الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / تبعثر الاولويات.. ملف (المشروع الحضاري النهضوي العربي).. ملاحظات نقدية

تبعثر الاولويات.. ملف (المشروع الحضاري النهضوي العربي).. ملاحظات نقدية

كنت نشرت مقالة نقدية في جريدة الزمان الغراء بتاريخ 29 أيار / مايو 2001 العدد (928) عن ندوة مركز دراسات الوحدة العربية حول ” المشروع النهضوي الحضاري العربي” ، والتي انعقدت بمدينة فاس المغربية للفترة 23-26/ 4/ 2001، بعد ان كانت أعمالها قد وصلتني بواسطة أحد الاصدقاء .. ولما كان بعض تلك “ الاعمال ” قد نشرها مركزنا الزاهر في مجلته ” المستقبل العربي ” في عدده الاخير المرقم 269 لشهر تموز / يوليو 2001، وفي ملف خاص باسم ” المشروع الحضاري النهضوي العربي “واصبحت الاوراق بأيدي الناس ، فقد وجدت لزاما علي أن أقف قليلا عند هذا ” الملف” لابدي بعض ملاحظاتي النقدية المتواضعة عن أوراقه بشكل عام . وسأحاول نشر عدة مقالات مطولة لاحقا بعون الله ، تختص كل مقالة بمعالجة كل ورقة من أوراق الندوة المذكورة . ولابد لي ان اقول بأن ملاحظاتي التالية مجردة من أية أغراض شخصية ، وانما تأتي في سياق اثراء حياتنا العربية المعاصرة ’ وبناء مستقبل اجيالنا القادمة ، واغناء وتصويبا لمشاركات ما كان لها ان تكون تحت واجهة مشروع استراتيجي كبير ! ومن اجل تقدم مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت وازدهاره عربيا والذي تربى جيل عربي عريض على ادبياته الزاخرة على امتداد قرابة ربع قرن .

خلل في المنهج والرؤية والتفكير
باستثناء دراستين متميزيتين اثنتين او ثلاث ، فان خللا واضحا يكتنف بقية اوراق الملف على مستوى المنهج والمعلومات والتفكير ، بل وحتى في الاسلوب والخروج عن الموضوع الحقيقي الذي انعقدت ” الندوة ” من أجله .. ذلك ” الموضوع” الذي لم يكن محليا او سياسيا او دينيا او اقتصاديا او شعاراتيا واعلاميا .. بل انه موضوع استراتيجي مستقبلي شمولي بحاجة الى ذوى الافق الواسع الذين لابد ان يبتعدوا قدر الامكان عن اسيجتهم الضيقة وافكارهم المحددة واساليبهم الانشائية واتجاهاتهم السياسية ونقولاتهم النصية .. وهم يغامرون بمعالجة موضوعات كبرى كلفوا بالكتابة عنها . ربما يمكنهم توظيف تخصصاتهم لها ، ولكن بعيدا عن الرؤية الانية ، وعن النقولات والافكار الجاهزة والمكررات القديمة التي كانوا قد تربوا عليها منذ عشرات السنين ! اذ بدا واضحا تمام الوضوح ان البعض من الكتاب والمفكرين العرب المعاصرين لم يتعلم شيئا ذي بال من تجارب خمسين سنة صعبة جدا ، وأغلبهم من ابناء الجيل الماضي وقد تجاوزوا الستين من العمر ! وكم يتمنى المرء على البعض ممن يكتب ما شاء له ان يكتب ان يتحدث بحذر شديد في أي ندوة كبرى او مشروع موسوعي او مستقبلي واستراتيجي خطير باسم منهج ” المشروع ” لا ان يتحدث عموميات افكاره الخاصة او باسم نزعته السياسية او الحزبية او الدينية او باسم موقعه الرسمي والشخصي وتوظيف ذلك لخدمته او خدمة معتقده او اتجاهه .. فامتنا العربية بحاجة ماسة اليوم وعند فاتحة قرن جديد الى مشروع تفكير حضاري موحد في اهدافه وقيمه وتطلعاته مهما اختلفت اساليبه وادواته وشخوصه ! فالزمن قد تغير كثيرا ، اذ لابد من ردم التناقضات التي عاشها العرب طويلا .. ولقد صدق علي نصار عندما كتب في ورقته المتميزة قائلا ” فلا نهضة من دون مفاهيم جديدة ولغةجديدة تتسق مع معطيات النهضة وفعاليتها ” (المستقبل العربي ، 269 ، ص 282) . لقد تبين واضحا ان لكل مشارك بورقة ، انما يحمل (مشروعا) معينا بيديه جاء ليعرضه على المنتدين .
