ثمة طائر أخضر يغطي وجه السماء بغيوم كانون الأول، يمد جناحيه، فيمدّ أحمد يده، ويصعد.. يصعد حتى يصبح كل ما حوله شديد الاخضرار مثل ذكرى مرج ابن عامر.. يهمس بصوت عصفور ذبيح يحمل على كتفيه الصغيرتين عبء ستة عشر عاماً من الذل والقهر والاحتلال: ها قد استطعت أخيراً أن أحقق الحلم
يفرش بصره عبر سبع طباق نحو الأرض ليرى المشهد الذي طالما رآه في شوارع خليل الرحمن: ها هم يلفون جسده بالعلم الغالي، ويرفعون صوت الوطن إلى أقصاه: لا إله إلى الله.. أحمد يا حبيب الله.
أي بشرى يحملها له هذا النشيد الخالد.. “إذاً لقد غدوت شهيداً” قال في نفسه. قبل لحظات كنت خائفاً كنت أرتجف كعصفور مبلول، حين وضع الجندي رجله على عنقي، وأطلق النار بين عينيّ المذعورتين، ولكن: ما إن شعرت بالطلقة تخرق صدغي حتى أحسست باطمئنان غريب..
لن تستطيعوا يا أصدقائي أن تتخيلوا هذا النوع من الاطمئنان الذي يتسرب إلى قلب الشهيد حين يعانق جسده الأرض وتعانق روحه أحبابها في السماء، هل تصدقون أنني رأيت محمد الدرة، كان يفتح حقيبته المدرسية ويقرأ وتعلو وجهه ابتسامة انتصار، كان نجوم السعادة تتلألأ فوق خديه حتى إنني كدت أنسى ذلك الذعر الذي تناقلته وكالات الأنباء لوجهه البريء.. ربما كان حظي سيئاً، إذ لم تصورني أية كاميرا، ولكنني أشهد الله أن ذلك الجندي لم يرحم قدمي التي أصيبت بطلق ناري، فداس على رقبتي، ونظر حوله مطمئناً إلى عدم وجود أية كاميرا، ثم أطلق الرصاص.
* * *
لم يصدق أصدقاؤه الخبر، فقد كان أحمد حتى صباح أمس يملأ الصف التاسع الأساسي في مدرسة الملك خالد حيوية ونشاطاً، ليلتحق بعمله بعد انتهاء الدوام الرسمي.
لم يصدق أبوه فقد كان حتى مساء أمس يملأ كلّ الأمكنة بحضوره البهي، حتى إنه قرأ ليلة أمس سورة الكهف في المسجد بصوته الرخيم الذي ما زال يملأ الآذان التي تطرب لذكر آيات الله.
* * *
حسناً يا ديبورا.. أشعر هذه الليلة برغبة عارمة في أن أمتلك جسدك الغض، فأنا في إجازتي هذه أتمنى أن أرتاح، خاصة بعد أن أن قمت بواجبي اليوم على أكمل وجه، لقد سحقت صرصاراً صغيراً بقدمي ثم أطلقت عليه النار.. على الرأس مباشرة يا حبيبتي، وحين حاول الكلاب إسعافه أخرتهم كثيراً حتى أطمئن إلى عدم جدوى أية محاولة، وعندما وصلوا إلى المشفى انتهى كل شيئ، إلى متى سيبقى هؤلاء “الغوييم” يعكرون حياتنا، اخلعي عنك هذا الثوب النبيذي، وادخلي إلى مسامات جسدي..
ـ لن تمسني يا يزهار حتى تستحم ثلاث مرات لتتخلص من رائحة ذلك العربي الذي يعشش في ذاكرتك كعنكبوت نشيط.
* * *
لا تحزني يا أمي، فالبركة فيمن تبقى، والعزاء في إخوتي الثمانية، وأخواتي الخمس. ووالدي الذي تحرسكم عيناه الكليلتان وقلبه المبصر، سييخفّف عنك الحزنَ، وعندما يخرج حسين وحسام من السجن سيعوضانك عن غيابي
.
لا تحزني، فكل شباب “فرش الهوى” وكل شباب فلسطين وأطفالها أبناء لك.. وأنا أراك هنا من مكاني العلي، وأمد يدي لأمسح دموعك الغالية ولا أستطيع.. أرى كل شيء ولكن حاجزاً شفيفاً يفصل بين عالمكم وعالم الشهداء.
* * *
ـ ماذا حدث لك يا يزهار.. هل كنت مع امرأة أخرى؟ لماذا لا تكون صريحاً معي.
ـ أقسم لك بالرب أنني لم أعاشر امرأة منذ أسبوع.
ـ لم تعد رجلاً .. اذهب الآن واسترح شهراً أو شهرين ريثما تستعيد بعض رجولتك، أما أنا فيمكن لي أن أتدبر أمري.
ـ صدقيني يا ديبورا.. أنا لست على ما يرام.. صورة ذلك الفتى تلاحقني.. لا أدري أين اختفى ذعره.. إنه يبتسم.. هل تفهمين..
ـ اذهب يا حبيبي.
ـ إنه يبتسم.
ـ اذهب
* * *
لقد كان بيننا، صلّى الجمعة في مسجد الحرس،وخرج مع الجماهير التي احتشدت في مسيرة حاشدة، وحين انتهت المسيرة رأيته، قال لي: سأذهب لرؤية مقام الشهيد حمزة أبو شخيدم الذي سقط في حارة الشيخ، ذهبت معه، وحين سمعت إطلاق الرصاص ركضت، وركض أحمد، لم تكن هناك أية مواجهات، ولكن أحد الجنود أحب أن يجرب حقده فينا، عندما نظرت حولي لم أر أحمد.. سمعت فيما بعد أنه استشهد.. هنيئاً لك يا صديقي، فقد سبقتني.
* * *
منذ ذلك اليوم.. يوم الجمعة الثامن من كانون الأول عام 2000 لم يعد يزهار إلى عشيقته ديبورا التي ما زالت تستطيع أن تتدبر أمرها، أما أما أحمد القواسمي فما زال يزور ليلا يزهار كابوساً مرعباً.. يخترق الحواجز والأسلاك، ويرفع الغطاء عن وجه القاتل لا ليقتله، بل ليزرع ابتسامة عريضة تمتد من النهر إلى البحر.
Check Also
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …