الرئيسية / محاضرات / بنية الثقافة العراقية .. دراسة في الاجيال الراحلة

بنية الثقافة العراقية .. دراسة في الاجيال الراحلة

نص المحاضرة الشفوية المطولة التي ألقاها الاستاذ الدكتور سّيار الجميل في مجلس العمل العراقي ، على قاعة ابن ماجد بالمجمع الثقافي في العاصمة ابو ظبي مساء يوم الاربعاء 8 شباط / فبراير 2006 .. وقد قدّم للمحاضرة الاستاذ عيسى العزاوي . أما المحاضر فلقد قدّمه الاستاذ الدكتور بارق شّبر وحضرها لفيف من الشخصيات العراقية ووفد على مستوى عال من وزارة الثقافية العراقية ممثّلا بالاستاذة ميسون الدملوجي وكيل الوزارة الاقدم والاستاذ كامل شّياع مستشار الوزارة .. فضلا عن نخبة من المثقفين العراقيين والعرب .

تقديم
سيداتي سادتي
الاصدقاء الاعزاء
اسعدتم مساء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. انني سعيد جدا ان القاكم جميعا شاكرا للصديق الاستاذ الكبير طالب خان رئيس مجلس العمل العراقي على استضافته لي ، واثمّن جدا حضور الوفد العراقي الرسمي لوزارة الثقافة العراقية عالي المستوى ممثلا بالاستاذة ميسون الدملوجي وكيل وزارة اقدم والاستاذ كامل شيّاع مستشار الوزارة على مشاركتهما هذه الامسية التي اتمنى ان تكون لها قيمتها ونفعها وضرورتها .. ويسعدني ان اعلن للملأ انني ساتحّدى بمحاضراتي وقلمي كل من يعترض علّي وكل من لا يريد للعراق خيرا وخصوصا اولئك الذين جعلوا من انفسهم اوصياء على الاخرين في مدينة كسيحة كئيبة احالوا نورها الى ظلام دامس ، وانا أرى واسمع كل الذين وقفوا معي بوطنية وشرف للنضال من اجل وطن موحّد متمدن حر مزدهر ومتقدم . والكل لابد ان يدرك بأن العراقيين يؤسسون لهم كيانا جديدا في القرن الواحد والعشرين وان مجتمعنا يمر بتحولات جذرية ومخاضات صعبة .. وللمثقف دوره كما هو للسياسي ولكل انسان عراقي في هذا الوجود .. ولا ادري كيف صنعت الصدفة لأن تأتي محاضرتي هذه في تاريخ 8 شباط الذي يذّكر العراقيين بذكرى مؤلمة جدا ، ويذّكرني باصطدام ساخن جدا بين قوتين اساسيتين من المثقفين العراقيين قبل اكثر من اربعين سنة ، فالعملية لم تكن مقتصرة على سيطرة قطعات عسكرية او قصف رشقات جوية او معركة قوى بعثية بشيوعية .. وانما هي صراع دموي بين ثقافتين سياسيتين كانتا قد تأسستا في العراق منذ انبثاق الكيان السياسي للعراق دولة ومجتمعا في القرن العشرين – وساتناول ذلك بالتفصيل بعد قليل – .

المدخلات
ان هذا ” الموضوع ” الذي ساتحدث به اليوم سيخرج بعدة من الاستنتاجات التي اجدها وبتواضع كبير فلسفة عمل من اجل سيرورة الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين . ان محاضرتي هذه ساعالجها من خلال ثلاثة محاور اساسية : المدخلات في التنظير نظرا لحاجتنا معرفة ما الذي سأقوله في المحور الثاني الذي يشكّل عمودا فقريا للموضوع معالجا تركيب اجيال الثقافة العراقية في كل من القرنين التاسع عشر والعشرين ، ثم انتهى الى الاستنتاجات التي ازعم انها مهمة للغاية اذ انها ترسم ملامح او خطوط للمستقبل ان بدأ العراقيون خطواتهم في بناء المجتمع واصلاح السايكلوجيات واستعادة اللحمة الوطنية – وهي عندي – اهم بكثير من اي عملية اخرى في البناء الصعب ونحن نعلم بأن مهمة البناء هي الصعبة ازاء عملية الهدم السهلة .

(1) الثقافة والمثقفون : المصطلح والمضمون
ان الجذر التاريخي لاستخدام كل من مصطلح ” الثقافة ” ومصطلح ” المثقفون” شفويا وتحريريا لا يربو في حياة العرب على سبعين سنة من الزمن في الاعم الاغلب . والمصطلح بصيغته المتعارف عليه : كلمة مولدة ، اذ هي ترجمة للكلمة الانكليزية Intellectual وللكلمة الفرنسية Intellectuel التي يرقى استعمالها في الادبيات الانكليزية الى القرن السابع عشر ، ولكن تم تشكيل حمولتها على مدى اكثر من قرن من الزمن لدى الفرنسيين . والمصطلح بصيغته المرجعية في المضمون العام مشتق من Intellect الذي يرمز الى العقل في تشكيله او الفكر في بنائه ، وصاحبه هو الذي له ميل أو نزوع نحو الفكر ، وهو الذي اكتسب في حياته شؤون الفكر ، فاصبح في عداد أصحابه ، مقتربا في ذلك الى النشاط العقلي ، وهو الانتماء الاعلى لسمو الحياة .وان ذلك لا يتم ـ حسب المفاهيم الانكلوسكسونية ـ الا بواسطة التربية الاولى ثم من خلال آليات التربية العليا Education and high Education .
وبذلك ، فان هكذا مثقف يختلف في رؤيته وتفكيره عن ثقافة المجتمع والمحيط التي تدعى عادة بـ Culture الانكليزية أو الفرنسية . والمصطلح كان قد انطلق أصلا في معناه الحقيقي من ” فلاحة الارض ” ، ثم تبلور عن مجموع العمليات التي تمكن أساليبه المنظمة من استنبات ما ينفع الانسان والحيوانات الاليفة التي تحيطه .. ثم تطور معناها المجازي كي يعطي دلالات جديدة عن ” تنمية بعض الملكات العقلية بواسطة تدريبات وممارسات وتمرينات ” للانسان في بيئة معينة او مجموعة بيئات متنوعة ، حتى وصلت الدلالات لمضامين من نوع واسع في تعريفاتها التي منها : ” مجموع المعارف المكتسبة التي يتمكن الانسان بواسطتها من تنمية ملكاته في النقد والذوق والابداع واقرار الاحكام في الحياة ” ، أو هي بمعنى أوسع وكبيرآخر : ” اسلوب حياة للانسان في بيئة معينة وظروف ملائمة ولغة ( او : اكثر ) ..
وعليه ، فان المثقف ( أي مثقف بهذا المعنى او ذاك ) ، سيكون هو ذاك الذي اكتسب بالتربية والتعليم اولا وبالتدريب وفهم الحياة ابان مرحلة تكوينه التي لا تقل عن الثلاثين سنة بعد ولادته ، جملة من المعارف والاساليب التي تنمي قدراته وملكاته ، وعاداته وتقاليده ولغته في دواخل أي مجتمع يعيش فيه ، ويتميز المثقف هنا باسلوب حياته ونمط عيشه وتفكيره .. وعليه ايضا ، فان هذا المعنى لا يتطابق بالضرورة مع مفهوم المثقف الذي كان قد تجاوز صيغ اسلوب الحياة Culture للوصول الى حالة Intellectual كمفهوم أوضحنا سماته قبل قليل ، والذي يتسع ليشمل انساق النخبوية في المجتمع المدني لا الديني او الايديولوجي ، أي يشمل اولئك الذين يمتهنون العمل الفكري والابداعي والنقدي والسياسي والاكاديمي والتخصصي وحتى المهني .

(2) ” البنية الثقافية ” : المعنى والخصوصية
أما لماذا ” البنية ” ؟ فالبنية ( بكسر الباء ) والبنية ( بضم الباء ) سّيان لما بنيته ، والبنية : الهيئة التي بني عليها . وبنى فلان بيتا بناء وابتنى دارا . انشد الفارسي عن ابي الحسن :
اولئك قوم ، ان بنوا أحسنوا البنى وان عاهدوا اوفوا ، وان عقدوا شّدوا
( لسان العرب ، 14/ 94 ) .
اولا : البنيان المرصوص :
انها بنية متراصة لا يمكن ان اجدها في ثقافة ( او : تاريخ ثقافة ) اخرى الا بصعوبة .. في حين تتوفر كاملة غير منقوصة في الثقافة العراقية .. فهي بنية متراصة من انساق متنوعة ومتعددة لا حدود لها . والنسق لا يقتصر على شكل معين ، بل على مضمون واحد او عدة مضامين – كما تقول افكار ميشيل فوكو – .. وهذا ما لم نجده في ثقافات اخرى . هذه الانساق لم تجد نفسها بين يوم وليلة ، بل لها امتداداتها في اعماق الزمن البعيد ، لكي نجد بقاياها وبعض رواسبها حاضرة اليوم .. وتجسدها عادات وتقاليد لمكّونات اجتماعية ربما تتعايش معا في الظاهر ، ولكنها تتباين على اشد ما يكون التباين في الباطن .
ثانيا : الخصوصيات سر الجماليات :
لقد سمعت من بعض الاصدقاء نقدهم لعنوان هذه ” المحاضرة ” اذ انهم يعدون ثقافتنا العراقية جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية الواسعة ، فلماذا كل هذه ” الخصوصية ” والتأكيد عليها ؟ ويتساءلون : الا يعد ذلك خروجا عن سياق التكوين الثقافي في العراق ويؤسس لشعوبية جديدة ؟ وانني اجيبهم – سامحهم الله – لاختزال الوقت بأن عليهم ان يتعرّفوا على معاني الخصوصية والشعوبية ويتأملوا طويلا في الوان الثقافة العراقية التي تعتبر تواريخها وجغرافياتها مستقرا للثقافة العربية كلها منذ ازمان وازمان ، ولكن ثمة خصوصيات تتمتلكها الثقافة العراقية مع اعتزازنا بالعروبة وبثقافتنا العربية ، ولكن لو قورن العراق بغيره لوجدنا ان ثمة ثقافات عديدة تنتشر في العراق منها ما يعود الى الاف السنين لاقوام لم تزل تزاول ثقافتها في الكنائس والاديرة التي يعود تاريخها الى القرن الاول لميلاد السيد المسيح .. وهناك ثقافة نهرية لدجلة للصابئة المندائيين التي لم تزل حية ترزق حتى يومنا هذا من دون الاخرين .. وهناك لغة وثقافة كردية عراقية لها تميزها ليس على مستوى تقاليد الناس حسب ، بل ثمة مجمع علمي للاكراد ومثله للسريان الاراميين في العاصمة بغداد .. وثمة ثقافة تركمانية لها خصوصيتها وعراقتها وخصبها .. ثمة تقاليد ثقافية عراقية يتميز بها اليهود العراقيون ومازالوا يتشبثون بها حتى وهم في اسرائيل .. ثمة ثقافات مغلقة لدى بعض العراقيين لكل من اليزيدية في الشمال والمعدان في الجنوب .. ثمة تباينات واسعة في ثقافة العراقيين العرب من منطقة الى اخرى ومن مدينة الى اخرى .. الخ كل هذا وذاك لا نجده في اي مجتمع عربي مهما بلغت به التنوعات ولنأخذ لبنان مثلا في المشرق او الجزائر في المغرب .. لا نجد فيهما ما نجده في العراق ، فليفقه كل العراقيين ما نقول فمن الضرورة ان تعترف الثقافة العربية نفسها بأن الثقافة العراقية هي المصدر الاول لمواريثها قاطبة منذ الاف السنين .. وينبغي على العراقيين ان يدركوا ان تنوعات ثقافتهم هي سر جماليات تلك الثقافة .
ثالثا : انعدام الانسجامات وتلازم الانساق
وعليه ، فان بنية الثقافة العراقية تختزن في داخلها تنوعات فاعلة تعمل على الارض وهي متعايشة برغم انعدام تجانساتها .. ان الانساق الثقافية العراقية غير متجانسة ابدا ، ولكنها مترابطة مع بعضها البعض ترابطا عضويا ولا يمكنها ان تنفصم ابدا ، فالنسق – اي نسق – لا يمكنه ان يحيا لوحده من دون ترابطه بالنسق الاخر . دعونا نتوقف قليلا عند الانساق المتباعدة اذ اجد ثمة افتراقات واسعة داخل بنية المجتمع العراقي كانت سببا في نتاج تناقضاته التي لا تنضب ابدا ، وهي بحاجة الى سياسات مجّردة من كل ميول او اتجاهات .. من كل ما يتعلّق بتعاطف قبلي او بيئي او جهوي ..
لنعترف ان ليس هناك اية انسجامات ثقافية بين ثقافات المدن والريف والبادية ( واذا كان الراحل الكبير علي الوردي قد اعتمد في نظريته العراقية على ثنائية البداوة والحضر متأثرا بابن خلدون قبل اكثر من ستة قرون ، فأنني اعتمدت في الابعاد الثلاثية في نظريتي العراقية : المدينة والريف والبادية .. وقد وافقني الراحل الوردي قبل رحيله على ما كتبت ) . من طرف آخر ، ينبغي ان نعترف ان ليس هناك انسجامات بين ثقافة عرب الشمال عن عرب الجنوب وبين ثقافة ابناء الجزيرة الفراتية عن ابناء الفرات الاعلى عن ابناء الفرات الاوسط عن ابناء الجنوب .. بل لنعترف –ان اسرار قوة الثقافة العراقية في الوانها ومصادرها وطبيعة تكويناتها ومنتجاتها لاجزاء جغرافية طولية ثقافة شرق دجلة اللواحقية التعددية وثقافة ما بين النهرين الاساسية والمختلطة وثقافة غرب الفرات البدوية .
رابعا : انسجام الاساليب
لنعترف بأن ليس هناك انسجامات ثقافية في اسلوب حياة العراقيين بين ثقافة المسيحيين العراقيين الارامية الكلدانية ام السريانية ام اليعقوبية ام الاثورية .. وثمة ثنائية ثقافية للاكراد السورانيين والاكراد البهدينانيين .. عن ثقافة الكرد الفويليين المتنوعة .. ثمة ازدواجية بين ثقافة التركمان المدينية والقروية .. وهناك ثقافة الصابئة العراقيين النهرية عن ثقافة اليهود العراقيين القديمة عن ثقافة اليزيديين المغلقة عن ثقافة الشبك المتشابكة بين الثقافات المحلية عن خصوصية ثقافة الارمن الاقلية العراقية .
لنعترف بالوان الثقافات المحلية والجهوية والهامشية .. ثقافة البغداديين الملونة بشتى الالوان وثقافة البصرة الجنوبية التي تمثّل رأس الخليج وثقافة الموصليين بخصوصيتها الجامعة للاطياف وثقافة محليات الكركوكيين والنجفيين والكربلائيين واهل الحلة واهل الناصرية واهل الكوت وديالى والدليم .. ثقافة اهل الجبل وثقافة اهل الهور ( = المعدان ) وثقافة العشائر وثقافة القبائل وثقافة القرويين وثقافة البادية وثقافة مدن الفرات الاعلى وثقافة قرى دجلة الاوسط .. الخ
خامسا : تصنيف آخر من الثقافة
هناك تصنيف آخر من الثقافة حيث تنتشر الوان لا حصر لها من ثقافات الطبقات والمهن والاعمال الحرفية والوظائف الرسمية المدنية والعسكرية .. ثقافة باشوية قديمة وثقافة بكوية متوارثة وثقافة التجار الجلبية وثقافة الافندية وثقافة الملالي وثقافة علماء الدين وثقافة المعلمين وتلحق بها للمحامين والاطباء والمهندسين والاساتذة الجامعيين والضباط العسكريين والفنانين .. انتقالا الى ثقافة المزارعين والعمال الكادحين وثمة صراع من نوع ما بين العسكريين والمدنيين العراقيين ، فكل منهما يرى نفسه افضل من الاخر ، بل وان التناقض واضح جدا بين ابو خليل وابو اسماعيل .. ثمة ثقافة للفقراء والمسحوقين .. اما ان توغلنا في الثقافة الاجتماعية وتغلغلنا في عالم المرأة العراقية لوجدنا ان ثمة ثقافة نسوية عراقية متنوعة هي الاخرى وخصوصا عند الطبقتين العليا والوسطى في المجتمع ناهيكم عن ثقافة المرأة لدى الطبقات الفقيرة .
سادسا : خطايا العراقيين
كنت اتمنى لو كانت هناك سياسات عراقية حقيقية من قبل الدولة التي عاشت في القرن العشرين بنظاميها السياسيين الملكي والجمهوري لتأسيس ثقافة عراقية حقيقية تتنوع فيها كل الصنوف ، ولكن تجديدها على نحو مدني معاصر تحل الانسجامات بدل الخلافات ، وتتمفصل التشابهات بديلا عن التباينات .. كنت اتمنى على الحكومات العراقية المتعاقبة ان تجمع العراقيين على قيم ثقافية مدنية مشتركة تخلصّهم من كل بقايا الماضي وترسبّات التاريخ ووعثاء التمذهبات .. كنت اتمنى ان يقوم الاعلام العراقي بدور مؤثر في تأسيس تعايشات ثقافية وردم الهوة الاجتماعية بين الطبقات وتعزيز الاتجاهات الانواع .. كنت اتمنى ان تنشغل كل الحكومات والاحزاب العراقية بما هو حيوي اجتماعي بدل الانشغال بالمناصب والصراعات السياسية والثقافات الايديولوجية .
سابعا : من هو المثقف ؟
ان لفظ ” مثقف ” والذي يتم استخدامه اليوم في لغتنا العربية المعاصرة هو لفظ مولد ـ كما هو معروف ـ ، اذ لايمكن العثور عليه في الادبيات العربية القديمة ، وهو اسم مفعول من الفعل ” ثقف” ، أي : بمعنى : حذق . فلقد جاء في ” لسان العرب ” : ” ثقف الشيىء ثقفا وثقافا وثقوفة : حذقه . ورجل ثقف ( بفتح الثاء والقاف ) وثقف ( بفتح الثاء وكسر القاف ) وثقف ( بفتح الثاء وضم القاف ) : حاذق فهم ..” ولم نعثر أبدا على لفظ ” مثقف ” . أما لفظ ” الثقافة ” ، فقد ورد كمصدر : بمعنى : الحذق . يقولون : ” وثقف الرجل ثقافة : أي : صار حاذقا خفيفا ” ، أي : ماهرا ، وبرغم وجود أصله في اللغة العربية القديمة ، الا أن استخدامه كان نادرا . أي بمعنى : الحذق في أي صنعة من الصناعات المادية والفكرية ( لسان العرب ، 9 / 19 ) . والمثقف عندي كلمة صعبة لا يمكن ان تطلق على من هّب ودّب حتى ولو كان هذا من حملة الشهادات العليا ، فالشهادة لا تمنح صاحبها اية ثقافة . المثقف الحقيقي هو المحترف الحاذق الذي يمتلك مهارات متعددة في القول والفعل وتحمّل المسؤولية والمعلومات والارادة والتعبير عن ضمير المجتمع اصدق تعبير لا ان يكون اي ذيل لأي سلطة او نظام او دكتاتور اي انه يقع تحت سطوة اي ايديولوجية ومذهب وطائفة وقبيلة وحزب ومعتقد .. اذن الثقافة هي الحذاقة وقوة الشخصية واستقلالية الرأي وصحة المعلومة وسلامة التفكير وحداثة الفكر وتجديد المعاني وخصب العطاء وروعة الابداع .
ثامنا : حاجتنا الى الفصل بين الدلالات
وعليه ، فان ” الثقافة ” مصطلحا ومفهوما ، دلالة ومضمونا ، حاضرا وتاريخا لم يكن لفظا متوازيا مع ما يستخدمه العرب اليوم في لغتهم الحالية وخطابهم المعاصر ، فلا هي ” الثقافة” كما عرفها العرب القدماء ، ولا هي ” الثقافة” التي نجدها في اللغتين الاساسيتين : الانكليزية والفرنسية اليوم . ولابد من الفصل بين الدلالات ، للوقوف على المعاني الاساسية التي نريد االمقاربة منها. واذا كانت المجامع اللغوية والعلمية العربية لم تفصل حتى يومنا هذا بين هكذا مفاهيم ومصطلحات ، وبقي الخطاب العربي المعاصر لا يميز بين ” الحاذق ” وبين ” المتربي ” وبين ” المتكوّن ” وبين ” المفّكر” وبين ” المهني ” وبين ” صاحب اسلوب حياة ” .. التي يجمعها كاملة مصطلح ” المثقف ” .. فان الحاجة والضرورة الاساسية باتت تطالبنا نحن العرب وخصوصا عند من يكتب تاريخ الثقافة العربية الحديثة ، أو الباحث المتوّغل في أي جزئية منها أن يراعي هذا الجانب الحيوي ، لأنه سيفصل في تفكيره وبحثه وخطابه بين ما هو حقيقي من المفاهيم وما هو غير حقيقي من المصطلحات أو يكاد ان يكون دارسا حاذقا ان يجمع الاثنين في درس متنوع المضامين .
تاسعا : مصطلح النخبة
أما مصطلح ” النخبة ” ( وجمعها : نخب ) فهي من انتخب الشئ واختاره . والنخبة : ما اختاره منه ، ونخبة القوم ونخبتهم عند اللغويين العرب : خيارهم . قال الاصمعي : يقال هم نخبة القوم ، بضم النون وفتح الخاء . وقال ابو منصور وغيره : يقال نخبة ، باسكان الخاء . واللغة الجيدة ما اختاره الاصمعي . ويقال : جاء في نخب اصحابه اي في خيارهم . ونخبته ، أنخبه اذا نزعته . والانتخاب : الاختيار والانتقاء ، ومنه النخّبة ، وهم الجماعة تختار من الرجال ، فتنتزع منهم . وفي حديث علي بن ابي طالب ، وقيل لعمر بن الخطاب : وخرجنا في النخّبة ، والنخبة ، بالضم : المنتخبون من الناس ، المنتقون . وفي حديث ابن الاكوع : انتخب من القوم مائة رجل ، ونخبة المتاع : المختار ينتزع منه (لسان العرب 1/ 751-752 ) .

(3) جذور ورموز وبقايا
اولا : الارض الكلاسيكية : الجذور الاولى للعالم
العراق هو الارض الكلاسيكية كما وصفتها في دراستي لرحلة جوستن بيركنس ، أو الارض الطيبة كما وصفتها في دراسة اخرى .والعراق في جغرافيته المركزية من العالم كله ، هو انتاج لعبقرية المكان الذي سماه الاغريق ببلاد وادي الرافدين .. انه ميزوبوتيميا العريقة جدا بين النهرين العظيمين الأزليين : دجلة والفرات حيث بدأ الإنسان في وجوده وتفكيره واستقراره وتنظيمه .. فلا غرابة ان تكون هذه النقطة او الفجوة المركزية في جيو تاريخية العالم كله بؤرة للتوتر والصراع والحروب ، نظرا لكونها بؤرة للتجمع والالتقاء البشري من كل اصناف البشر . وعليه ، فان ميزوبوتيميا العراق كانت على امتداد الاحقاب التاريخية مركزية جاذبة وطاردة لمختلف العناصر البشرية والثقافات والمعاني والاشياء .
هذا هو الرد الحقيقي على الذين يتهمون أهل العراق حتى اليوم ومن ابناء عروبتنا بالكفر والنفاق وسيىء الاخلاق باطلا ، وحاشا أن يكون اهل العراق كذلك الا الاعتراف الشجاع بتبدلاتهم بين زمن واخر وتلوناتهم من عهد لاخر وبروزهم ايام مجدهم وتطورهم باصحاب الثقافة الراقية ووصفهم ايام تشتتهم وضعفهم باصحاب الثقافة المتوحشة .. وهذا ما ينبغي الاعتراف به علنا . وهو رد على الذين يتهمون مناخه القاري بشتى النعوت والصفات ، فاذا كان مناخ العراق قد أثر في الامزجة والعواطف والمواقف والالوان ، الا أنه منح أصحابه القوة والجلد وخصب التفكير والانشداد والانفة والكبرياء .. وهو رد حقيقي على من يقول بأن اللعنة الازلية لاحقت وسوف تلاحق العراقيين .. لا أبدا ! فهم ليسوا من عجينة واحدة ، وهم ليسوا من بيئة جرداء ، وهم ليسوا من ارض خاملة ، وهم ليسوا بلا ثقافات او بلا تواريخ وحضارات ، وهم ليسوا بلا تواصل او بلا علاقات او بلا مسالك او بلا ارتباطات !!
ثانيا : النخلة : رمز العراق
بلاد ما بين النهرين تشتمل على بيئتين مترابطتين : أرض السواد امتدادا نحو اعالي بلاد الجزيرة الفراتية وجبال كردستان وحتى أعماق البحر جنوبا داكنة الاخضرار ، ويكفي أن ملايين اشجار النخيل قد عرفت منذ عهود السومريين ، وكانت النخلة ولم تزل عنوان العراق ورمزه في الوجود ( وكم تمنيت وطالبت مرارا ان تكون النخلة رمزا في علم العراق كما هو حال ارزة لبنان ) والنخلة : هي الشجرة الوحيدة التي بحاجة الى ان تمد جذورها في الاعماق ، ولكن ليس في أي تربة ، انها بحاجة الى التربة القوية المتماسكة .. والنخلة في العراق لا تحتاج الى أن تسقى بالماء .. لأن العراق يطفو على الماء ، فمنذ ملايين السنين والماء يجري في الفراتين والزابين وعشرات الانهر والشطوط والبحيرات والاهوار .. والنخلة العراقية هي الام الرؤوم بشكلها الباسق الفارع في الاعالي حيث تنثر شعرها بجمالية لا تضاهى . ولقد تنوعت الطبيعة العراقية ورسمت لوحاتها على نحو متنوع وغاية في الجمالية والتصوير الخلاق : جبال وسهول وسهوب وهضاب وشواطىء وصحراوات وواحات .. وكانت الشمس العراقية متميزة هي الاخرى بحيث كانت اله عبادة وتقديس عند العراقيين القدماء ، كما وعدّ شهر تموز شهرا عراقيا له خصوصيته تنجذب اليه احداث الحياة والتاريخ المريرة منذ العصور الغابرة .
ثالثا : البلاد المركزية للثقافة البشرية :
في اجتماعات اللجنة العليا الخاصة بتحرير موسوعة تاريخ الثقافة البشرية عن اليونسكو قبل 15 سنة ، وكنت مشاركا فيها سجلنا والعديد من المؤرخين الدوليين بأن العراق هو الارض الكلاسيكية العريقة التي عرفت نفسها لاول مرة في العالم كونها ( بلاد ) في التاريخ .. فهي بلاد عرفت استقرار الانسان لأول مرة في وجوده عند ضفاف الانهار المركزية للعالم . وانها بلاد اكتشفت فيها الزراعة ، ونشأت فيها أول تجارب لتجمعات اجتماعية .. وهي بلاد اكتشفت القرية فيها والتي تطورت اولى التجمعات الانسانية .. وبلاد اكتشفت فيها أول مدينة ممثلة بأور ، وأول دولة في التاريخ ممثلة بالسومريين الذين عرفوا العجلة والري .. وبلاد اكتشفت فيها الكتابة لأول مرة ، ومنها الكتابات المسمارية القديمة التي سجلوا بها تاريخهم الاول واساطيرهم واشعارهم وافكارهم .. وبلاد اكتشف فيها القانون لأول مرة ممثلة بقانون حمورابي ومسلته الشهيرة ، وبلاد عرفت الثقافة والابداع في النصوص والخطوط والرسوم والطهي والتنظيم والتسلح وفن العلاقات .. وبلاد عرفت فيها الموسيقى لاول مرة في التاريخ ، فالسومريون اول من اكتشف آلة العود بوترين ، وبلاد عرفت المكتبات في الوجود فيها مكتبة آشوربانيبال بنينوى العاصمة الكبرى للاشوريين ، وبلاد اكتشف فيها الجيش وتنظيماته الحربية لأول مرة في التاريخ ، وبلاد الجنائن المعلقة احدى عجائب الدنيا السبع في بابل ، وبلاد عرفت منذ القدم بالملاحم والمدونات والاساطير ، وبلاد فيها أول قصة للطوفان التي ترويها ملحمة كلكامش الاسطورية . وهي بلاد امتدت منها اغلب الاساطير والاديان ، اذ أنبثق فيها أبو الانبياء ابراهيم والعديد من الانبياء ، وبلاد غدت قاعدة مركزية أساسية لانطلاق الاسلام نحو العالم في الشرق الفسيح ، وبلاد برز فيها أعتى شعراء العربية ، وبلاد برز فيها أبرز أئمة المذاهب الاسلامية ، وبلاد نبت فيها أعظم علماء الكلام والفلسفة والترجمة والمنطق ، وبلاد ظهرت فيها أعظم مدارس النحو العربي واللغة العربية ، وبلاد انجبت أعظم العمالقة من الشعراء العرب ، وبلاد استقطبت كبار المؤرخين والجغرافيين والمفسرين والفقهاء والاطباء والرحالة والكتاب والفلكيين والكيميائيين واللغويين والموسيقيين .. وبلاد تكاثر فيها عدد الزهاد والمتصوفة في العديد من طرائقهم واساليبهم ومنتجاتهم . ولكنها بلاد تعاني اليوم من اقسى حالات الجهالة والقسوة والتخّلف كونها ارتدت بسرعة مخيفة نحو الاسفل بكل امراضها واوجاعها واحزانها ومآسيها .
رابعا : بلاد التحديات القاسية
انها البلاد المركزية للثقافة البشرية الاولى منذ جذور التاريخ ، وانها البلاد المركزية للثقافة العربية والاسلامية على امتداد العصور الوسطى ، وانها البلاد المركزية لكل الخصب والنماء والشمس والماء ولكل الطاقة في الظاهر والباطن .. وقد انتجت وازهرت على امتداد القرون جملة من الوان الثقافات نظرا لمن تعايش فيها من اصناف الطوائف والمذاهب والديانات والعناصر والقوميات في بنية جغرافية واحدة .. ولكنها بلاد حلت بها اقسى التحديات ، ومرت باعتى الكوارث والنكبات والفيضانات والمجاعات والطواعين ، وتعرضت لاشرس عوامل القهر والحملات والحروب والحصارات ، وعانى الانسان في العراق أقسى أنواع المعاناة وحمل بقاياها في ثقافته واساليب حياته وتصرفاته وترديد حكمه وأمثاله واستمرار طقوسه وعاداته وتقاليده اليوم .. وما زال يحمل على كاهله ثقل التاريخ وسطوة الجغرافية ولعب السياسات وآثار الحروب الصعبة ودمارات السايكلوجية المزدوجة وكل اغترابات الماضي . ولقد توزعت كل هذه وتلك على الوان تكويناته الاجتماعية واطيافه السكانية .. فهي بنية لثقافة معقّدة جدا وعلى اشد ما يكون التعقيد ، وهي بحاجة ماسة الى من يتوغل في انساقها لمعرفة مواطن الخلل المستحكمة . وكنت أتأمّل ان يقف الدارسون العراقيون من الاكاديميين والعلماء السوسيولوجيين وقفات علمية حقيقية على غرار تجربة الاستاذ الوردي ، ولكنهم انشغلوا بالتنظيرات السياسية والمؤثرات الايديولوجية هربا من توضيح ادران الثقافة العراقية المعاصرة بشتى معطياتها في المجتمع ، والاستفادة من المنتجات الثقافية العراقية التي تعّبر عن حياة المجتمع وتلمّس ما ينفع ويضر !
خامسا : الثقافة العراقية المتوحشة
انه بقدر ما نخّلد الصفحات الناصعة في تاريخ ثقافتنا العراقية ، فاننا لابد ان نفصح عن بقايا ثقافة متوحشة يختزنها العراق ممثّلة في اساليب وتصرفات وافعال واقلام وقرارات وافكار عراقيين متنوعين يمّثلون هذا الجانب من الفكر المتوّحش .. وبقدر ما أؤمن بتأثير البداوة التي رسّخها الاستاذ الوردي ، بقدر ما اقول بأن بقايا التاريخ تفعل فعلها اولا ، ثم تأثير العناصر الوافدة من اعماق الشرق ثانيا .. وقساوة التحديات واوضار الحياة عند بعض العراقيين تجعل منهم بشرا يحمل ثقافة متوحشة . ان هجرة وهرب وتعذيب ومصرع العشرات بل المئات من المثقفين العراقيين المعاصرين تجد في التاريخ امثلة ساطعة على هرب الامام الشافعي من بغداد الى القاهرة واعدام المتصوف الحلاج في بغداد وكان للامام ابن حنبل محنته وللامام ابي حنيفة النعمان سجنه .. ولا يمكن ان نتخّيل كيف وضع ابن المقفع على مسامير في تنور مسجور ! وكيف قتل الشاعر المتنبي في الصحراء غيلة !
انني استنكر من هنا ثقافة التوحش التي تسود العراق اليوم بعد سلسلة من الاحداث البشعة والازمنة المرعبة التي مرّت بالعراقيين على مدى نصف قرن من الزمن .. اليوم هو نتاج الامس ، فكم سقط من المثقفين العراقيين ؟ وكم قتل من الاكاديميين العراقيين ؟ وكم تشّرد مهاجرا او نازحا او هاربا من المبدعين والمختصين العراقيين ؟ انني اشّدد على اهمية دور الثقافة والمثقفين الحقيقيين في استعادة روح المدنية والتحضّر للعراق والعراقيين . انني انادي بضرورة السعي من اجل احلال ثقافة انسانية متسامحة بديلا لثقافة العنف والتوّحش التي تبلورت بشكل لا يليق بالعراق والعراقيين . ان ما حدث بعد سقوط الدكتاتورية يختلف كثيرا عن حلمي الذي عشت من اجله بالعراق والعراقيين ! علينا ان لا نكتفي بما هو معروف في المدن الاساسية ، بل علينا ان نتعرف عن ثقافة العراقيين في افقها الواسع وهي الكيفيات التي يعيش عليها كل العراقيين سواء في شرق دجلة ام في ما بين النهرين ام في غرب الفرات .. وكيف نرفع مستوى الشعب الى ان يكون في مستوى راق كما كان يتحّلى بقيمه وتقاليده .. على العراقيين ان ينفتحوا على العالم وان يعودوا الى حياتهم الطبيعية من دون ان يغتالهم الخوف .. من اجل هذا كله كنت قد طرحت على الملأ مشروع فترة نقاهة للعراق والعراقيين لا تقل عن اربع سنوات قبل الانتقال الى الحكم البرلماني حتى نداوي ونعالج جراحات المجتمع ونستعيد الثقة بكل العراقيين .. ونعمل على تحقيق استحقاقات العراق لما بعد الحرب .. ولكن هذا لم يتحقق مع الاسف ، فكان ان طبخت الاحداث بسرعة .. وع كل هذا وذاك ، فثمة كيفيات تجعل للكفاءة مكانا في قيادة العراق باستشارة اهل التجارب والمثقفين والتكنوقراط الذين لا علاقة لهم بأي توجّه او حزب او جماعة او ملّة .. ما ضرّهم لو حدث ذلك ؟ لماذا يتصارعون مع تغييب المثقفين العراقيين الحقيقيين الذين يدركون ما يحتاجه العراق من دواء ؟

(4) العراق : المجتمع / الثقافة / المصادر
لقد عاش المجتمع العراقي حياة صعبة وغير متكافئة أبداً أبان العهود العثمانية، وقد تفاقمت المشاكل السياسية والإدارية في بغداد وبقية الأقاليم العراقية كثيراً، وانعكست تلك الظروف والأحوال على الأوضاع العلمية والمضامين الأدبية والثقافية، وعلى الأخص في القرن التاسع عشر الذي تبلورت خلاله عدة أسر عراقية تكاملت بنيتها المتوارثة، وتصاهرت في أنسابها وفروعها، فتفاعلت أساليبها وطرق تفكيرها وخصوصياتها الفئوية والاجتماعية على الرغم من بعض الخصومات وصراع المستويات وتباين المرجعيات.
ويبدو لنا من خلال التاريخ المقارن، أن علماء بغداد ومثقفيها وأدبائها خلال القرن الثامن عشر كانوا قلة مقارنة بما كان عليه الحال في كل من مدينة الموصل الجليلية ومدينة النجف الاشرف ( وكم وجدت من مبادلات ومساجلات ادبية وثقافية وشعرية بين الموصل والنجف مذ بدأت بالشاعر عبد الباقي الفاروقي ومّرت بالشاعر حسن عبد الباقي الموصلي وانتهت بالموسيقار الملا عثمان الموصلي ) ، الا أن بغداد ستبدأ حياتها الادبية والنهضوية منذ عهد الوالي داود باشا في بدايات القرن التاسع عشر ، فيزداد عدد علمائها ومؤلفيها ومدرّسيها وأدبائها بشكل ملفت للنظر . وستختص بعض الاسر البغدادية العريقة بذلك ناهيكم عن تبلور عامل آخر شكّل رافدا من روافدها ، الا وهو : هجرة عدد كبير من العلماء الشعراء والمدرسين والمتصوفة إليها، وتوضح لنا المعلومات وبعض المخطوطات أنهم جاءوا من الموصل وبلاد الشام ونجد وبلاد إيران ومن الهند وقفقاسيا والأناضول .. فبرز على أيدي البعض منهم عدة رجالات وشخصيات بغدادية وعراقية مرموقة ، كانت هويتهم عراقية صرفة ، وكان انتماؤهم لوطنهم العراق كبيرا جدا ، اذ عملوا على رقي مجتمعه وازدهار ثقافته من جميع النواحي . ويتطور فضاء الحوزة في النجف بتخريجها العديد من العلماء والادباء .. ويكثر الشعراء في العراق ابان القرن التاسع عشر كثيرا .
إن التنظيمات الإصلاحية والإجراءات الجديدة مع أفكار نهضوية تبناها البعض من الولاة كداود باشا ومدحت باشا، لم تؤثر في سياقات الحياة الثقافية العراقية، فقد بقيت الأساليب الإنشائية القديمة على حالها والتقليد الدراسية على منوالها حتى مع تأسيس المدارس الرشدية العثمانية، واستمرت المضامين الفكرية والشكليات الأدبية على وتيرتها دون أي تغيير أو إصلاح يذكر على مستوى الذاكرة والخطاب!! صحيح جداً أن فجر الثقافة العراقية قد انبثق على عهد داود باشا 1817-1831م، إلا أن نورها سيتأخر بزوغه طويلاً حتى الحرب العالمية الأولى وبدايات القرن العشرين ، ومع اطلالة النهضة العراقية المعاصرة عند تشكيل الدولة ومؤسساتها بعد عام 1921.
لقد استفدت كثيراً من مصادر ومراجع تاريخية وأدبية وبايوغرافية عدة، وقد أفادتني بعض المخطوطات والمجاميع والدواوين الشعرية والأوراق الأسرية القديمة لعدد من عوائل بغدادية وموصلية وبصرية ونجفية وكربلائية وكركوكلية وكردية معروفة فضلاً عن بعض الدراسات والرسائل العلمية وبعض الكتب والمقالات، إن الحاجة ضرورية لمعرفة ما يكمن في بعض المكتبات العراقية المرموقة وما خلفته أجيال القرن التاسع عشر من المثقفين العراقيين الذين ما زالت بحوثنا ودراساتنا عنهم قليلة جداً وليس لنا منها الا النزر اليسير. وكم سيكون الامر مريحا لو تقصّى بعض الدارسين والباحثين المحدثين ادوار رجالات من المثقفين العراقيين النهضويين في اماكن عديدة من العالم الاسلامي كالدولة العثمانية وايران القاجارية وهجرة بعضهم الى مصر الخديوية ، وحتى في اوروبا وهم كثر لم ينفض البحث التاريخي عنهم اردية النسيان والاهمال تحت حجج واهية وخصوصا ابان القرن التاسع عشر ، فلابد لأي عراقي أن يتساءل عن الادوار التاريخية التي جسدها مثلا رجال مثل : مصطفى ذهني باشا بابان وسليمان نظيف بك ومحمود شوكت باشا ومصطفى باشا ياملكي وسامي باشا الفاروقي وعزت بك خندان وسعيد باشا خندان ومعروف الرصافي واحمد عزت الاعظمي وعلي افندي الجميل ومحمد حبيب العبيدي وفاروق الدملوجي وغيرهم كثير في العاصمة العثمانية استانبول .. او ادوار كل من الفريق اسماعيل حقي باشا ومحمد امين الكردي ومحمد الكاشف ابو كل من عائشة التيمورية واحمد تيمور باشا وهناك الموسيقار الملا عثمان الموصلي والفنان نجيب الريحاني والشاعر عبد المحسن الكاظمي وغيرهم في مصر ، فضلا عن ادوار مثقفين عراقيين ومبدعين نهضويين كان لهم شأنهم في بلاد الشام .. اضافة الى ادوار علماء ومثقفين عراقيين متميزين وصلوا الى اوروبا وبلغوا فيها شأوا كبيرا في القرن التاسع عشر ، ومنهم : رسول مستي افندي واقليمس يوسف داود وحنا رسام وهرمزد رسام وغيرهم ، ان اسماء هؤلاء العراقيين تعيدني الى ذكر اسماء أخرى لمثقفين عراقيين كبار اشتهروا في القرن السادس عشر ، امثال الشعراء فضولي البغدادي وفضلي وشمسي وعهدي وغيرهم كثير .. او في القرن السابع عشر عندما نذكر الياس بن حنا الموصلي الذي يعتبر اول مستكشف اسيوي يصل الى امريكا اللاتينية ويضع سفرا خالدا عن استكشافه ذاك ، وايضا بالمستشرق يوسف عتيشه الذي غادر العراق ودرس في المانيا واصبح من كبار علمائها وغيرهما . ويعتبر القرن الثامن عشر من اثقل المراحل التاريخية في حياة العراق الثقافية لما حدث وظهر فيه من آثار وحركات وكتابات وتواريخ وعلاقات .. الخ
إن مصادر تاريخ بغداد خلال القرن التاسع عشر ، تفصح كثيراً عن جملة من الأشكال والمعلومات والنصوص والروايات والأخبار والأشعار ، التي يحتاج لمعرفتها حاضرنا في نهايات هذا القرن، فلقد كانت منتجات القرن التاسع عشر الأدبية والكتابية العراقية تعكس إلى حد كبير حالة المجتمع، وهي أكبر بكثير مما أنتجه العراقيون في القرن الثامن عشر! ولا بد من القول، أنه لا يمكننا البتة معرفة مفاصل الثقافة العراقية المعاصرة اليوم وكشف دواخل المجتمع العراقي الحديث من دون الاضطلاع بأدبيات العراق ومصادره التي أنتجها رجالاته ومثقفوه الاوائل في القرن التاسع عشر.

(5) المجايلة التاريخية لانتلجينسيا العراق :
الاستنتاجات : الخصوصية والمواصفات
ثمة تساؤلات لا بد من إثارتها: لماذا بالضبط دور المثقفين في بناء العراق المعاصر، فضلاً عن مكانتهم الأساسية في طبيعة سيرورته التاريخية لكل من الدولة والمجتمع؟ ولماذا نطرح هذا الموضوع في هذه الأيام بشكل خاص؟ ولماذا لم نسمع أو لا نكاد نسمع عن مثل هذا الموضوع في بلاد أخرى عربية كانت أم أجنبية؟ هل لكون المثقفين في تلك البلدان لم يطرحوا أية مشكلة أم أنهم لم يقوموا بأي عمل تاريخي محدد؟ أم لأن مشاكلهم وقضاياهم وأدوارهم ليس بالقدر الذي يهم تلك البلدان مقارنة بما هو عليه الحال في تاريخ العراق المعاصر؟ وهل ثمة خصوصية متميزة في حياة الثقافة العراقية والمثقفين العراقيين على امتداد اجيالهم منذ بدأ تكويناتهم الاولى وبلورة تشكيلاتهم وتصانيفهم وطبيعة علاقاتهم وخصب منتجاتهم على امتداد القرن العشرين ؟
نجيب على هذه التساؤلات قائلين : نعم ، ثمة خصوصية عراقية في هذا المجال تمتاز بها الأجيال العراقية منذ مطلع القرن العشرين وعلى امتداد عقوده ، توضحها وتحللها وتبحث في خضمها فصول هذا الكتاب ، والواقع أن إثارة مثل هذا الموضوع، يعني في الأساس : طرح مسألة أزمة المثقفين العراقيين ومكانتهم ودورهم التاريخ العربي المعاصر ، وهي حالة استثنائية لها مقوماتها وعناصرها وآفاقها ومضامينها، وقد كان العراق ولم يزل يمتلك خصوصيته المتفردة في القرن العشرين وعلى امتداد مراحل اربعة أجيال من المثقفين تميزت بتواصلها وحيويتها، وكانت لها منتجاتها الاجتماعية، ومواقفها الفكرية، ونضالاتها السياسية، وأدوارها القومية والوطنية، ومعطياتها الثقافية، وإبداعاتها الفنية، وتجلياتها الأدبية، واهتماماتها الرياضية، وحركتها الكشفية، وتدريباتها العسكرية(= الفتوة)، ناهيكم عن تعدديتها السياسية وتنوعاتها وخلافاتها وانقساماتها التي أنتجت نفسها يوماً بعد آخر بما أتاحته مؤثراتها الصعبة في نصفين اثنين من القرن العشرين .
وقد كان لنخبة العراق من المثقفين المتنوعين الدور الفعال ليس على المستوى الوطني حسب، بل اندفعت تتجلى على أرض الشتات لا أرض العروبة حسب متميزة بتفوقها ورصانتها في ميادين عدة. وكان للمرأة العراقية دوراً مؤثراً في البناء والمعاصرة، وعلى نحو ريادي أو نخبوي أو فئوي أو جماهيري.
ولا بد لي أن أقول محللاً – في هذه التقدمة -حجم الفوارق الكمية والنوعية من خلال عملية المقارنة التاريخية بين ما كان عليه مثقفو العراق على امتداد النصف الأول من القرن العشرين وبين الذي آلت إليه ثقافتهم ومكانتهم الاجتماعية والسياسية في النصف الثاني من القرن الثاني، وبين عهود وانظمة سياسية متعددة على الرغم من ضعف الإمكانيات والقدرات و الموارد ووسائل الاتصالات والخبرات عند الاجيال القديمة مقارنة بما حظيت به الأجيال الجديدة ويعزى السبب الأساسي في ذلك إلى حجم الفجوة الواسعة في تكويناتهم التربوية، ومعارفهم التعليمية، ناهيكم عن طبيعة الاهتمامات والمشاكل والتطلعات التي فصلت بين أجيال المثقفين العراقية، وتعد سنة 1958م، فاصلاً تاريخياً بين الأجيال القديمة والاجيال الحديثة تبرزها ليس الشكليات والرموز والشعارات والافكار حسب بل نسجتها المضامين والمبادىء والرؤى والقناعات وحتى الثوابت .

البنية التاريخية
اولا : التركيب التاريخي للأجيال العراقية المثقفة المعاصرة
(1) جدولة الاجيال :
يمكنني أن أوضح مختزلاً ذلك التركيب التاريخي للأجيال العراقية المثقفة، حسبما كانت هي سيرورة النهضة ومسيرة التطورات التي أثرت تاريخ العراق الحديث والمعاصر من النواحي السياسية والاجتماعية ، مستفيدا من نظرية المجايلة التاريخية وفلسفة التكوين التاريخي التي استخدمتها تباعا في أكثر من حقل وموضوع تناولته تطبيقيا بالبحث والدراسة التاريخية ، وستخدمنا هذه النظرية التي يجد القارىء الكريم تفصيلاتها كاملة في كتابي الموسوم : ” المجايلة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي ” ، اقول بأن تركيب اجيال المثقفين العراقيين تتراءى على النحو التالي :
1/ اجيال القرن التاسع عشر :
اولا : الجيل الاول من القرن التاسع عشر 1799 – 1829 م ( جيل الاصلاحات ).
ثانيا : الجيل الثاني من القرن التاسع عشر 1829ـ 1859م ( جيل التنظيمات ) .
ثالثا: الجيل الثالث من القرن التاسع عشر 1859-1889م ( جيل المشروطية الاولى ).
2/اجيال القرن العشرين :
رابعا : الجيل النهضوي المخضرم بين القرنين التاسع عشر والعشرين 1889-1919م.
خامسا: الجيل البنائي – الوطني فيما بين الحربين العظميين الاولى والثانية 1919-1949م.
سادسا : الجيل الإبداعي والتخصصي لما بعد الحرب العالمية الثانية 1949-1979م.
سابعا : الجيل المخضرم المعاصر لحروب العراق وانسحاقه 1979 – 2009م.
3/ اجيال القرن الواحد والعشرين :
ثامنا : الجيل الاول من القرن الواحد والعشرين 2009 – 2039 .
تاسعا : الجيل الثاني من القرن الواحد والعشرين 2039- 2069 .
عاشرا : الجيل الثالث من القرن الواحد والعشرين 2069- 2099 .

(2) تحليل تحقيب هذه الوحدات :
أجل ، لقد بدأ الأوائل تلك البدايات النهضوية في الادب منتقلين من رمز العمامة الى شعار الطربوش خصوصا ، ثم تبعتها الحياة الإصلاحية العثمانية ورفدها ببعض الأفكار والأشعار إلى جانب ولادة بعض الأجهزة والوسائل الجديدة لظهور الطباعة والصحافة والمدارس المدنية وحركات التبشير ، ثم انتقلت الراية من خلال ذلك التأسيس إلى جيل جديد قاد مسيرة التغيرات وعلى أيدي طليعة من المثقفين العراقيين من اصحاب النزوع المثقف مدنيين وعسكريين أثروا كثيراً في الحركة النهضوية العراقية، ونقلوا مسار نهضة العراق الأولى من الحركة الإصلاحية – العثمانية إلى الحركة القومية- العربية بعد أن تخضرموا بين قرنين، فكان منهم العديد من الأدباء والشعراء والعلماء والضباط والمدرسين والأطباء، شغلتهم أفكار الدستور والحرية والمساواة ثم انخرطوا في الجمعيات العربية. وانبثق جيل آخر على أيديهم نقل المسيرة العراقة إلى حركة وطنية صرفة بعد تأسيس الدولة العراقية التي ستحل السدارة العراقية كرمز للمثقف فيها بديلا عن الطربوش العثماني ، وازدهرت فعالياته فيما بين الحربين العظميين الاولى والثانية من خلال الصحافة الوطنية العراقية بشكل كبير، وكان لهذا الجيل أثره في بناء الدولة ومؤسساتها فضلاً عن الجمعيات والنوادي والأحزاب السياسية المتشربة بالنزعة القومية، وقادت مسيرة الأحداث وبنية التطورات بعد الحرب العالمية الثانية إلى ولادة جيل إبداعي ساهم بأنشطته التحديثية وأفكاره الحرة وتنظيماته الثورية وروابطه الايديولوجية ومعطياته الثرة في رفد بناء العراق المعاصر، فكيف كان ذلك؟
(3) الميزات والمواصفات: التواصل وغزارة المعطيات
يرتبط بناء العراق المعاصر بالنزعات المثقفة عند مختلف الأجيال التي ميزتها العرى الوثيقة بشكل خفي على الرغم من حالة التنافر بين أي جيلين يعقب أحدهما الآخر، إذ يصف أي خلف سلفه وببساطة متناهية بالقديم والرجعية والتخلف وعدم ملاحقة الركب! ولكن يبدو للدارس المتعمق في فلسفة تطور الأجيال وتكوينات النخب المثقفة العراقية أن ثمة علاقات وروابط وشيجة تربط كل جيل بمن سبقه حسبما تشير إليه نظرية ” الأبوة والبنوة” في عملية نمو الثقافات وتطور الحضارات. وقد يكون هذا خافياً عند المؤرخ والدارس الذي يبقى يبحث في ظواهر الأمور من دون الغوص في مكامنها وبطونها واستكشاف وسائلها وادواتها وآلياتها . وعليه، فإن الذاكرة العراقية لا يمكنها مستقبلاً أن تفصل بين عناصر الأجيال الستة التي أنجبها المجتمع العراقي نفسه، وبين تكوين دولته وكيانه السياسي القوي الذي حظي بالتقدير نتيجة لاستحصاله ولاء الشعب، فامتلك خاصية الاستمرارية والتلاحم والثبات ومواجهة الخطوب عبر الزمن الصعب.
ولعل أبرز وأهم من يجيبنا عن جملة من التساؤلات النظرية الأكثر جدية، والأوسع تطبيقاً وانتشاراً بشأن مكانة العناصر الشابة المثقفة الحية في البناء التاريخية للعراق المعاصر، هو : غزارة الإنتاج فيما كتب وحرر من مذكرات وذكريات وما حقق ونشر من أوراق خاصة ورسائل وتواريخ ومعلومات وروايات وشواهد وشهادات ونصوص وتشخيصات ومؤلفات وكتابات ورسوم وآثار ومفهرسات وتوثيقات وابداعات ، أثرت جميعها في تاريخ العراق المعاصر، وكلها تكشف عن أدوار أصحابها خلال المراحل الأولى من حياتهم الصعبة في بناء العراق المعاصر، ليس في الميادين السياسية فحسب، بل في الحقول الثقافية والعلمية والأدبية، وإلى جانب هذه الثروة الوطنية كتب عدد من رجالات العراق عن أدوارهم السياسية والسلطوية والاجتماعية فيما يتعلق بالأحداث والوقائع المصيرية التي كانت عليها الاوضاع المزرية في بدايات القرن العشرين، فضلاً عما نشره وأنتجه المبدعون العراقيون من شعراء وفنانين وأدباء وتشكيليين ومهنيين وساسة مثقفين على امتداد المسيرة التاريخية الخصبة ، بمعزل عن التباينات الفكرية والايديولوجية التي حكمت توجهاتهم السياسية الوطنية والقومية .
ومن جانب آخر، أوضحت صفحات تراكيب الأجيال العراقية بأن أبناء المدن العراقية سواء كانوا من الشباب ام الكهول يمثلهم دوما ذلك النموذج المثقف الحي الذي حمل على كاهله مهام البناء في مختلف المرافق والميادين، وخصوصاً أبناء الطبقة الوسطى المدينية التي برز منها على امتداد نصف قرن من الزمن عدد لامع من الساسة والدبلوماسيين ورجالات القضاء والأساتذة والعلماء والأطباء والشعراء والمؤرخين واللغويين والفنانين والمفكرين والصحفيين ورجال الأعمال والاقتصاديين والمدرسين والمعلمين .. من كل اطياف المجتمع وتكويناته من دون ان نلمح وجود اي فوارق انقسامية ، وقد بقي عدد كبير منهم يعمل في بيئته حتى يومنا هذا، ومنهم من غادر مهاجراً نحو العوالم القريبة والبعيدة منذ الخمسينيات نتيجة ظروف متنوعة سياسية واقتصادية أو اجتماعية. وعلينا أن نذكر الدور الناصع للمرأة العراقية منذ شبابها المبكر في حمل رسالة العراق الثقافية ومشاركتها الفعالة في عدد من الميادين الأساسية ، وكانت لها أدوارها المؤثرة على امتداد القرن العشرين مقارنة بأدوار غيرها من النسوة في منطقة الشرق الاوسط . ولابد لي ان اذكر ايضا دور المثقفين المسيحيين العراقيين وخصوصا اولئك الذين اثروا الصحافة العراقية ابان النصف الاول من القرن العشرين .
(4) ماذا نستنتج ؟
هكذا، تكون الأسس القويمة التي أرساها الرجالات الأوائل من المثقفين الاقوياء في الحياة العراقية قد غدت جذوراً عميقة في الأرض وبمثابة ثوابت راسخة يستحيل اقتلاعها أو استئصالها، وأن ما يثبت ذلك استمرارية تلك الحياة وصلابتها وعملها الدائب والمنتظم يوماً بعد آخر على الرغم مما صادفته من متغايرات اجتماعية، وتحديات تاريخية صعبة، وأحداث سياسية قاسية على مدى نصف قرن من حياته المعاصرة ، وكلها متغايرات وتحديات وأحداث داخلية لا يمكن تصديقها أو حتى تخيلها .. فما كان لأي شعب آخر أن يبقى على مثل هذا التنظيم من العمل والدقة لو صادف ما صادفه العراق، ولكن؟ ضعفت بعض قدراته وهزلت ثقافة أبنائه، وانكمشت ابداعاته، وغدا الفارق كبيراً بين ما كان عليه المثقفون الأوائل عن المتأخرين.
ثانياً: تطور الأجيال العراقية : دور النخبة المثقفة
دعونا نتوقف في تحليلنا أدناه، عند ثلاثة أجيال من حياة تاريخ المثقف العراقي ساهم مساهمة فعلية في بناء كل من الدولة والمجتمع للعراق المعاصر ، وسأقتصر على تحليل ثلاثة من الاجيال فقط والتي يعنينا أمرها في القرن العشرين :
(1)الجيل العثماني القديم 1889- 1919 : ( جيل العمامة والطربوش)
الجيل النهضوي العراقي : من العثمانية نحو العروبة
السؤال الآن : كيف جرت تلك التحولات؟
لقد اشتركت العناصر العراقية المثقفة منذ ثورة تركيا الفتاة عام 1908م كنخبة مثقفة أو عسكرية، إصلاحية كانت أم نهضوية في تأسيس المشروع النهضوي – العربي سواء كان ذلك في العراق من خلال علاقاتهم القومية ومواقعهم الميدانية أم روابطهم الأدبية أم مواقفهم السياسية أم حركاتهم العسكرية أم مقالاتهم الصحفية وقصائدهم وأشعارهم بدءاً بتحّفزهم للمشروطية الثانية ( = الدستورية ) ومن ثم بتنظيماتهم القومية الأولى في العاصمة إستانبول وعلى الأخص جمعية المنتدى الأدبي المدنية وجمعية العهد العسكرية، أو في تشكيلات فروعها في المدن العراقية الأساسية وقد اشترك في ذلك التأسيس كل من المدنيين والعسكريين العراقيين على حد سواء، وما يميزهم من خصوصيات وسمات أنهم تفوقوا على غيرهم بـ:
1) قدرتهم التعليمية ومؤهلاتهم الثقافية وتخصصاتهم الدقيقة ومكانتهم الاجتماعية في تعزيز المواقف السياسية وإثراء الحياة النهضوية وتجذير المكونات الوطنية والتاريخية والفكرية في العراق.
2) إبداعاتهم الأدبية وخصب لغتهم العربية واقتدارهم في الكتابة والمخاطبة والتحرير والمشافهة والارتجال النثري والشعري، إلخ كثمار يانعة أنضجتها رصانة التعليم وقوته إلى جانب تربيتهم الدينية وسلوكهم الاجتماعي الحضري وإلى جانب انفتاحهم على الثقافات الأخرى.
3) حجم أعداهم النخبوية في المجتمع مقارنة بغيرهم من أبناء البيئات العربية الأخرى – ما عدا مصر- التي كانت قد نهضت على يد مؤسسها في العصر الحديث محمد علي باشا وما لحق بها من تطورات على أيدي أبنائه وخصوصا الخديوي اسماعيل .
ماذا نستنتج إذا ؟
هكذا ، فلو عدنا في دراستنا التاريخية إلى أبرز العناصر التي ساهمت في تأسيس البنية النخبوية في المجتمع العراقي/ المديني، وتوقفنا ملياً عند تكوينهم المعرفي في بدايات حياتهم، فسوف نجد أنهم مثلوا الفرز الطبيعي من نتاجات حركة الإصلاحية العثمانية وحركة النهضة العربية .. وكل من الحركتين مارستا وطبقتا اجندتها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فلقد تخرج العدد الكبير من المثقفين العراقيين في مدارس عليا، كما درس أغلبهم في مدارس استانبول العسكرية والمدنية والملكية الشاهانية، إضافة إلى عدد من الذين تثقفوا بثقافة أجنبية في لبنان، وتخرّج بعضهم في الجامعة الأمريكية ببيروت، وعادوا ليشكلّوا عناصر أساسية في التغيير الثقافي والبناء العراقي للحياة الجديدة.

(2) الجيل الوطني المستحدث 1919- 1949 ( جيل السدارة الفيصلية ):
جيل شباب ما بين الحربين العظميين: النزوع القومي والتكوين الوطني

تطورت أعداد مثقفي العراق فيما بعد بتأثير عوامل عدة كان من أبرزها : دور الأوائل من الرجال المخضرمين، وبتأثير الأحداث السياسية الساخنة، مع انتقال الأفكار الحرة والمبادئ الجديدة، وتأسيس أول معهد عال في العراق لتخريج نخبة من رجال القانون (= كلية الحقوق) عام 1908م، فازداد عدد المثقفين من شباب العراق ا لذي تمكن في التأثير على مجتمعه العراقي بشكل واضح، والذي سيأخذ هذه المرة، زمام المبادرة في النضال السياسي ليس ضد الاتراك العثمانيين بل ضد البريطانيين المستعمرين ، وسيعمل على تعبئة الجماهير من أجل تأسيس بنية دولة عراقية تعمل على أساس وطني في خدمة المجتمع، بعد انفجار الحرب العالمية الأولى ومعاناة العراقيين إثر الاحتلال البريطاني المتدرج والصعب الذي لم يأت دفعة واحدة بفعل المقاومة العثمانية من قبل العراقيين ( = البصرة عام 1914، العمارة عام 1915م، ا لكوت عام 1916، بغداد عام 1917م، الموصل عام 1918م وبعد توقيع هدنة مدروس ).
لقد بدأ العراق أكثر توحداً أكثر من أي وقت مضى من أجل تصميم مستقبله التاريخي إثر تكوين كيانه السياسي على يد تلك النخبة الفاعلة والنشيطة التي يكونها رجالات من المثقفين والعسكريين العراقيين وبتأثير التحدي الاستعماري الجديد. ومهما قيل اليوم من ان العراق صناعة بريطانية وخصوصا في جغرافيته وحدوده ، فان ذلك تزوير فاضح لتاريخه ذلك ان بريطانيا ورثت العراق مكّونا من ثلاث ولايات مهمة جدا هي الموصل وبغداد والبصرة بحدودها القديمة وبدأ ترسيم الحدود العراقية على الاسس المثّبتة رسميا منذ مئات السنين .
كان مثقفو العراق من الضباط والمثقفين والمتعلمين والمهنيين الجدد سواء كانوا أطباء أم محامين، يشكلون نخبة اجتماعية طليعية بارزة ومؤثرة، فقد أثرت بشكل مباشر في ولادة التنظيمات والتجمعات السياسية الأولى، وبإنجاز خدمات نهضوية فعالة، ناهيكم عن تأجيجها للروح الوطنية وبوسائل وأدوات محددة كالخطابة في التجمعات، كما كانت الصحافة لها دورها في نشر المقالات المؤثرة ، فضلاً عن القصائد الشعرية العصماء ذات النزعة الوطنية كما وأقيمت المنتديات الأدبية والفكرية للتبشير بالأفكار الجديدة منذ عهد مبكر ، فبدأ الوعي السياسي بالانتشار شيئاً فشيئاً، وأخذ إحياء للتراث يعمل على إيقاظ الشعور بزهرة الماضي الرائع للعراقيين على امتداد التاريخ ، إلخ. يحدد ذلك كله معالم نشأة مجتمع جديد وولادة دولة حديثة، لقد نجح المثقف العراقي بامتلاكه للمؤهلات والقدرات والخصوصية أن يقضي على سكونية الماضي العثماني ومؤثراته، وأن يطور كثيراً من مفاهيمه بعد نجاحه في مهمتين أساسيتين:
أولاهما : النضال ضد المستعمر ورفض وجوده في العراق.
ثانيهما: تأسيس الدولة العراقية عام 1921م ، لكي تغدو في خدمة المجتمع .
أما النضال الوطني، فقد دفع البعض نفسه من أجل تحقيق الأهداف العراقية ، فعانى كثيراً سواء في الداخل أم بعد النفي إلى خارج العراق، أما بالنسبة لتأسيس الدولة فيكتب على جودت الأيوبي في ذكرياته قائلاً:” لا يخفى أن الوضع في العراق قد تطور كثيراً ونشأ جيل جديد من الشباب المتعلم المتوثب إلى خدمة بلده بأفكاره ومعلوماته التي اكتسبها في الداخل والخارج”.
فكيف تطور ذلك ؟
لقد ا ستطاع العراقيون أن يمتلكوا الهوية والانتماء ولم تبق أمامهم إلا السيادة والاستقلال من أجل تطوير حياتهم الاجتماعية وبناء نظامهم السياسي وتحديث أنماطهم السياسية والاقتصادية والتعليمية والتربوية وبدت ممارساتهم الديمقراطية البكر مثيرة للاعجاب ـ كما سنرى لاحقا ـ، فنشطوا بشكل بارع ابان عهدي الملك فيصل الأول 1921-1933م وولده الملك غازي 1933-1939م، في تأسيس العراق دولة ومجتمعاً على نحو جديد، ويعد المشروع التربوي / التعليمي من أبرز إنجازات عهد فيصل الاول الذي نجح بإرساء قاعدة رصينة في بناء جيل عراقي مثقف جديد ، وان ذلك الجيل اللاحق ما كان ليكون لولا ذلك المشروع الاساسي والضخم . ومهما قيل في الملك فيصل الاول من تهم فانني اعتبره الزعيم الوحيد الذي فهم العراقيين فهما حقيقيا وانه ضمن للعراق تكوينه الوطني بديلا عن اي شخصية اخرى كانت ستثير جدلا اجتماعيا لا يخدم العراق .. انني اعتبر كل سياسات فيصل الاول ايجابية وخصوصا في تجسيره العلاقة بين المثقفين والسلطويين ولكنني اسجّل عليه اعتماده الكبير على نخبة من المثقفين العرب ، اذ كان من ضمن مهامه الأساسية استقدامه لعدد من الأساتذة العرب الاكفاء إلى العراق، والذين تميزوا بمقدرتهم وكفاءتهم امثال الوزير رستم حيدر الذي دفع حياته في العراق ثمنا لمواقفه ، ولكنهم كانوا وراء احداث مشكلات صعبة في الدواخل الاجتماعية العراقية مثل مشكلة انيس زكريا النصولي ومشكلة درويش المقدادي ومشكلات اخرى وصولا الى مشكلة الحاج امين الحسيني .. جاء اولئك الاساتذة العرب لكي يتربى على أيديهم جيل عراقي مشبع بالروح ( القومية التي وصلت الى حد الشوفينية ) ، وكان من أهم المؤسسات التربوية العراقية دار المعلمين العالية التي تخرج في أروقتها العشرات من شباب العراق المثقف، ويخبرنا السياسي العراقي المعروف الأستاذ حسين جميل في ” مذكراته” كيف كان أبناء جيله يلتهمون المعلومات ويستلهمون الأفكار من الكتب والصحف والمجلات ومن خلال قراءات ومطالعات، وكان هناك المعهد العلمي كمؤسسة أهلية وهي أشبه بناد ومكتبة عامة، كما كان هناك جامعة آل البيت التي وقف على رأسها الأديب المعروف فهمي المدرس والتي فشلت فشلاً ذريعاً لأسباب اثارها ساطع الحصري ضدها كمشروع ديني لا مدني والاسباب مطولة وضحتها بالتفصيل في كتابي ( انتلجينسيا العراق : نخب المثقفين في القرن العشرين .. ) .

(3) الجيل الراديكالي والقومي الثوري 1949- 1979 ( جيل الثورية السياسية )
جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية : الايديولوجيا نحو التحول :
1) التكوين المعرفي العراقي :
في دراسته لـ” النخب السياسية في الشرق الأوسط” تكاد تغيب عند جورج لينشوفسكي سياقات نخبوية لفئات عدة من المثقفين الشباب في حياة العراق المعاصر، التي تكاثرت فيها التجمعات والأحزاب السياسية والتيارات والاتجاهات الفكرية التي شكلت في مجملها رغم اختلافاتها : عناصر بناء أساسية في تطور الدولة ولكن على حساب النتائج النوعية في عمليات تطوير المجتمع وحياته المتنوعة، وهذا ما نلحظه أيضاً في مصر وبلاد الشام ولكن بدرجة أقل. ويكاد تغيب أيضاً هذه الجوانب في الدراسات العربية على قلتها في بحث ثقافة العراقيين!
ويبدو أن المثقفين العراقيين برغم انغماسهم في القضايا السياسية الصعبة على امتداد نصف قرن من حياة العراق المعاصر، إلا أن النخبة العراقية المثقفة من الشباب اختلفت بين جيلين: جيل ما بين الحربين العظميين ( كالذي قدمنا عنه أعلاه) والذي اهتم كثيراً بمسألة ترسيخ أركان الدولة على حساب تطوير المجتمع وآلياته وفئاته وحاجته، في حين غدا جيل شباب ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد انغمس في الأزمات السياسية والمشاكل الأيديولوجية المتنوعة مع تفاقم السلطة الحكم المتحالفة مع الانكليز، لكنه جيل جديد بدأ يعالج وينتقد، بل ويتمرد ويثور على مسائل سياسية من أجل ما يحتاجه المجتمع في معيشته واقتصاده بشكل أساسي.
لقد توسعت بعد الحرب العالمية الثانية في المجتمع العربي قاطبة، قوة اجتماعية جديدة ومهمة، سوف يطلق عليها في الأدبيات المختلفة الفئة الوسطية في المجتمع INTERMEDIARY – STRATUM وستكون جزءاً فعالاً في الطبقة البرجوازية التي حددت مشروعها اقتصادياً على أساس التنمية الرأسمالية مع طموحات بعض الراديكاليين لتطبيق الاشتراكية، وقد تمفصلت هذه الفئة العريضة سياسياً وايديولوجياً على عاتق البعض في قيادة النضال من أجل التحرر والتوحد والسيادة الكاملة، وعد البعض الآخر في قيادة النضال من أجل التحرر وتحقيق الأهداف الوطنية العراقية او العربية القومية .
تعتبر دار المعلمين العالية التي أسست للمرة الأولى عام 1924م على نحو بسيط ثم تكاملت في سنة 1936م أبرز مؤسسة أكاديمية عراقية رصينة ساهمت قبل تأسيس كلية الآداب العراقية وجامعة بغداد، في رفد الحياة العراقية لكل مبدع وجديد، وقد تخرج في أروقتها المئات من الطلبة والطالبات، برز منهم : العشرات من المثقفين الشباب الذين غدت أسماؤهم كبيرة ليبرزوا علماء وأدباء وشعراء مبدعين رياديين، وكانت تلك الدار معقلاً عراقياً شامخاً للشباب المثقف المجدد في النهضة والتقدم، وقد سحب خريجوها من الشباب المثقف البساط من تحت أرجل أبناء الجيل الذي سبقهم وكان أغلبهم من الحقوقيين والمحامين خريجو كلية الحقوق العراقية.
وقد وقفت إلى جانب تلك الدار كلية اخرى تأسست عام 1946م للبنات هي كلية الملكة عالية ( أسميت بـ” التحرير” فيما بعد، ثم أطلق عليها ” البنات ” لاحقاً). وكانت ثانويات العراق ومعاهده قد فتحت أبوابها أمام الطلبة العرب الشباب، إذ ساهم العراق منذ عهد مبكر في تأهيل العشرات من اليمنيين والفلسطينيين والجزائريين والتوانسة والسوريين واللبنانيين اشتهرت أسماء بعضهم فيما بعد. وهم يحملون اليوم أجمل الذكريات الخصبة عن حياتهم التي قضوها في العراق ابان الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. وهم يختلفون عن الخريجين العرب في الجيل التالي اذ كانوا من المسيسّين الحزبيين .
2) عقد الخمسينيات : تطور المعاصرة العراقية :
يمثل عقد الخمسينيات زهرة تطور المعاصرة العراقية في القرن العشرين، والتي تبناها شباب العراق المثقف في ميادين عدة كالمسرح والعزف والموسيقى والغناء والفن التشكيلي والصحافة الأدبية والشعر والشعر الحر… إلخ. إذ برز العراق في موقع الريادة العربية في حداثة كل من الفن التشكيلي والشعر الحر، متمثلاً ذلك عند مجموعة من المبدعين العراقيين الشباب الذين طارت شهرتهم في الآفاق العربية ( ودعوني من ذكر الاسماء فهي كثيرة لا تعد ولا تحصى ) . ولم يتوقف الأمر عند هؤلاء حسب، بل برزت أسماء شابة في مختلف حقول المعرفة العراقية وكان أصحابها من المبدعين الأصلاء أثر استحداث علوم وميادين جديدة ابان عقد الخمسينيات، وهو عقد يمثل مرحلة تاريخية خطيرة في حياة العراق المعاصر على مستوى الدولة وتطور المجتمع، إذ سادها التوتر السياسي المشوب بردود فعل حادة لانتلجينسيا العراق من المثقفين والأكاديميين والتكنوقراط، أثر انفتاحهم على مصادر إبداعية عالية المستوى ومراجع ثقافية رصينة بعد أن كان اعتماد من سبقهم كبيراً وأساسياً على ما يطبع في مصر فقط.

3) ذروة ا لبناء السياسي : الايديولوجية السياسية
لقد ترسخت الشعارات السياسية العراقية عند الشباب المثقف في مسارين اثنين كان انطلاقهما قد بدأ منذ العشرينيات، تمثل أولهما بالاتجاه القومي الذي بدأ بالجمعيات العربية الأولى وتطور ليبرالياً من خلال الأحزاب الوطنية وآخرها حزب الاستقلال. وتجسد ايديولوجيا فيما بعد على يد الاحزاب والجماعات القومية ، وهي كثيرة ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي الذي نجح في تسلم السلطة منذ الستينيات وبقي فيها حتى العام 2003 ، وتمثل ثانيهما بالاتجاه الراديكالي – الاشتراكي الذي بدأ طوباوياً وتطور فئوياً من خلال جماعة الأهالي ثم الحزب الوطني الديمقراطي – فيما بعد- وتجسد ماركسياً عند احزاب وجماعات شيوعية لينينية وماوية ، ويقف على رأسها الحزب الشيوعي العراقيل وهو من اقدم الاحزاب اليسارية في المنطقة.
حتى إذا ما وصل كل من الاتجاهين إلى عقد الخمسينيات ، كان الصراع قد اشتد بين الاتجاهين المضادين مستفيداً من موروث الانقسام الاجتماعي الذي عاشته البيئة العراقية طويلاً، فضلا عن الاسباب السياسية والخارجية التي كان لها تأثيرها في الشارع العراقي وقت ذاك وانشطة مخابرات بعض الدول في تنظيمات العراقيين الداخلية . وهكذا، ” كان النزاع الذي حدث في العراق عنيفاً جداً وقد تطرف كل من الفريقين فيه تطرفاً أدى إلى نتائج فكرية واجتماعية غير محددة ” ـ على حد تعبير الاستاذ علي الوردي ـ .
وفي خضم واقع سياسي عنيف مثل هذا كالذي استقطبه كل من الاتجاهين المؤدلجين، آمن بهما مثقفو العراق للعمل ضد السلطة الحاكمة وسياسات نظام الزعيم السياسي الشهير نوري السعيد وحكوماته المتعددة التي كان من أبرز أخطائها الداخلية، الإبقاء على سيرورة أنماطها القديمة في التعامل مع الأجيال الجديدة من الشباب الذي كان يتطلع إلى أن يجد له مكاناً تحت الشمس العراقية الوهاجة، وكان يتلهف لتولي المسؤولية السياسية والإدارية ويمارس السلطة التي كان يحتكرها أبناء جيل ما بين الحربين العظميين ، أو حتى بعض شيوخ جيل التأسيس الأول والذين وقفوا ليس موقف الند من الشباب الجدد ، بل موقف المرشد والموجه باعتبارهم ما زالوا قاصرين عن تولي الادارة السياسية . يقول ناجي السويدي مخاطباً يونس السبعاوي الذي كان ثائراً:” ما كسبناه نحن الشيوخ بحكمتنا أخشى أن يضيع بحماقاتكم يا شباب”. إن مثل هذه المسألة في إطارها العام إنما تعكس صراعاً بين جيلين: جيل الشباب القومي الممتلئ حماسة واندفاعاً وجيل الرجال المخضرمين من بقايا الماضي العثماني.
كان من أبرز عوامل نجاح الفئات القومية – الثورية في العراق : وجود المناخ التاريخي والنزوع القومي والدور التربوي والأرضية الخصبة التي رفعت شعارات حركة النمو والوحدة والتقدم، على حساب ضعف وانكماش الاتجاه السياسي/ العراقي الذي نادى بالشعبية والوطن والاشتراكية، كجماعة الأهالي التي بدأت عند مطلع الثلاثينيات متمثلة بمثقفين تقدميين، أمثال : حسين جميل وعبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وعبد القادر إسماعيل، وعلى الرغم مما تحصلت عليه من تطورات سياسية لكنها بدأت تتشبع بالتناقضات بعد مباركتها انقلاب بكر صدقي عام 1936، وعدم اكتراثها بالقومية العربية، وإنغمارها موجبة بالأفكار والتجارب الأوروبية التي كانت شائعة عهدئذٍ بين الأممية والأقليمية الضيقة، وعلى الرغم من كل ذلك، فقد نجح هذا الاتجاه الراديكالي في انبثاق تجمع تحت اسم “الهيئة العامة لجمعية السعي لمكافحة ا لأمية” في عام 1933، انضم إليه العشرات من الشباب الوطني، كما نجح في تأسيس نادي بغداد لمخاطبة الشباب وتعميق وعيهم بالقضايا المختلفة في عام 1933م. وبعد عشر سنوات، أي في عام 1943م تتأسس جمعية الرابطة الثقافية، ثم تتكلل أبرز انجازات هذا الاتجاه بتأسيس الحزب الوطني الديمقراطي الذي ستتوقف حياته فعلياً عام 1958م، كي يبقى الحزب الشيوعي سيداً على الساحة السياسية في العراق ابان حكم عبد الكريم قاسم والذي عاش العراق في عهده جملة صراعات محتدمة مثلتها القوى السياسية في العراق لكل من الاتجاهين .
(4) منجزات ثنائية في البنية الثقافية العراقية :
من اجل ان نحلل الفكرة التي جئت بها بشكل موّسع ، دعوني اقول : كان من أبرز منجزات تلك المرحلة الصعبة حدوث ثنائيات وازدواجيات قاتلة في البنية الثقافية العراقية .. اذ يتلمس المؤرخ المتأمل ان خطيّن اساسيين للمثقفين العراقيين بدءا معا منذ قبيل تشكيل الدولة واستمرا يعيشان الصراع بينهما لينتهيا في العام 2003 اثر اندحار الدولة وتراخي المجتمع .. وقد دفع العراق ثمنا غاليا من جراء ذلك الانقسام المريع في الحياة الثقافية التي تعبر عن كل من التكوين السياسي والتكوين الاجتماعي للعراق ..
اولاهما : اتجاه خط ثقافي سياسي وطني عراقي تتلون فيها التيارات والجماعات والاحزاب والكتل والجمعيات والاحداث بدءا بنواة الجمعيات العراقية الاولى انتقالا الى جماعة الاهالي ثم جمعية الاصلاح الشعبي ثم الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الامة ثم القاسميين .. الخ
ثانيهما : اتجاه خط ثقافي سياسي قومي تتلون فيه المنتديات والجمعيات والنوادي والاحزاب والحكومات بدءا بالجمعية العربية وانتقالا الى جمعية الجوال العربي، ونادي المثنى بن حارثة الشيباني، وجمعية الدفاع عن فلسطين في بغداد، فضلاً عن جمعية النهضة القومية ولجنة الشباب القومي ومن بعدهما نادي الجزيرة وجماعة العقداء الاربعة وحزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي وجماعات الناصريين والساسة الحركيين .. الخ
هذه الثنائية وصراعاتها السياسية ثم السلطوية ثم الانقلابية والدموية قادت العديد من القوميات والاقليات في العراق للانتقال من تشكيلات اجتماعية خاصة بها الى تكوينات قومية سياسية لها كما حدث لدى كل من الاثوريين والاكراد والتركمان .. هذه الثنائية هي التي ضربت البنية الثقافية العراقية في الصميم اذ خسر العراقيون نتيجة تصادمتها السياسية المئات من المثقفين العراقيين الممتازين بدءا بحركة الاثوريين القومية في الثلاثينيات وسحقها ، ثم بانقلاب بكر صدقي عام 1936 وسقوط جعفر العسكري بانتصار الاتجاه الاول انتقالا الى شرخ حركة 1941 وانتصار الاتجاه الثاني ومن ثم سقوط العقداء الاربعة وسقوط القوميين .. وصولا الى انقلاب / ثورة 14 تموز التي اشترك فيها الاتجاهان وما لبث ان سقط القومي تحت وطأة الوطني على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ، ومن ثم تمرد القومي الكردي ثم فشل حركة الموصل عام 1959 القومية وفشل حركة كركوك وسحق التركمان عام 1959 .. وصولا الى 8 شباط 1963 بانتصار الاتجاه القومي الذي ساد على العراق قرابة الاربعين سنة اي حتى 2003 .. وبالرغم من مأساة المثقفين العراقيين لاشتغالهم في السياسة وانتماءاتهم المتنوعة ، الا ان الصدام بين الاتجاهيم قد اضر كل من المجتمع والدولة معا .. ولم يتحمّل المجتمع بكل نخبه وفئاته المسؤولية بقدر ما تتحملها انظمة الحكم في العراق التي لم تعرف طريقا سويا من اجل بناء العراق وعلى اية اسس لها خصوصياتها .. فضلا عن هذا وذاك فان المثقفين العراقيين سواء كانوا من الشيوعيين او البعثيين لم تكن تجربتهما صالحة للعمل من اجل تاريخ العراق لا في صراعهما الدموي ولا في ائتلافهما الجبهوي ، اذ كان ذلك وبالا على العراق والعراقيين على امتداد خمسين سنة ، ولا افهم حتى اليوم كيف تحالف كل من الشيوعيين والبعثيين العراقيين في جبهة واحدة بعد صراع تاريخي طويل .. لقد احس بزيفها وانا في مطلع شبابي .. اذ لم تدم الا فترة قصيرة حتى اكلت احداها الاخرى ، وتشرد الشيوعيون في شتات العالم ، او انضم بعضهم الى مؤيد للسلطة . لقد بدا لي ان بعض الماركسيين العراقيين كانوا من اقوى المثقفين ازاء قاعدة جماهيرية لا تستحقهم .. واستطيع القول بأن المثقفين اليساريين اقوى بكثير من المثقفين القوميين في العراق .
(5) مآسي الجيش العراقي وتكريس ثقافة الاهانات :
هذه مؤسسة قديمة جدا صحيح انها ابنة التأسيس في 6 يناير / كانون الثاني 1920 ( وليس كما هو متواتر خطأ في العام 1921 ) ، الا انها لم تلد من فراغ ، فالعراق شهد تأسيس اول مدرسة عسكرية في المنطقة منذ خمسين سنة على التأسيس ، وان الضباط العراقيين المحترفين هم الذين شاركوا في تغيير خريطة المنطقة بقيادتهم للاحداث المهمة ، ووقع على عاتقهم تأسيس الجيش العراقي الذي شجع شباب العراق للانخراط فيه كي يكونوا نواة حقيقية لجيش ( عربي ) كبير، مع تأسيس للكلية العسكرية العراقية التي تخرجت فيها دفعات واسعة من شباب العراق، ويقترن ذلك التأسيس باسم الزعيم العراقي البارز جعفر باشا العسكري عام 1920 وقبل تأسيس الدولة العراقية ، وفي عقد الثلاثينات، صدر قانون الخدمة الالزامية لكل العراقيين ، وهو القانون الذي اقترن باسم الزعيم العراقي الآخر ياسين باشا الهاشمي، إذ عمل هذا القانون على زيادة أعداد الجيش ولكن على حساب جعل العراقيين يشاركون في الحفاظ على بلادهم وخدمة السكان من الناحية الاجتماعية ، وتبلور الوعي الوطني، وتعزيز الانتماء العراقي للتخلص من المشاكل العراقية المعقدة ، وبرغم ما صادفه هذا القانون من الاحداث والتمردات في الفرات الاوسط ، الا أن المسألة حسمت لصالح تطبيقه منذ قرابة سبعين سنة . ان ما يجعلنا ننتقد هذه ” المؤسسة ” ممارساتها وتحولها من مؤسسة للدفاع الى مؤسسة للقهر .. ومن اجهزة للحرب الى اجهزة للسياسة والتحّزب .. لقد ضرب الجيش مجتمع العراق في اكثر من مرة ، بل وتبدّلت اخلاقيات الضباط والقادة العراقيين من رجالات شجعان مخلصين الى انقلابيين وخونة متآمرين ولهم علاقاتهم بانظمة دول اخرى مجاورة وغير مجاورة .. ومن ثم حزبيين ومن ثم اناس ضعفاء ومرتشين .. وهذا ما كانت تفصح عنه بيانات الحكومات العراقية واحدتها تلو الاخرى .. لقد كان الجندي العراقي مهان في اسمه وجنسه ولونه وشكله ولغته .. حتى غدا كل العراقيين بلا استثناء يكرهون الانخراط لتأدية خدمة العلم كراهية عمياء .

(6) إشكالية التطور وأزمة المجتمع :
يمكن القول بأن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1979 من المثقفين والمناضلين العراقيين كان جيلاً جريئاً ومبدعاً إلى حد كبير، ومبادراً في التعبير عن آرائه الحرة ومواقفه السياسية وابداعاته الفنية والادبية ، فسجن واعتقل أو نفي وتعرض وتشرد وعلى الأخص في عقد الخمسينيات الذي كان للمثقف العراقي خلاله دوراً سياسياً طليعياً وتاريخياً واجتماعياً. مجسداً الآمال القومية والوطنية بشكل جوهري ووطني بعد أن تجاوز عشق الأرض، وقد كان يرغم كل من السلطة والمجتمع معاً على أن يسمعاه. ولكن ليس في جميع الأحيان! إذ يبدو للمؤرخ بأن السلطة السياسية كانت أقل قسوة على المثقف الشاب من هيمنة السلطة الاجتماعية خصوصاً إذا لازمه التمرد وكان يطمح لإحداث تغييرات، أو كان يتطلع لإجراء تحديثات، فيصاب بالإحباط ويعيش شقاء الوعي أو “الوعي المنكود” والإخفاق المرير الذي يلازمه على مدى سنوات حياته. لقد وجدت ان العراق تمّيز ببروز مثقفين متمردين لهم مستوى عال من الحداثة اسوة بما نجده لدى المثقفين الاوربيين الحداثيين .. وهم كثر من شعراء وتشكيليين وفنانين ومخرجين عراقيين غاية في الابداع .
يقول المستشرق الفرنسي جاك بيرك : ” ورسمت إحدى القصص العراقية المحاولات اليائسة التي قام بها بعض المثقفين الشباب في العراق بعد معاهدة بورتسموث لإصلاح الأوضاع في بلادهم، وصورة فشل هذه المحاولات، وفي وسع المرء أن يسمع هنا وهناك، عن الفشل المؤلم الذي مني به الكثيرون من خريجي المدارس الأجنبية العالية في حياتهم العملية، وتعود بي الخواطر الآن إلى أحد هؤلاء، وقد تخرج من كلية البولتيكنيك في فرنسا، ثم عاد إلى بلاده ليصبح وزيراً، ولكنه فشل تماماً في أن يخلق في بلاده شيئاً جديداً، جديراً بدراسته العليا، ومن المهم كل الأهمية، أن السياسات الفعلية، والسلطان الحقيقي في هذه البلاد يؤثران طرقاً أخرى، ولذا فإن الإنسان التقني لا يحظى إلا بدعم المصالح المصرفية والقيادات العسكرية “.
وكان لمعطيات بعض الشباب على أي حال، شأن ليس في الذيوع والانتشار وكسب الشهرة، بل في إثارة العواطف، وترويض الأفكار، والسعي نحو التقدم، على الرغم، أنهم كانوا يعيشون على حلم لم يتحقق، أو أنهم كانوا يتوهمون تحقيقه من خلال إيمان أغلبيتهم بعملية حرق المراحل التاريخية” كما أسموها وأنهم سيحققون أهداف الأمة والوصول إلى ما وصله العالم المتقدم بين عشية وضحاها.!
وعليه، فإن الجيل الذي سبقهم كان الأقدر على تمييز الأمور نظراً لاتساع أفقه وانفتاح تفكيره، إن ما يميز المثقف العراقي الشاب أنه أخذ ينغمس منذ الخمسينات ويوماً بعد آخر في أزمة مضامين التراث ومشاكله وإشكالياته، إذ يرى بأن تراثه هو المثل الأعلى في التقدم الحضاري المعاصر، وقد قاده هذا الانغلاق على هذا المفهوم إلى عزلة في تفكيره رفقة تركيب ذهني بعيدين جداً عن مسألة التحديث السياسي والفكري والاجتماعي على مدى عقود عدة من المعاصرة العربية.

(4)الجيل الاحادي الاخير 1979- 2009 ( جيل الحروب والحصار والمآسي )
هذا الجيل البائس الذي كان قد تربى وحظي بتكوين تربوي وثقافي رائع ولاغلب ولادات ما بعد الحرب العالمية الثانية .. جيل 14 تموز / يوليو 1958 الذي حظي برعاية خاصة وعاش التقلبات السياسية واستلهم الافكار الجديدة .. هذا الجيل يخسر الالاف المؤلفة من ابنائه في الحروب والحصار واعمال العنف .. هذا الجيل الذي ما ان يبدأ لكي يمثّل ارادته الوطنية حتى تسحقه الاجهزة الامنية ويعيش انغلاقا على العالم .. انه يعيش ايضا ارهاصات ما حدث في المنطقة كلها من تغييرات كبرى اثر انتصار الثورة الدينية في ايران وتبدأ الحياة السياسية فصولا جديدة لولادة حركات وجماعات دينية لتغدو يوما بعد آخر ازاء الاحزاب الوطنية والقومية واليسارية .. هذا الجيل الذي سيق الى جبهات القتال رغما عنه ودفع الدم مهراقا وعاش اسوأ الظروف واحلك الايام على مدى عقدين كاملين من الزمن ، ولم يزل حتى اليوم يعاني من افرازات الماضي العقيم .
هذا الجيل المعاصر اليوم الذي سيلفظ انفاسه الاخيرة عند نهاية هذا العقد تقلصت ابداعاته وضعفت قدراته على العطاء وهو يعيش المأساة التي تزداد حلكة وظلمة يوما بعد آخر .. ولقد انغلق على ذاته بعد ان احكم الطوق على عقله وذهنه وثقافته من خلال المحرّمات والممنوعات في زمن بدأ العالم خلال العشر سنوات الاخيرة من القرن العشرين يتسارع بشكل مخيف ويوفّر المعلومات ويطور الاتصالات .. لقد عاني الجيل المعاصر من كل الموبقات وعاش كل التشظيات وحالات الفقر المدقع والبحث عن لقمة العيش .. جيل بدأ يتسّرب اصجاب الكفاءات منه الى خارج العراق ليتشتتوا في الافاق مع معاناة من نوع آخر .. اما اولئك الذين حوصروا ، فلقد حرموا من القراءات وابداء الرأي والتعبير ونشر الابداع .. هزلت الجامعات العراقية كثيرا بعد ان غدت المدارس ضعيفة المستوى .. ولم يزل يعيش ابناء هذا الجيل على فقدان الثقة بالنفس وعلى الرؤية الخاوية للمستقبل .. انني اعترف بأن هناك امكانات رائعة وطاقات مكبوتة ومواهب لا تقدر بثمن .. ولكنها بحاجة الى اعادة تكوين وتجديد في التفكير مع توفير الاليات والظروف الطبيعية .. ان ابناء هذا الجيل قد فقد الكثير من نزوعاته الوطنية بعد ان وجد ضالته في هويات ومرجعيات يجد فيها الحماية والتعبير وهناك الالاف المؤلفة من ابناء هذا الجيل انتكس انتكاسات فكرية وسايكلوجية ليرتد نحو الماضي فيحمل نزعات ماضوية كي يرضي فيها ذاته .. وهو بحاجة الى اعادة تقكير بل بحاجة الى استراتيجية تفكير كي تغرس ليس عنده حسب ، فدوره يكاد ينقضي ، بل ليزرعها عند اولاده الذين يتكونوّن اليوم في ظل ظروف صعبة جدا .. واوضاع فاسدة بحاجة الى اصلاحات جذرية .

استنتاجات وتساؤلات :
هكذا، نعلم كم كان حجم الدور الذي مثله المثقفون العراقيون وثقله في مسيرة الأحداث والتطورات التي رافقت عملية بناء كل من الدولة والمجتمع في العراق المعاصر، وكم كان للازدياد المفاجئ في أعدادهم والأعداد في تكوينهم وتأهيلهم نسبة لعدد سكان العراق من مزية خاصة ليس في تمكنهم من الوعي، بل مشاركتهم في الأحداث واتخاذهم للمواقف كعاملين فاعلين في المجتمع أم طلبة في الثانويات والمدارس والمعاهد العليا، ثم مشاعرهم المتقدة إزاء الأحداث القومية كالذي حدث في فلسطين ومصر، وأنحاء أخرى من أرض العروبة، أم إزاء التطورات السياسية في داخل العراق، وما سجلوا من صفحات وطنية لامعة، وعلى امتداد السنوات الطويلة في نصف قرن حافل بممارساتهم وأدوارهم ومشاركاتهم في مجموعة ضخمة من القضايا الأساسية والخطيرة كالتي طرحت من قبلهم سواء كانت على منابر حزبية، أو مقالات صحفية، أو أشعار ملتزمة أو محاضرات خصبة، ناهيكم عن الطروحات في تأجيج الرأي العام في التظاهرات الضخمة والاضطرابات والاعتصامات والتجمعات والمؤتمرات والانتخابات والنقابات. إلخ. كلها كانت تشكل أسساً في التفكير والممارسة العراقيين، وقد تأثرت بها سياسياً وثقافياً عدة أقطار عربية في المشرق والمغرب العربيين.
ولم يتوقف حجم المشاركة في مركز العاصمة بغداد لوحدها، إذ كانت هناك مشاركات حية لأولئك الذين يقطنون في الحواضر العراقية كالموصل والبصرة والنجف وكربلاء والسليمانية والحلة والناصرية وكركوك وغيرها، إن مراجعة استطلاعية لما صدر في العراق من صحف ومجلات على مدى خمسين سنة 1908-1958م، ترينا كم كان حضور ذلك المثقف العراقي فيها من خلال التحرير والنشر والمراسلة لأدبيات ثقافية وعلمية وأدبية وسياسية، فضلاً عما نشر بأقلامهم في صحف ومجلات عربية مصرية ولبنانية وكم اكتشفت من مزايا أخرى تمثلها الفروسية والرجولة والمكاسب سواء في حركة الفتوة أو الحركة الكشفية أو في الميادين والملاعب الرياضية.
ولكن؟
علينا أن نتساءل اليوم : ما هو حجم الفارق النوعي بين جيل اليوم وأجيال الأمس؟ وما هي المهام الأساسية الملقاة على جيل اليوم لكي يتعلم الكثير من الأجيال الشابة التي سبقته؟ وما هي جملة القيم العراقية في التربية والسلوك والعمل واحترام الزمن لكي نبقيها مغروسة عند الشباب ليساهم في البناء والتطور ورفد مستقبل الأجيال القادمة؟
السؤال : متى تنتعش الانساق الثقافية العراقية ومتى تركد ركودا تاريخيا ؟
ان الثقافة العراقية اليوم راكدة ركودا مأساويا ، فكيف السبيل الى استعادة فعالياتها وقوتها من جديد ؟ وكيف لها ان تنتعش في ظل تكوين سياسي ؟ ان اولى المهمّات التي لابد ان يعيها كل العراقيين هو تنوير العراقيين واستعادة تفكيرهم المدني بدل هذا الذي يسيطر على ذهنيتهم الجماعية اليوم . ليعرف كل العراقيين بأن العراق لم يحكمه رجال الدين على امتداد التاريخ ابدا . ان الحياة الثقافية العراقية لابد ان تعّبر عن اساليب وحاجات مجتمع .. انها ان لم تفعل ذلك في مثل هذا العصر الذي سيمثله جيل جديد بعد سنوات قلائل ، فان ثقافة العراقيين ستنغلق على نفسها شيئا فشيئا من دون ان يتفتح احدها على الاخر .. انها بحاجة الى تجسير للفجوة دوما بين الحكام وبين المثقفين وعلى الحكام الاستئناس لما يقوله المثقفون .. لا يمكن ابدا ابقاء الحالة على درجة من الخصام .. انها بحاجة الى تجديد في القيم الثقافية ومستلزمات العطاء والاعتناء باصحابه من المبدعين الحقيقيين .. اذ لا يمكن اعدام الحياة الثقافية العراقية تحت اي مسمّيات او آليات باعلاء قيم الغلو والمنع والتطرف او اساليب الجهالة والعتمة او اتباع الاقصاء او السكوت عن تحطيم الرموز او الانتشاء بطغيان العادات البالية على حساب الثقافة الجميلة . انها بحاجة الى وعي العراقيين الذي سوف لن يأتي بين يوم وليلة ، بل انه بحاجة الى ركائز تربوية واعلامية من اجل تكوين ثقافي وابداعي جديد .. انها بحاجة الى المرأة العراقية التي لابد ان يكون لها شخصيتها وانفتاحها وانطلاقها بديلا عن تقوقعها وعزلتها وبلادتها وتغليف نفسها .. انها بحاجة الى الالتزام بكّل ما يرتقي بالنشر والاعلام وعلى درجة من الامانة والحيادية .. انها بحاجة الى برامج تتولاها وزارة الثقافة لتطوير الثقافة العراقية .,. انها بحاجة الى تكافؤ الفرص بحيث يعطي لكل مبدع حقيقي دوره في اي مرفق من مرافق الثقافة .. انها بحاجة الى العمل الجماعي ، فالفردية لا تخلق ثقافة عراقية راقية .. لابد من تجمعات ثقافية وبيوتات فنية وجماعات موسيقية ومنتديات اجتماعية ونواد ليلية ..
واخيرا ، ذكرّني اليوم احد الاصدقاء قائلا بأن الحاجة ماسة الى المكتبات العامة في كل العراق ، فقلت له : نعم الرأي ولكن هذا العصر بحاجة الى وسائل الاتصالات والمعلومات والكومبيوتر الى جانب الاعلام والمكتبات .. فهل سننجح حقا في استعادة العراق ثقافيا ؟ وهل سيتخلص الجيل القادم من كل ما يرجعه الى الوراء ومن الاوهام والعادات البالية ؟ وهل سينجح ابناء الجيل القادم في الخروج على العالم من جديد وهو يحمل ثقافة عراقية متطورة في كل مجالات الابداع ؟ هذا ما نتمناه ان يحدث في المستقبل المنظور لا البعيد ..

أشكركم جدا على حسن اصغائكم .. وساسعد لاستماع اسئلتكم واع

شاهد أيضاً

انقسام العالم الإسلامي والتصدعات الاجتماعية في الشرق الاوسط… 2007 جواز مرور صعب

مختصر مترجم للمحاضرة التي القاها الاستاذ الدكتور سّيار الجميل في منتدى دراسات المستقبل المنعقد في …