المعروف عالميا في تأسيس المشروعات الموسوعية والاستراتيجية الكبرى ان يفرر منهج منضبط ومحدد في طبيعة المشاركة والكتابة والاسلوب وتوظيف المصادر والافكار والعناوين من خلال المدخلات والمضامين والمخرجات وبتحديد عدد الصفحات وحتى العبارات والجمل والفقرات .. وكان لزاما على اللجنة التحضيرية الموقرة ان تثبت ركائز منهجية وفلسفية في عدة صفحات ، تلزم بها من دعتهم للمشاركة بكتابة أوراق بحثية وكلفتهم بمعالجة موضوعات حساسة ومهمة جدا ، وتعلمهم كيفية كتابة الموضوعات من خلال فلسفة مرنة واستيعابية بعيدا عن الانحياز والتعصب والتطرف كيلا يغرق “ المشروع “ نفسه بجملة هائلة من التناقضات والانشائيات والنقولات . ان الالتزام بمنهج موحد وفلسفة مبادىء ليس عيبا أبدا لأي مشارك لأنه سيكون هنا ضمن طاقم عمل يؤمن جميع افراده بذلك المنهج وتلك الفلسفة . والامران اساسيان ـ هنا ـ لأن مشروع العمل جماعي لا مكان للفردية فيه من اجل ان تكون النتائج مشتركة . وكم يود اولئك النقاد والمراقبون العرب ان يكون المشاركون في جملتهم من العلماء المبدعين والمفكرين الحياديين الذين يؤمنون بالمشروعات الحضارية والموسوعية العلمية ، لا من الكتاب الانشائيين والمتحزبين المتعصبين الذين لا عمل لهم الا التعاون مع بعض الصحف اليومية لابداء وجهات نظر سياسية وآنية واحادية ، ولا ان يكونوا من اصحاب المناصب الحكوميين الذين افتقدوا تخصصهم ، ولم يعودوا يواصلوا قراءاتهم ومتابعاتهم نتيجة ظروفهم السياسية منذ أزمان فتخلفوا عن ركب الاخرين مسافات لا حصر لها !
لا عيب أبدا ان يلتزم أي مشارك بخطوط منهاجية ومبادى فلسفية .. وحتى الاسلوب في الكتابة وتركيز المضامين والالتزام بالموضوع وصياغة التفريعات .. حتى يمكنه أن يقدم مادة محترمة في ندوة استراتيجية او اعمال موسوعية تأسيسية .. بدل ان يستكتب بدعوة لا يبرز فيها الا الهدف والاهمية والعناوين البراقة ! لكي يجلس البعض من المشاركين فيكتبون موضوعاتهم على هواهم ! في حين ـ والحق يقال ـ يلتزم آخرون بأصول المنهج واحترام الاخر وخصب التفكير وقدسية الزمن واختزال اللغة من دون اطلاق لآي احكام .. التزاما علميا ، فتبدو اعمالهم قوية متماسكة ومؤثرة .
ملاحظات منهاجية :
1. لابد من التساؤل : أيهما أسبق في المعالجة مصطلحيا ولغويا .. أو أسبق في الحدوث فلسفيا وتاريخيا ” النهضة ” أم ” الحضارة” ؟؟ أليس من الاصوب استخدام : “المشروع النهضوي الحضاري العربي” في تعريف الندوة والملف ؟؟ وهذا ما تبدى واضحا في اوراق كل من : عبد العزيز الدوري ( ص 39) ، وجلال أمين (ص 189)، ومعن بشور (ص 291) وغيرهم. والحقيقة ، ان العرب قد تجاوزوا حالات النهضة على امتداد القرن العشرين بعد أن مروا بحالات اليقظة والاصلاحية على امتداد القرن التاسع عشر.. وعليه ، فالاصوب ان ينادى اليوم بمشروع حضاري من اجل التحديث والتقدم لا من اجل الاصلاح والنهضة ، علما بأن عناوين الاوراق جميعها قد انطلقت من المشروع الحضاري من دون ذكر النهضوي.
2. اعتقد متواضعا أنه من الخطأ ان يعتمد البعض من المشاركين في اوراقهم على اقوال مبتسرة لآخرين وفي كتابة موضوع على درجة عالية جدا من الدقة والتركيز وملاحقة تطوراته على امتداد قرن كامل ومحاولة رسم صورة مستقبلية لقرن جديد . ولا ضير هنا في الاعتماد على بعض المفاهيم الموسوعية لا الاراء الشخصية .. ان حاجة المشروع الى مفاهيم أساسية لابد ان تكتب بكل كثافة وتركيز واختزال .. لكي تقدم في ندوات استراتيجية نالت نصيبها من الاتعاب لا في ندوات محلية عادية كالتي تعقد على عجل في مختلف الاوساط العربية.
3. لقد بدا واضحا ايضا ان البعض من المشاركين الفضلاء اطلق احكاما قاطعة وتوصيات مطلقة من عندياتهم .. ولا تجد لها أية براهين او امثلة .. وكان من الملزم ان تعالج الامور بمنتهى الامانة والتجرد والموضوعية ، نظرا لأن أي مشارك لابد ان يعتبر نفسه واحدا من فريق عمل ، وجزءا من طاقم مؤسس. ويتوجب ان تكون هناك الشراكة المبدئية في المسائل الجوهرية والظواهر التاريخية والمفاهيم العليا ، وليختلف كل مشارك عن الاخر في اسلوبه وأدواته ورؤيته ونتائجه .. أي بمعنى : وجوب شراكة الجميع في اطلاق الاحكام ونشر التوصيات !
4. لقد بدا واضحا ايضا أن اوراق الملف قد حملت جملة من التناقضات الفكرية وعلى اشد حالة من التناقض ، ليس بسبب الخلافات الايديولوجية التي تحكمت في رؤى بعض اصحابها حسب وخصوصا بين القوميين والاسلاميين ، بل وصل امر التناقض إلى التفكير العام وفياس الامور التي علينا نحن العرب ان نعالجها بروح منفتحة وامينة وموضوعية ومجردة وبعقل عربي له الحد الادنى من التوحد واحترام الاخر في مثل هذا التمفصل التاريخي الذي نعيشه اليوم. لفد انتج ذلك ـ مع الاسف ـ : عدم تكامل في الرؤية والتفكير من اجل اغناء المشروع. والامثلة لا تعد ولا تحصى لمن يجرنا طولا ولمن يأخذنا عرضا .. كما سنرى لاحقا.
5. ثمة اوراق مشاركة نشرت في هذا الملف ـ والحق يقال ـ ممتازة ورصينة في منهجيتها وموضوعيتها برغم ان بعضها قد غرد اصحابها خارج سرب المشروع الحضاري العربي . انني اشيد بأوراق كل من : عبد العزيز الدوري وناصيف حتى واسماعيل صبري عبد الله واحمد يوسف احمد وجلال امين وعلي نصار .. وكم كنت اتمنى على كل من ناصيف حتى واسماعيل صبري عبد الله ان يقتربا في ورقتيهما فعلا من المشروع الحضاري العربي ، ويلامسانه ثم يخوضان فيه لمعالجته ، ويحاولان الاجابة على تساؤلات موضوعيهما بالنسبة للمستقبل العربي ، بدل ان يبعدانا عن جوهر المشروع ابتعادا لا مبرر له مطلقا !!
6. لعل افضل ما قدم في هذا ” الملف ” من افكار ، هي التي سجلها علي نصار في ورقته الممتازة ، وخصوصا : القضايا والبدائل والعناصر في بلورة المشروع الحضاري العربي ، او تلك الافكار والنتائج التي اختتم بها ورقته .. ناهيكم عن الافكار العملية والواقعية التي قدمها جلال امين وبالاخص ما أسماه بـ : المحاذير والعناصر لمشروع عربي في العدالة الاجتماعية . وكم كنت أود ان يعالج اسماعيل صبري عبد الله حالات التنمية العربية المفقودة للتعلم من تجاربها المريرة على امتداد خمسين سنة من حياتنا العربية المعاصرة ، كما كان قد عالجها جورج قرم في كتاب عربي ممتاز صدر له قبل سنوات ، او تلك التي اسماها يوسف صايغ يـ ” التنمية العصية ” في دراساته الجادة . وكم كنت اود ان يتوقف بعض المشاركين في اوراقهم على تجارب عربية متنوعة ليقارنوا بينها بكل جرأة وموضوعية ، كي يستخلصوا منها العبر ، ويعطوا لكل ذي حق حقه تاريخيا عند نهايات القرن العشرين .
7. كم كنا نتمنى على اللجنة التحضيرية للندوة ان تعالج مشروعها من خلال ورقة مركزية تأسيسية كبرى تنطلق من ابجدياتها وفلسفتها بقية المشاركات الفرعية من اجل ان يبقى الجميع في اطار المشروع ومركزيته مهما اختلفت الاتجاهات وتباينت التيارات .. وليغدو المشروع جامعا وموحدا من خلال التفاعل الخصب ضمن منهجية عمل وفلسفة بناء .. ان الذي يقف المرء عنده في مضامين هذا ” الملف ” ليس الخلافات والتناقضات حسب ، بل ولادة (مشروعات) لا حصر لها ، فكل مشارك يقدم مشروعا ويدافع عنه دفاعا مستميتا وكأنه سيغير العالم كله من خلاله في عدة ايام .. فهذا يفدم منفيستو في ” الديمفراطية الاسلامية ” ( ص 134) ، والثاني يطرح مشروعه في ” التجدد الحضاري ” ( ص 258) ، والثالث لا يرى حلا الا في ” الثورة العربية ” ( ص 123 ) ، والرابع يرى في المشروع قاطرة فضائية باسم ” احياء النظام العربي ” ( ص 73) ، والخامس يقاتل الجميع من خلال ما أسماه بـ ” النموذج الحضاري الاسلامي ” ( ص 211) ، والسادس يرى السبيل في ” النهوض العربي ” القومي ( ص 295) .. الخ
8. لقد وردت عدة اخطاء في المعلومات التاريخية والكتابية في اوراق هذا ” الملف ” ، ولابد من تصويبها ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر : لقد جرى التعامل عربيا مع مصطلح ” الصحوة الاسلامية ” في الثمانينيات وليس في السبعينيات من القرن العشرين ( ص 246) ، أي : بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران بسنتين . وان محمد علي وابنه ابراهيم باشا حملا اول مشروع نهضوي في تاريخنا الحديث ليس في الثلث الثاني من القرن الماضي ( ص 246) ، بل في الثلث الاول من القرن التاسع عشر . وان بروتوكول الاسكندرية لم يوقع في 10/7/1944 ( ص 116) ، بل وقع في 7/10/ 1944 . ونقول : عصر الاستكشافات الجغرافية وليس ” عصر الاكتشافات الجغرافية ” ( ص 159) . وورد في هامش رقم (18) ص 216 : “انظر : عبد الله : مستقبل النفط العربي ” من دون ذكر اسم المؤلف كاملا ، وسمات الكتاب وناشره … الخ
9. تعاني بعض أوراق هذا ” الملف ” والتي كتبها رجال عرب معروفون في الساحة العربية من أزمة مصطلح ، مما قاد الى حدوث تناقض صارخ في الادلة والمعاني التي يراد التوصل اليها ، وباستطاعة أي راصد وناقد ومقيم وقارىء ذكي ان يقارن نماذج لا حصر لها من المصطلحات التي فسرت بطريقة مأزومة غير امينة ولا علمية من اجل تطويعها لخدمة افكار معينة بذاتها .. ويكفي كل ذلك دليلا على ارتباك التفكير العربي المعاصر ارتباكا مفجعا بعد مرور عشرات السنين من تقادم الثقافة العربية الحديثة التي ابتليت ـ مع الاسف ـ ببعض الكتاب الديماغوجيين الذين يسوغون اليوم المصطلحات القاموسية والعبارات الموسوعية المتعارف عليها في كل الثقافات ، ويستخدونها استخداما مغالطا ! علما بأن هناك من عالج جملة كبرى من المصطلحات المتداولة معالجة دقيقة ، وثبت معانيها الواضحة في عدد من الدراسات العربية المؤلفة والمترجمة المتميزة .

10. ان اخطر ما عند بعض كتابنا العرب ـ سامحهم الله ـ مكابرتهم ، بحيث لا يعترف واحدهم بالاخرين الذين ربما اختلفوا عنه في المنهج والفلسفة والتفكير ، فغدا يفسر المفاهيم على هواه ، وبما يتفق وافقه الفكري ونزوعه الايديولوجي ومرجعيته السياسية ! وعليه ، فقد حدث خلط مربك وعدم تمييز وقلة اكتراث وتبديل متعمد لمصطلحات عديدة معروفة ، ومنها : النهضوي / الحضاري / الاصلاحية / التجديد / التجدد / الثورة / التقدم / النموذج / التطور / التطوير / الثقافة / التغيير / الديمقراطية / الليبرالية / الاستبدادية / الاحيائية / التراثية / التنظيمات / المؤسسات / الحركات الفكرية .. الخ ، بل ويجد الناقد عدم اكتراث لمفاهيم ومصطلحات ، مثل : التقدم / التحديث / الحداثة / التطور / التغيير / المعلوماتية / المنهجية / الابداعية / الابتكارية .. الخ
لقد وجدنا ان بعض المشاركين قد كتب تعريفات مبهمة لمصطلحات ومفاهيم معروفة من عندياته من دون الاستعانة بأي قواميس وموسوعات لاستنباط المعاني الحقيقية ، لقد غلبوا امزجتهم ونزوعاتهم في توصيف او تعريف : الديمفراطية والاشتراكية والثورة والعلمانية والوضعية والدولة والتنمية والرأسمالية والعولمة .. الخ
هذه ملاحظات نقدية مختزلة عن بعض ما يمكن قوله في هذه العجالة وما خفي كان أعظم سنعالجه تفصيليا في وقوفنا وقفة مطولة عند كل ورقة من أوراق الندوة بعد استكمال نشرها من قبل مركزنا الزاهر بعون الله .
__________________________________________________

تناقض المفاهيم
أما بصدد تناقض المفاهيم التي وردت في هذا ” الملف ” ، فالامر اكبر مما يمكن تصوره ، وان دل هذا على شيىء فانما يدل على ما يعانيه التفكير العربي المعاصر من اضطراب وتبعثر في الاولويات الفكرية العربية المعاصرة. وعليه ، فنحن العرب بأمس الحاجة الى حركة نقدية قوية جدا يمارسها كل من يجد في نفسه القدرة والشجاعة على قول ما يراه صوابا من رصيد المعلومات الاكيدة والموثقة وليس من انشاء وجهات النظر العادية .. وليس معنى ذلك ممارسة لجلد الذات ، هذه العبارة السقيمة التي يطلقها البعض على من يمارس المكاشفات النقدية الصادقة ولا يريد ذلك البعض الا تسويغ البلايا والكوارث والخطايا بحجة مداراة الامزجة والذات وربما المصالح الخاصة والامتيازات والابقاء على الاوضاع كما هي عليه. ان ممارسة النقد وتعرية الاخطاء لكل ما في حياتنا العربية لابد ان يكون منهجا عمليا وتربويا أساسيا ونبيلا وقويا وصريحا وشجاعا ضمن فقرات المشروع .. وليدعني القارىء ان اتوقف قليلا لنقارن بعض التناقضات التي حفلت بها اوراق الملف ، وهي مجرد نموذج صارخ للتفكير العربي المعاصر الذي يعيش اقوى تناقضاته اليوم .. وبينما العالم كله يفكر اليوم بايجاد مديات جديدة للحياة وبدائل متطورة ازاء المستقبل ، فان العرب مازالوا حتى عند نخبهم المفكرة وفي اعمال ندوة استراتيجية لم يعرفوا بعد الصحيح والخطأ ، ولم يعرفوا غير قلنا وقالوا !! وما زالوا يتعبدون يوما في معبد الماضي او تراهم يتمردون على ذاتهم في يوم آخر ! فلنقارن :
1. يقول عبد العزيز الدوري : ” وقيل أن الشورى هي الديمقراطية ، وهذا فيه نظر ، فالشورى اختيارية والقرار للحاكم ، والديمقراطية تقترن بالتعددية السياسية ، وهذه لم تجد مجالا مع الشورى ” ( ص 41) . في حين يكتب فهمي هويدي قائلا :” فاننا لا نجد فرقا في المفهوم بين الديمقراطية والشورى ولا نكاد نرى تعارضا بين الاثنتين في أي باب .. ” (ص 140).
2. يقول احمد يوسف احمد : ” يسرف الفكر القومي العربي احيانا في رد الهزائم والاخفاقات الى العوامل الخارجية ، ويتهم كثيرا بتركيزه على فكرة المؤامرة .. ” ( ص 112). في حين يكتب عادل حسين قائلا : ” وغني عن البيان ان التآمر الخارجي يشمل الاستفادة اليقظة من اخطاء القيادات في هذا القطر او ذاك .. ” ( ص 228) . كما يكتب في مكان آخر : ” لقد كشف العديد من الكتابات سيناريو التآمر المركب الذي حيك .. ” (ص 227).
3.يقول علي نصار : ” لقد انتهى عصر انفراد قوة سياسية ، او بلد بالريادة السياسية والثقافية ولكن هناك مجالا للتنافس في الريادة في حقول متنوعة ، ومجالا لترسيخ ثقافة الاختلاف والتنوع ” ( ص280). في حين يكتب سعدون حمادي قائلا : ” فالقطر الذي يرغب في ان يكون قاعدة اشعاع للوحدة العربية ويستطيع ذلك ، يجب ان يكون المجال امامه مفتوحا من دون معوقات او أفكار مسبقة .. ” ( ص 126).
4.يقول احمد يوسف احمد : ” ومع ذلك ينبغي التسليم بأن النغمة الشائعة في الكتابات والتحليلات والملتقيات الفكرية ذات الوجه القومي العربي كانت نغمة استنكار للدولة القطرية ، وتحميل لها لمسؤولية تعويق العمل الوحدوي ، وان بدأت هذه النغمة تخف في السنوات الاخيرة بعد ان فرضت تطورات قطرية وعربية وعالمية مزيدا من المناعة للدولة القطرية القائمة مسألة في حكم المستحيل ” ( ص 109) . في حين يكتب سعدون حمادي رأيا معاكسا فيقول :” الدولة القطرية عموما بنظامها وفئتها السياسية الحاكمة تقف الان ضد الوحدة وتعمل على تقوية وضع التجزئة . والبعض منها يذهب الى ابعد من ذلك بالتعاون مع القوى الخارجية لمنع قيام الوحدة ، ويستخدم الوسائل التي توفرها الدولة الحديثة ، كالقوة العسكرية والمخابرات والاعلام والمال للحد من الاتجاه نحو الوحدة ” ( ص 121) .
5. يقول معن بشور : ” .. يمكن أن يلتقي امام رؤية محددة للنهوض في الامة ، اليساري مع القومي مع الاسلامي مع الليبرالي مع الاصلاحي على أمل ان يسعى كل واحد منهم بعد ان يتحقق التغيير المرحلي الى ان يقود البلاد باتجاه خياره العقائدي .. ” ( ص 291). ويكمل في مكان آخر قائلا : ” فكثيرا ما شهدنا صراعات وانقسامات وانشقاقات غير ضرورية نتيجة اختلافات قامت على فرضيات لم نكن نملك الصبر عليها أو الوسائل العلمية لامتحان صحتها ، فتمسك كل فريق بفرضيته متصورا انها نظرية نهائية وشاملة ونبذ الفريق الاخر وخاصمه وحاربه واحيانا اضطهده اذا كان بمقدوره ذلك ” ( ص 299) . في حين يكتب عادل حسين النص التالي : ” لا ندخل في حديثنا هنا عن المتغربين دعاة الليبرالية المعاصرين ، اذ نسقط اغلب هؤلاء من حسابنا ونحن نتحدث عن مشروع الاستقلال والنهضة الموحدة . انهم في خانة اعداء المشروع ، على عكس من تأثروا بالماركسية في عقود ماضية ( يقصد الرجل ـ رحمه الله ـ : نفسه ) محتفظين بجوهرهم القومي الاصيل ، مع تسليمنا الطبيعي بالنواقص الخطيرة في المنهج الماركسي بدءا من اصوله الفلسفية المادية ، ولكننا نلحظ للاسف تحول كثيرين من الذين تأثروا بالماركسية ( في الخمسينيات وحتى الثمانينيات ) الى معسكر الليبراليين المتغربين ” ( هامش رقم 38 ص 233) .
6. يقول عادل حسين مناديا في مكان اخر : ” رفض اية تفرقة .. باسم التقدم والتنمية على اسس عرقية او دينية ..” ( ص 213) . في حين يطالب سعدون حمادي قائلا :” والروح القومية يجب ان تكون مبثوثة .. حتى تصبح الهواء الذي يتنفسه الفرد العربي ” ( ص 127) . ويرجع عادل حسين ليكتب : ” اننا نتكلم عن بلورة عقيدة جامعة للكل ، نتكلم عن اكتشاف لحقيقة موضوعية تعلو على الانتماءات الفرعية وتحكمها ” ( ص 233).
7. يقول جلال أمين : ” لا يصح في نظري ان يظل الخطاب الاصلاحي العربي ، في ميدان العدالة الاجتماعية على الاقل ، ذا طابع محلي او قومي صرف ، دون ان ينفتح على الفكر الاصلاحي العالمي ” ( ص 201). في حين نجد نصا مناقضا كتبه طارق البشري اذ يقول : ” ان استيراد نموذج فكري او تنظيمي من سياقه الحضاري المجتمعي وزرعه في اطار حضارة اخرى ومجتمع آخر ، لا يؤمن قط ان يؤدي في البيئة المنقول اليها ما حقق من مصالح في البيئة المنقول منها .. ” ( ص 251).
8. يكتب جلال امين بعض الحقائق التاريخية المعروفة لدينا نحن معشر المؤرخين ، قائلا : ” وقد يكون من المفيد ان نلاحظ ان تلك الفترة من التاريخ الاجتماعي المصري التي شهدت أكبر قدر من النشاط في ميدان العمل التعاوني ومن نمو الحركة التعاونية ، بل من نمو نشاط المجتمع المدني بصفة عامة ، كانت هي فترة الثلاثين عاما التي تفصل بين بداية الاحتلال البريطاني لمصر ( عام 1882) وقيام الحرب العالمية الاولى ( عام 1914) . كانت هذه هي الفترة التي شهدت انشاء اول جامعة مصرية ، وكان تمويلها بتبرعات اهلية وليس بأموال الحكومة ، وعدد كبير من المدارس والمستشفيات والملاجىء التي مول كثير منها بالطريقة نفسها ، كما كانت هذه الفترة التي شهدت نشوء اول حركة تعاونية في مصر ” ( ص 200). دعونا نقارن هذا المضمون التاريخي مع ذاك الذي كتبه طارق البشري في ورقته ، ولنتأمل حجم المغالطات التي اجتمعت في ملف واحد فقط من ملفات الفكر العربي المعاصر . كتب طارق البشري قائلا : ” ان النخب السياسية والاقتصادية … كانت تتسم بالطابع الاسلامي وتدور ثقافتها السياسية والاجتماعية في اطار المرجعية الاسلامية ، ثم مع نهايات القرن التاسع عشر جاء النفوذ الغربي السياسي والثقافي بنظام وضعي للتعليم في المدارس الرسمية التي ترعاها الدول وفي مدارس التبشير وفي العقد الثاني من القرن العشرين كان هذا النظام التعليمي قد اخرج جيلا من الفنيين ابناء المدارس الحديثة الذين انفصلت لديهم علوم الدنيا عن علوم الدين .. وصار مشروع النهضة لديهم بالاستبدال لا بالتعديل ، وبالتغيير لا بالاصلاح والتجديد ودعم هذا التوجه الثقافي ان بلادنا تشرذمت اقطارا منفضلا بعضها عن بعض بموجب سياسات الدول الكبرى التي فرضتها .. وانفك بذلك الرابط بين الاطار المرجعي الذي تنبعث منه اسس الشرعية للنظم والمعاملات والقيم ، وبين التشكل الثقافي الذي تقوم عليه الجماعة السياسية لآن ” القطر” هو وحدة سياسية لا تعكس تشكلا ثقافيا ” ( ص 243). وانني هنا لا اريد مناقشة طارق البشري في هذه المغالطات فسوف يكون ذلك في مكان آخر ، ولكن فقط لنذكره بأن محمد علي باشا هو اول من أسس المدارس الحديثة في مصر التي لا علاقة لها بعلوم الدين ، وان اجيالا من الفنيين والاطباء والمهندسين وغيرهم قد تخرجوا في اروقتها على امتداد القرن التاسع عشر .. وكان تفكيرهم علمي وافقهم خصب وانشطتهم فعالة في مشروعهم النهضوي كي يطالبوا منذ ذلك الوقت بالتغيير لا بالتعديل وبالتحديث لا بالاصلاح على عكس ما نراه اليوم اذ تراجع التفكير وتخلف التشكل الثقافي كي يطالب بالتعديل ورتق الخروق واصلاح الاحوال باسم المحافظة على الاصول وابقاء القديم على قدمه !!!

وقفة تأمل ليس الا !
دعوني انقل في ادناه وصفا انشائيا وعاطفيا لـمفهوم ” الثورة ” من الورقة التي كتبها سعدون حمادي وكم كنت اتمنى على الرجل ان يكون أكثر قدرة على الكتابة والمشاركة في تأسيس مشروع حضاري للامة عند بدايات القرن الحادي والعشرين ، متمنيا عليه ان يراجع ما كتبه ثانية وحذف ما لا يلزم من الكلام ، كتب قائلا : ” الثورة عمل يتجه الى الانسان ويحدث فيه هزة يتغير بها تفكيره وبالتالي سلوكه وعلمه ، فيتحول من وضع السكون الى وضع الحركة ، ومن حالة الخضوع للغريزة الى الاستجابة للضمير والمبادىء ، ومن حالة العجز الى الابداع والحيوية . وبذلك تظهر التضحية والطاقات الكامنة وتتفجر القوة الروحية ، فيصبح الواحد أقوى من المئات ، بل الالاف ، ويصبح نقطة اشعاع تؤثر في الاخرين فتحدث فيهم الهزة الروحية نفسها. وهكذا ، تتسع الدائرة بعملية مذهلة تحقق ما كان يعتبر مستحيلا ، وتتسع الى ما كان يعد بعيدا ، فتتهاوى القوى الجبارة ، وتسقط الهياكل القوية ، ويحدث الزلزال ، ويتحقق ما كان يحسب في عداد المعجزات . ذلك ما حدث في التاريخ ، فعندما يتغير الانسان يتغير كل شيىء ولا يتغير الانسان كما تغيره الثورة لأن الانسان هو الجذر ، اما المؤسسات فهي الجزء الظاهر من الشجرة ” ( ص 123) . ولا أريد ان اعلق على هذا الكلام ، بل أتساءل فقط : هل يمكننا بناء مشروعنا الحضاري العربي عند فاتحة القرن الحادي والعشرين بمثل هذا التفكير ؟ انني اعرف الرجل انه يمتلك تخصصا ممتازا في علم الاقتصاد الزراعي ، فما ضره لو بقي في اطار تخصصه بدل ان يمدنا بمثل هذا الكلام ؟؟ لقد ذكرنا بايام دراستنا في الصفوف الاعدادية ايام الستينيات ونحن نتبارى بعواطفنا القومية في كتابة انشاء اللغة العربية الذي نقدمه لاستاذنا في اللغة العربية رحمه الله !!
انني اختلف مع الرجل ايضا في قوله : ” كما ظهرت بعض الكتابات المرتبكة تعرب عن القلق الفكري والحيرة في ما يجب ان نعمل ، فهي تتحدث عن كثير من امور الاصلاح متجنبة الحديث عن الوحدة . فهي تخوض في العموميات وتتناول الفروع عن هذا وذاك من دون تناول هدف الوحدة ، وكأنه في نظرها أصبح مستحيلا ، ويرمز الى ذلك السؤال الذي يتردد : ما العمل ؟ ” ( ص 127) . ونحن نسأل الرجل : هل يمكنه ان يحدد اسماء اولئك المرتبكون في كتاباتهم ؟ وهل كان الاعراب عن ايجاد صيغ جديدة ضمن القلق الفكري والحيرة في هذا العصر يعد ارتباكا ؟ وهل كان قسطنطين زريق مرتبكا في الذي كتبه واجاب عليه تحت عنوان : ما العمل ؟ وهل نسي زريق واقرانه من شتى الاجيال القومية هدف الوحدة العربية ؟ أليست هذه العبارة تناقض جملة التساؤلات التي فرضها اكثر من مشارك في اوراقهم التي قدموها لندوة المشروع الحضاري العربي ؟
ما يستوجب التفكير فيه والبحث عنه
وأخيرا ، لابد من القول ان ثمة مناقشة نقدية لمضامين الاوراق وما احتوته من افكار وآراء واحكام .. سأحاول نشرها قريبا ، ولكن علي ان اسجل بعض الرؤى المتواضعة ـ هنا ـ قبل ان اختتم كلامي :
1. كم يتطلع العرب بجيلهم القديم ام جيلهم اللاحق نحو تأسيس مشروع حضاري مستقبلي تؤسس فيه ركائز جديدة تتطلع نحو المستقبل في كل مناحي الحياة بعيدا عن كل ما عاناه العرب وألفوه في القرن العشرين ، وليكن القرن العشرون وعاء تجارب تستفيد منه الاجيال القادمة التي ستواجه تحديات صعبة لابد من مواجهتها ضمن تفكير جديد ومفاهيم جديدة ونزوعات جديدة .. اذ يكفي العزف على اوتار مألوفة واصبحت بديهية بل ومستهلكة للجميع.
2. لابد من مواجهة الواقع المرير الذي تمر به الامة العربية بمشروع علمي وحضاري في النقد والمكاشفة والتحليل يتجرد لها من له ضمير حي وشجاعة كافية وثوابت قوية .. ليس من اجل تعرية ذلك الواقع والتمتع بمشاهده البائسة على مستوى الدولة والسلطات والمجتمع والصراع ضد الاعداء .. بل من اجل التعرف عليه وايجاد العلاجات الواقية والنافعة للاجيال القادمة ، شريطة توفر الاجواء الحرة والمعاملات الاخلاقية والاساليب النزيهة.
3. لابد من التوقف عن تكرار ما يعرفه العرب وغير العرب في محيطهم الجغرافي .. من استنساخ الاراء والمفاهيم والاولويات التي عاشها العرب وعرفوها ، ولاكتها الالسن ليل نهار .. اذ ان من بديهيات الحياة ان يعرف الناس ثوابتهم وعقائدهم وقيمهم .. والاجدى لهم معرفتهم وممارستهم لكيفية بناء مؤسساتهم واجهزتهم وينجحوا في بناء علاقاتهم الاجتماعية ونزوعاتهم السياسية .. وأساليب تعاملهم مع الثقافات الاخرى .
4. لابد ان يسأل العرب انفسهم في زمنهم هذا : لماذا هم بحاجة ماسة لمشروع حضاري ويعلنوا عن ذلك بصراحة وذكاء ؟ ان مجرد الاجابة على هذا السؤال اجابة حقيقية من دون لف او دوران ، فسوف يعرف العرب موقعهم الحقيقي في هذا العصر اولا ، وسوف يسكت اولئك الذين مازالوا يتشدقون ويتفاخرون ويتنطعون تحت مسميات وشعارات ولافتات شتى واغلبهم من العاجزين عن فهم متغيرات الحياة وتطوراتها المعقدة اليوم ، وهم من التواكليين والخاملين والمجترين والمطنبين والانشائيين .. الذين لم يتعلموا كيف يكونوا من الحاذقين والمهرة والعمليين والتجريبيين والمدققين والمنهاجيين ..
5. لابد ان يدرك العرب ان مشروعهم الحضاري لا يمكنه ان يغدو تكامليا شاملا لكل مناحي الحياة ، فالتوازن مطلوب بين ما يمكن اشباعه من التشيؤات والحاجات والخدمات والتربويات ووسائل العيش المتنوعة التي يحتاجها الجيل الجديد وهي كبيرة جدا في حياته اليوم وبين مجموعة القيم الموروثة التي باتت معروفة وبديهية ولا تحتاج الى مسهبات ودراسات ومشاريع ! وعليه ، فان تفكير العرب المعاصر لابد ان يوجه الى اغناء المشروع الحضاري بمفاهيم جديدة واساليب جديدة ومعلومات جديدة ..
6. لابد ان يدرك اولئك المفكرون والكتاب والمختصون والساسة العرب ان مشروعا استراتيجيا كالمشروع الحضاري العربي لا يعالج من خلال وجهات نظر وآراء شخصية ضمن مساحة آنية توزع فيه الاحكام السريعة وتعطل فيه المفاهيم الحديثة وتلوى فيه مصطلحات العصر وتؤدلج فيه المواقف بصيغ حزبية كصيغة : مع هذا او ضد ذاك .. وتغيب عنه المعلومات وتمجد فيه النصوص وتزرع فيه الظنون وتسود فيه الانشائيات المدرسية وتتفاقم فيه التناقضات وتكرس من خلاله الاراء السياسية السريعة لا المواقف الفكرية المؤصلة .
7. هل عدم العرب في تاريخهم الحديث او المعاصر من أية تجارب تنموية او مشروعات نهضوية او تأسيسات معمارية او مؤسسات تحديثية او تشكيلات ثقافية ؟ وهل عدم العرب من مفكرين ومبدعين ومختصين ورجالات نهضة ؟ وهل باء العرب جميعهم بالفشل ولم تنجح اية تجربة عربية ابدا في القرن العشرين ؟ الم نجد بعض التطورات السريعة في مستويات عدة يمتلكها بعض العرب ؟ وهل يعد فشل العرب في تحرير فلسطين سببا ام نتيجة في اخفاق المشروع النهضوي الحضاري العربي ؟ انه نتيجة وليس سببا !
8. كم تمنيت على اوراق هذا ” الملف ” وهي تعالج موضوعات متنوعة ان تلتفت الى جوانب اساسية في الواقع العربي اجتماعيا وثقافيا الى جانب معالجته سياسيا ودينيا ، فيخصص المجال لتأسيس تربويات بيداغوجية جديدة ، والمطالبة بتحديث القوانين العربية واستحداث فقه جديد يعمل على معالجة المستجدات الاخيرة في الحياة العربية ، ناهيكم عن حاجتنا الماسة لتجديد الهياكل والمؤسسات والانظمة المختلفة في الدول العربية ، وكم هي الحاجة ماسة اليوم للعرب في مشروعهم الحضاري ان يتوصلوا الى اساليب وكيفيات وطرق ومناهج تثري عمليات التضامن والاتفاق والتعامل والتعاون في ما بينهم من اجل بناء مصالح تكاملية عربية .
9. ونحن ازاء امة عربية ضمن كتلة العالم الاسلامي من جنوب العالم ، بحاجة الى مشروع حقيقي حضاري في تحديث الحياة وتطورها من خلال تنمية التفكير وتغيير الانماط المتخلفة والمألوفة في مختلف اوساط الحياة العربية ..ان قادة الامة بحاجة الى مشروع عملي فاعل يعكس تطلعات الامة نحو المستقبل .. وينبههم دوما الى ما لابد له ان يكون وخصوصا في اساليب مجابهة التحديات والتعامل مع الصراعات ازاء الاعداء الحقيقيين .. وتقديم المشروع لمقترحات فعالة لتخليص المجتمع العربي من ازماته ومشكلاته ومعضلاته وبناء توجهات جديدة ، ومنها : ازاحة خط الفقر المدقع ، محو الامية الطاغي ، منح الانسان كرامته ، سيادة القانون ، بناء المؤسسات ، حرية التعبير ، التشريعات التربوية ، الاخلاقيات الرفيعة المهنية والشخصية.. التضامن العربي والعلاقات الجديدة ..الخ
10. وأخيرا ، لي كلمة اخيرة ازجيها لبعض اولئك الكتاب العرب الذين لم يقرأوا شيئا ذي بال من الذي نشر فقط في السنوات العشر الاخيرة ليس في العربية حسب ، بل بالانكليزية وما طرح من افكار ومعالجات ومقارنات ومعلومات واحصائيات في مختلف الشؤون العربية .. والتي لم يعيروها اية اهمية .. ولابد من معرفتها عربيا والاستفادة منها ، ويكفيهم ما تنشره مجلة المستقبل العربي من بيبيلوغرافيات لمئات الكتب والدراسات المعاصرة عما يخص حياتنا العربية المعاصرة . اتمنى ان تكون الاوراق الاخرى اكثر رصانة واهمية .. ولنا جولة اخرى في تقييمها عندما تنشر باذن الله .

ملاحظة مهمة : نشرت نقداتي هذه قبل ان تنشر اعمال الندوة في كتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت ، ولما تصفحت الكتاب اثر نشره وجدت ان بعض التصويبات التي اشرت اليها قد أخذؤ بها محرر الكتاب من دون ان يشير الى من قام بتصويب ذلك .. حسب ما تقتضيه الامانة العلمية .

نشرت في الزمان اللندنية ، العددان 989 ، 990 بتاريخ 8 -9 اغسطس/ آب 2001

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …