وحدة العراقيين في إطار التنوّع
أ.د. سيّار الجميل
تحدّث الفيلسوف فرديريك نيتشه 1844- 1900 م عن الأمل ووحدة الجماعات. وجد الطريق سيصل بالناس إلى نهايته، وقد احمرّت أوداجهم ,وتشتّت شملهم بتأثير اجتيازهم كل البركان. ويمكن تشبيه هذا بحالة العراقيين اليوم، الذين لم تنقطع أنفاسهم يوما عبر آلاف السنين، سيخرجون قريبا من أتون البركان وعصفه الشديد المخصب بالحمم واللهب والشواظ. وهم يهشّمون في طريقهم كل البشاعات، ويمزّقون تراتيل الخرافات، ويبعدون الخوف من الشعارات، فتموت الأحقاد والثارات عن نفوسهم المشبعة بالآلام والقسوة.
يتوهجون، في العموم، كلّ حين، ويعبّرون بكلّ وسائلهم، في أيٍّ من المناسبات المؤثّرة، ليقولوا لا للأشرار والفاسدين، وبلى للأخيار والمبدعين، لا للطائفيين والانقساميين، ونعم للوطنيين المتمدّنين. يبحثون عن أية وسيلةٍ من أجل أن يتّحدوا فيها، على الرغم من كلّ التحدّيات الصعبة. ولعل أغرب ما تراه اليوم فيهم استجابتهم السريعة جدّاً للتحدّيات التي يعانون منها، وهم يستبعدون كلّ عوامل القلق والدعوات الناشزة. ويجد المرء هذا المتغيّر الرائع في أنفسهم، بحيث بات رحيلٌ مفاجئ ومحزن لأحد رموز لاعبيهم الرائعين للكرة العراقية، الكابتن أحمد راضي، مناسبة للاتحاد، حتى في المجال الافتراضي، وهم يبحثون عن أيّ مشروع وطني يوحّدهم من أجل المستقبل، مستبعدين الشعارات المغرضة، والأوهام الداعية إلى الانقسامات، وهم يقاربون أحدهم الآخر في أن يجمعهم وطنهم، ويوحدهم من جديد. نعم، إنهم يريدون الخروج من مأزق الانقسامات إلى حيث التنوّع والوحدة، تنوع في التعدّدية، ولكن الطريق واحد نحو الأهداف. وأعتقد أنهم سيصلون إلى مبتغاهم، وهم يحملون أكاليل المحبة والتبجيل.
وربما ثمة تفسير آخر، لما كتبه كلود ليفي شتراوس 1908- 2009 م ، وهو يحلل الأصول الأنثروبولوجية لسايكولوجية مجموعات الأحرار ممن لهم أحاسيس جد مرهفة، فهم يحاولون التخلّص من كلّ تناقضات المجتمع بالانعزال عنه، بعد التمرّد عليه وإعلان البراءة منه. ولكنهم يبقون ملتصقين بأعماقهم، أي بأوطانهم وبيئاتهم وأهليهم ، ويموتون بعد احتضار أليم، قد يكون طويلاً أم قصير الأمد، بسبب غربتهم عنها وعنهم ! وهذا ما أجده، ليس عند مجموعات واسعة قد تكون سيكولوجياتها مدمّرة أو متعبة أو هشّة، جرّاء حدّة التناقضات وكثرة الأوبئة السياسية والاجتماعية، ولكنهم في اللاوعي، جمعوا أنفسهم على الوحدة، حتى وإن تباعدوا في غفلةٍ من الزمن، أو تخاصموا لأسبابٍ سياسيةٍ ومذهبيةٍ وعرقية وثقافية.
تراجع عراقيون كثيرون عن أفكارهم القديمة، بل وأخذوا يُمعنون النظر في تواريخهم المعاصرة، كي يكونوا واقعيين وأسوياء، بل وحتى العراقيين من الأحرار الملتزمين باتوا لا يقتنعون بما تتضمنّه خطب دينية، أو خطابات سياسية أو تصريحات إعلامية، ويدركون ما يتفوّه به المهرّجون والمنافقون والذيول الذين ترقّصهم الشعارات وتسيّرهم الإرادات الإقليمية، أو أولئك الذين يسمّيهم فيلسوف راحل الأغبياء المنافقين، وأسميهم المتطفلين. انظروا إليه الآن، وهو يرفض كلّ ذاك المجد المزيف الذي بني على النفاق والشقاق وسوء الأخلاق. واليوم ليس لنا إلا مذكرات أولئك الذين ناضلوا وتبتّلوا طويلا في محراب الثورة من أجل أوطانهم، وقد أتى ليحيا اليوم، ولكنه اكتشف هول الفاجعة، ولكنه يصر على كشف الغمّة وبزوغ الفجر من جديد.
الترحم الجمعي والتأبين الواسع لرحيل رمز من رموز الرياضة العراقية، والتفاخر بمجدٍ صنعه عراقي، يمنحاننا دلالاتٍ حيةً وموثوقة بأنّ العراقيين لا يمكنهم أبداً أن يتخلّوا عن وطنهم أولاً، ولا عن رموزهم ثانياً.. وهم، بعملهم الموحد هذا، يريدون إيصال رسالةٍ إلى هذا العالم بأنهم ما زالوا أحياء يُرزقون، لهم حيويتهم وفعالياتهم. والأهم طموحهم بالاتحاد والمناجزة، فلا يمكنهم أن ينجحوا في أي مشروعٍ وطني، إن لم يكونوا موحدين، ولا يمكنهم أن ينتصروا في أية ثورةٍ أو انتفاضةٍ ضدّ الفاسدين والجائرين والغلاة والطفيليين، إن لم يكونوا موحّدين، ولا يمكنهم التقدّم خطوة في طريق الإصلاح أو التغيير أو البناء، إنْ لم يكونوا موحدين أصلاً.
انظروا، إنهم لن يصفّقوا أبدا للمجانين ولا للأغبياء ولا للمستبدّين ولا للراقصين على الحبال بعد اليوم. إنهم يصفقون لرموزهم الوطنية، أو للمنتفضين الثائرين الذين سقطوا شهداء على الأرض بلا خوف. قال لي صاحبي: “نحن بحاجة لتطهير ذاتي وتبتّل شخصي. لذا لا بد أن تكون خطوتنا الأولى الاعتذار كثيراً من أمجادنا وتواريخنا، كما اعتذرت الأمم عن أخطائها. ولكن هل يحتاج هذا عشرات السنين، لأننا نتصوّر أنفسنا كلنا، بما فينا الزعماء والحقراء، كلهم آلهة وبررة ومعصومين ومقدّسين، لا يعرفون الخطأ؟ أجبته: لا يستغرق الأمر طويلا. دعونا نفكّر طويلا، ونتأمل أن بعضهم أصابه اليأس والقنوط. وأقول: لا، فالمعرفة لا تُبنى على وضاعة وانحراف! والوحدة بحاجةٍ ماسّةٍ إلى جملة من الأخلاقيات، بحيث لا يمكن الصفح عن قتلة ومجرمين وسرّاق ومشعوذين وفاسدين. والتاريخ لا يسامحنا أبداً إن لم نقدّم جملة من الاعتذارات إليه، وإننا لن نستطيع البناء وحدنا، فينبغي المقايسة بالأمم الأخرى التي اعتذرت عن أخطائها وبدأت بالتقدّم.
وأخيرا، راحة النفوس في الوحدة الوطنية، فالأمر ليس هيناً في أن نطمح إلى بناء مستقبل، كي يكون لنا، نحن العراقيين، وجود رائع. ولكن ليس بترسبّات ومخلّفات وبقايا شنيعة لازمنة خلت ، مع إبقاء الرموز والمبدعين والمثقفين الحقيقيين يحتضرون، وهم غرباء يتمزّقون ويموتون في عزلتهم عن أوطانهم. لقد بدأ الجيل الجديد يحمل وعياً جديداً، فليس الكلّ زعماء، وليس الكلّ رهباناً، وليس الكل أبراراً، وليس الكلّ أفذاذاً، وليس الكلّ ملائكة. إذ كُشفت حقائق كانت غائبة أو مغيبة. يملأ الفاسدون الأرض جوراً، وطبقة سياسية عراقية تعبث بمقدّرات البلاد، وهناك من يصمت على أفعالها، ولا يدينها، فلا طريق أمام العراقيين إلا الوحدة، مهما بلغت التنوعات، وليكن هناك انتماء وطني واحد، مهما كثرت الانتماءات. وعليه ، فان المجتمع العراقي متى كان متماسكاً وموحداً ، زادت حيويته ، وانطلقت قوته التي يمكنها ان تحدّد مصيره وتحقّق المستحيل ، وسينتصر كلّ العراقيين الحقيقيين على شراذم الدخلاء والطفيليين عمّا قريب.
نشرت في صحيفة. العربي. الجديد. لندن. يوم الخميس 25 حزيران / يونيو 2020 ، ويعاد نشرها على الموقع الرسمي للدكتور سيّار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp/
اللوحة المرفقة بريشة الفنان الاستاذ فيصل لعيبي مع التقدير .