ليس علينا نحن الذين تربينا في القرن العشرين ، بل على الاجيال التي ستتربى في القرن الواحد والعشرين ، وخصوصا من خلال تكنولوجيا المعلومات المشاعة التي لا يعرف مدى الصحة فيها من الخطأ .. وخصوصا في ثقافات الشرق الاوسط التي بدأت تعج بالفوضى السياسية والفكرية ، واخذت تنال من حقائقها السلطات الحزبية والطائفية والدينية والسياسية والايديولوجية بشتى اصناف الاكاذيب والتهم والاشاعات والمفبركات .. فهل نحن بمستعدين لتصويب مسارات ما اقول ؟ هل نحن بقادرين على قول الحقائق او مقارباتها ؟ هل باستطاعتنا ان نؤسس ثقافة اعلامية معرفية ونقدية توقف هذا المد الخطير الذي يجتاح مجتمعاتنا ؟ هل نحن باقوياء بما فيه الكفاية حتى نوقف الهجمة الاعلامية والالكترونية بكل شبكاتها وآلياتها وفضائياتها مما تفعله في معارفنا وتربوياتنا ومعلوماتنا وافكارنا ؟ هل باستطاعتنا تربية اجيال القرن الواحد والعشرين على معلومات صحيحة باساليب علمية وتربوية واخلاقية مدنية بعيدة كل البعد عما يجري اليوم .. او ما سيجري في المستقبل ؟ انني اشك في ذلك شكا كبيرا !
www.sayyaraljamil.com
الزمان ، 6 آب / اغسطس 2007

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …