الرئيسية / مقالات / الهوية الوطنية .. كم هي ضرورية اليوم ؟

الهوية الوطنية .. كم هي ضرورية اليوم ؟

يُعرِّف “المُعْجَمُ الوسيطُ” مفهوم “الهُوِيَّةَ”، فلسفيا ، بأنها: حقيقة الشَّيء أو الشَّخص التي تميزه عن غيره . أما قاموس Oxford ، فهو يعرفها بوصفها “حالة الكينونة المتطابقة بإحكام، أو المتماثلة إلى حدِّ التطابق التام أو التشابه المطلق. والكينونة، هنا، تتعلَّق بالشَّخص الإنساني . ونعني بالتطابق التام : ما بين باطن الشيء وظاهره، كما شبه الجرجاني ذلك بالثمرة ونواتها أو بتماثل التجليات الظاهرة لأي كينونةٍ مع جوهرها العميق، بلا انفصام أو انشطار مهما صغر وتضاءل ، بحيث تتبدَّى الهُوٍيَّةُ، متخلخلة ومهزوزة مقارنة بما تعتز بها الشعوب الاخرى ، ولقد ترعرعت عبر التاريخ ، لكنها تبلورت في القرنين السابقين بتطور الفكر السياسي الحديث . ثمة تحديّات تواجه مفهوم ” الهوية ” في مجتمعاتنا سواء كانت : ايديولوجيات ام طوائف ومذاهب ام شوفينيات .. الخ
ليست الهوية الوطنية بنيةً مغلقةً على ذاتها وإنما هي بنية جوهرية مُتَحَوِّلةٌ دوما ، ومرتبطة بمحور ثبات يتمثل بالتراب الوطني . إنها مفهوم يعّبر عن ذاته بذاته عبر الزَّمن ومعاييره، وفي سياق علاقة تبادلية بين الجغرافية ازاء التاريخ ، وهي تنهض في تفاعل، متحقِّقٍ ، او تصمت وتتعرّى في حالة توتر وانكسار تاريخي او انهيار مكبوح، من مرحلة الى اخرى سواء في وجود نسيج المدن او في مكونات المحيط ! وبمعطيات حركة الحياة الوطنية المتنوعة . ومن الطبيعي ان يعتز أي انسان بهويته ، ولكن شريطة الا يتعّصب لها على حساب انكار او تهميش من يعايشه منذ الاف السنين لأي سبب من الاسباب . ان الغلو والتعصب في العقائد والايديولوجيات يفقد الانسان هويته الوطنية باعتبارها قيمة مدنية دنيوية .
ان العرب بحاجة ماسة لترسيخ الهوية وجعلها وعيا جمعيا يعتز بالتراب والثقافة والتاريخ ازاء التحديات المعاصرة والمستقبلية ، وهي من اصعب العمليات التاريخية بفعل كثرة انتماءات العرب وكثافة اهواءهم وهواجسهم ونزوعاتهم التي لا تعرف أين تذهب خيوطها المتشابكة من فئوية وجهوية ومحلية وعشائرية وقبلية وطائفية وحزبية .. الخ من الولاءات التي تشتّت الهوية في بحر من التناقضات ! وهنا يصبح التماهى مع ” العروبة ” شكلا ومضمونا مهمة صعبة ، أو بمستقبل لا يُمكن الوصولُ إليه! لقد استخدمت كل دولة عربية مصطلحا خاصا بها لترسيخ تماهيها ، فسمعنا : مصر للمصريين ، وثمة جزأرة واردنة وسعودة وبحرنة وقطرنة ولبننة وسودنة وتونسة وغيرها .. وفي الامارات استخدم مصطلح ” التوطين ” . ويمكننا ان نلحظ المخاطر التي ستتعّرض لها دول الخليج العربي بفعل الخليط ( الاسيوي خصوصا ) على حساب الهوية الوطنية ، مما يدعو الى اتخاذ اجراءات مدروسة للحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية معا !
لقد تعرضّت الهوية الوطنية للتهميش او للازدواجية منذ خمسين سنة ، اذ زاحمتها تحديات داخلية وخارجية على مستوى الايديولوجية والولاءات .. وبقي هناك من يعتز بهويته الوطنية ولكن يضادده من يزاوجها بهوية أخرى .. فضلا عمّن افتقد تلك ” الهوية ” نتيجة ما صادفه من هول الأحداث .. فذهب يتماهى بعيدا لما وراء البحار .. ولكن تبقى الهوية هي جوهر الإنسان وتحولاته . وللاسف ، لم تنجح الدولة العربية المعاصرة في تأصيل الهوية الوطنية بشكل عقلاني نظرا لتباين مجتمعاتنا وصعوبة الذات العربية التي تبدو صورتها في بلدان معينة معقدة جدا ومُجسَّدةً في “ذات ثقافية عربية مُشتركة” تتأسَّس على خصائص جوهرية تتحدَّد بالسلب والايجاب معا ً، عبر اختلافٍ يُميزها ويخرجها للعالم بصورة ذوات ثقافية أخرى تتميَّز عنها، أو تتعارض معها.
وهكذا صارت الذات العربية تبحث لها عن هوية راسخة جديدة فيها بعد ان بقيت مسكوت عنها زمنا طويلا ، انها قضية شائكة لم يتوغل فيها حتى اليوم الا بعض الباحثين بسبب عوامل نجهلها .. وستكشف الأجيال القادمة بأن الهوية الوطنية تتشكّل من مرآةً هائلة تظهر عليها صورا حقيقية للأنا العربية والـ ( نَّحن ) العرب اللذين سيتبديا بوصفهما مجالاً حيوياً لتكوين وعي جديد في المستقبل .. وعي وطني يدرك قيمة الاوطان العربية ( الباقي والمفتقد والمستلب ) وحدة غير متكاملة ابدا بفعل حدة العواطف وثرثرة الخطاب وشناعات السياسة وبلادة السلطة .. ويدرك انها هوية ذات شقّين اثنين : شق عربي لم يزل يتغنّى بالوطن العربي ( الذي لم يجتمع حتى اليوم على أي نوع من التكتل الكلّي ) ، وشق وطني هو واقع اعترف به اصحابه على امتداد القرن العشرين وهو يبحث في كل وطن.. نأمل بقاء وجود الشقّين الاثنين أمامَ تشكيلين متناظرتين يتبادلان الانعكاس الثنائي بين الثقافة، والهوية.
اننّي أجد الثقافة العربية متنوعة في تكويناتها والوانها المتعددة ، كأساس حقيقي شامل ، ولكن مع وجود ثقافات لأقليات متنوعة : القبطية والسريانية / الآرامية والعبرانية والاثورية والكلدانية والمارونية والكردية والامازيغية والتركمانية والصابئية والدرزية واليزيدية والجركسية والبلوشية والزنجية .. الخ وهذه المرآة مثقلة بالموجودات والمعاني والخصائص والاصول والاشكال والموروثات والتقاليد والتواريخ السكانية .. تجمعها كلها بيئتنا العربية . فالهوية تعكس هذا التنوع وتترجمها الى العالم تعبيرا عن واقع لا يمكن نكرانه . لقد مورس قهرا واقصاء للثقافات الاخرى ، مما ولّد ردود فعل قاسية لدى الملل والاقليات الاجتماعية في مناطق عربية خطيرة ، بل وخلق كراهية واشعل معضلات اهلية في العراق ولبنان ومصر والجزائر والاردن وسوريا والسودان والمغرب .. الخ اتمنى ان تتعزّز الهوية الوطنية لكل ابناء اوطاننا مهما بدا من اختلافاتهم الثقافية ، فلن تجمعهم الا الهوية الوطنية . انني لا اخشى على الهوية الوطنية من أي تحديات عولمية بقدر ما اخشى من تحديات تعّشش داخل حصوننا .. فهل سنعمل معا من اجل ترسيخ ضرورات التاريخ ؟؟
www.sayyaraljamil.com  
البيان الاماراتية ، 21 يونيو 2006

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …