حقيبة ذكريات
الحلقة 3 : عرفتهم …. كم خدموا العراق
سيّار الجميل
لقد عشنا نحن ابناء العراق ، جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية على جملة من القيم الوطنية التي كان ارساها الآباء والاجداد بعروق ابنائهم واحفادهم في بلد غدت مؤسساته قوية برجالها ونسوتها ، وكانت العناية كبيرة جدا بهم وبمن يديم تلك المؤسسات قبل ان تفتك بها ايادي الجهلاء والسفهاء ويعبث بها الاغبياء والطغاة، ولعل قوة العراق في القرن العشرين ليس بسبب ثرواته المادية والنفطية والاقتصادية، بل بسبب قوة رجاله ونسوته، ومدى اخلاصهم للمؤسسات التي عملوا فيها مهما كانت طبيعة تلك النظم السياسية التي تواترت في حكم العراق ..
لقد عشت حياتي وانا أتعّرف واقرأ والتقي واصادق بعض الذوات والشخصيات من العراقيين الذين خدموا بلدهم بصمت، وكان بعضهم أعمدة فقرية للمؤسسات التي عملوا فيها ، وسواء عرفتهم عن قرب او سمعت عنهم من بعد، فانني اعتقد ان التاريخ ينبغي ان يذكرهم وينصفهم مهما كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية والعرقية، او اتجاهاتهم السياسية وتياراتهم الفكرية التي كان كل واحد منهم قد انخرط في احداها بالرغم من استقلالية بعضهم ، فالمهم كم كان هذا او ذاك منهم عنصرا فعالا في خدمة البلاد، والأهم:ما الذي يمكن استفادته اليوم من تجاربهم الخصبة ؟
ساذكر البعض من تلك الاسماء والشخصيات التي عرفتها عن قرب أو عن بعد، واغلبهم قد رحل عنا رحمهم الله ومتّع الاخرين بالصحة ، وهذا البعض يحمل تاريخا مشرفا لا يمكن لأحد نكرانه أبدا ، فكيف لا نذكر عبد الجبار شنشل الذي يعدّ الخبير الاول في القضايا الدفاعية والعسكرية على مدى زمني طويل ، وكيف لا نذكر المهندس الاستاذ إحسان شيرزاد خبير التخطيط والبلديات الاول في العراق ، وأيضا د. فاضل الجلبي ( خبير النفط ووكيل وزارة ) الذي التقيته في لندن عدة مرات وكنا نتحدث ونحن نمشي معا في الصباح الباكر في الهايد بارك ، وأيضا الاستاذ حنا رزوقي ( خبير المالية العراقية المخضرم ) الذي قال لي في تورنتو ” لقد خدمت 50 سنة وكنت اعرف كل شيئ في المالية العراقية ووزير يأتي وآخر يذهب وليس له الا التوقيع ” ، وسمعت خيراً عميماً من اصدقاء المهندس الاستاذ نجم قوجه قصاب وابنه وكان وكيل وزارة الصناعة لشؤون المؤسسات والذي كان طه الجزراوي لا يوّقع قرارا الا بعد استشارته ، وهناك الاستاذ د. حسن فهمي جمعة خبير الزراعة الشهير والذي عرفته انسانا رائعا في عمله وعلاقاته، اما الاستاذ د. عبد المنعم السيد علي فقد زاملته 4 سنوات ، فكان نعم الانسان والصديق جريئا ، واسع الافق يدقق في الامور وقوي الرأي ، وكان يشاركنا د. سعدون ناجي القشطيني رجل القانون دمث الاخلاق الذي يحمل ارث والده في القانون ، وحضرت محاضرة الاستاذ د. جعفر ضياء جعفر خبير الطاقة والفيزياء النووية مؤسس البرنامج النووي العراقي ، وايضا عرفت د. حسن النجفي خبير مصرفي دولي ومحافظ البنك المركزي وكان ضليعا في مهنته ووفيا في أدائه (ولا يعرف سر مقتله حتى اليوم ! ) ، وهناك الاستاذ د. رمزي سلمان الخبير الاقتصادي الاول في شؤون النفط الذي التقيت به في قطر قبل سنوات ، فبدا لي شعلة من الذكاء .. ولا يمكن نسيان فضل الاستاذ قاسم احمد تقي العريبي خبير شؤون النفط والوزير لاحقا وكان يعمل ليل نهار ناهيكم عن د. عصام الجلبي المستشار والخبير والوزير في شؤون النفط وكنت قد التقيت به في الدوحة قبل سنوات .. ناهيكم عما سمعته من مرويات تشيد بالوزير السيد محمد مهدي صالح مستشار الشؤون الاقتصادية ووزير تجارة أسبق ، وقد نجح في مشروع البطاقة التموينية لشعب العراق على امتداد سنوات الحصار الاليمة .
ومن الخبراء المتميزين : عامر السعدي، كبير المفاوضين العراقيين حول نزع أسلحة الدمار الشامل. ومن الشخصيات التي نالت اعجاب البريطانيين عدد من المختصين العراقيين الذين عملوا من اجل وطنهم .. وفي الصحة العسكرية تفانى العديد من الاطباء العسكريين الكبار في خدمة مؤسستهم ، وكان في مقدمتهم اللواء د. غازي جميل واللواء د. سالم خطاب العمر وكانا مثالا للنزاهة والتفاني .. وفي الاعلام ، كان الاستاذ الشاعر شاذل طاقة مخلصا للكلمة ووفيا للمؤسسة قبل انتقاله الى الدبلوماسية ، وقد دفع حياته ايضا ثمنا لنزاهته ومبادئه .. وفي المجمع العلمي العراقي عرفت نخبة من العلماء الكبار الذين وقف على رأسهم الاستاذ المؤرخ د. صالح احمد العلي وكان يبرّني ويعتز بي كثيرا قبل ان يتبهدل المجمع من بعده بتحوّل عناصره من الانتخاب العلمي الى التنصيب الرئاسي ، فدخله اناس ليسوا بعلماء ابدا ! ولا انسى أيضا فضل الاستاذ د. عبد العزيز الدوري الذي آثر ان يحضر الاحتفال بمنحي جائزة شومان وقال بحقي كلمة لا انساها مدى حياتي ..
وان نسيت ، فلا انسى ابدا جرأة د. عبد الله سلوم السامرائي ( وثمة قصة خطيرة عنه ساحكيها لاحقا ) ، ولا ننسى مفارقات خارجة عن المألوف للمعمار رفعت الجادرجي ( التي حكيتها في مكان آخر ) ، فضلا عن عبقرية الصديق الفنان الطبيب د. علاء بشير الذي التقيت به عدة مرات ، فوجدته انسانا متواضعا وفنانا متنوع المواهب ، وله مخلوقاته العجيبة .. وعرفت عالمة الآثار د. لمياء الكيلاني في جملة لقاءات علمية وثرية في لندن .. ومن المذيعين العراقيين الكبار ، عرفت منذ صباي الاستاذ ناظم بطرس المحامي الذي كان صديقا لوالدي ، وكان قد وقف موقفا صلبا في قفص الاتهام بمحكمة المهداوي .. وعرفت كل من الصديقين الاستاذ د. احمد الحسو والاستاذ ابراهيم الزبيدي وتوثقت عرى صداقتي معهما اذ تتسع حقيبة ذكرياتي عنهما كثيرا ، كما عرفت عن قرب كل من السيدتين الفاضلتين شميم رسّام وأمل حسين فلكل منهما تاريخ من الخدمات . وعرفت الاستاذ مؤيد البدري معرفة عميقة ، وهو يتميز باخلاقه العالية وجلسته الممتعة . اما الفنان جواد الشكرجي ، فقد التقيت واياه في جلسة رائعة وهالني جدا ما يحفظه من الشعر على ظهر قلب .. وطريقته البارعة في الالقاء .
اما في الدبلوماسية والسياسة والعلاقات الدولية ، فقد وجدت قوتها في الاستاذ عبد الامير الانباري ابو الدبلوماسية العراقية المتأخرة ومن قبله السفير الصديق نجدة فتحي صفوت الذي كان خبيرا متمرسا في العلاقات الدولية وقد عرفته وخبرت اخلاقه في لندن ، وعرفت كل من الزميلين والصديقين د. كيلان محمود رامز والسفير د. محمود علي الداود ووجدت فيهما ثقافة عليا ومقدرة كبيرة في المحاججة وقوة المعرفة ومن بعدهم تعرّفت بالصديق د. رياض القيسي ( خبير قانون العلاقات الخارجية ) ، وكنت احضر مجلسه الاسبوعي وله مكتبة دبلوماسية ثرية وهو رجل قانون دولي من الطراز الاول ، وله رأيه السديد ، ودوما يخالف مجالسيه ان ابدوا عواطفهم السياسية اذ يمتلك رؤية عقلانية ناضجة . أما عصمت طه كتاني 1929 2001 خبير الدبلوماسية العراقية ، فقد شغل منصب رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة من العام 1981 حتى 1982. وكنت قد عرفته عن كثب اذ له مرونته في العمل، ومثابرته وتفاؤله على الدوام، ومن يعمل بمعيته يشعر بلذة العمل معه. وكان يتابع العالم كل صباح، انسان اجتماعي لطيف المعشر، له بساطته وتواضعه، وكان نزيها عصاميا في حياته، لا يعقد الامور قط وهو حلاّل للمشكلات بما اتصف به من صبر وثقافة واسعة ..
وهناك الدبلوماسي الشهير وسام الزهاوي وكيل وزارة الخارجية العراقية سابقا في فترة الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، وقد التقيت به مرة واحدة في بيت الصديق اياد منذر عباس بدبي بالامارات ، فكان دمثا ومستمعا جيدا قليل الكلام .. كما حظيت وزارة الخارجية العراقية بشخصيتين متمرستين قويتين في اداء المهنة : عبد الملك الياسين و الاستاذ عبد الحسين الجمالي ، وكان كل منهما يعمل وكيل وزارة سابق . اما السفير والوزير نزار حمدون 1944 – 2003 ، فهو في الاصل مهندس معماري ، ولكنه نجح في الدبلوماسية العراقية وكسب اهتمام الغربيين بحنكته وقوة الحجة لديه في المفاوضات ..
وأخيرا اقول : ان اهم حكمة اكتسبتها في الرؤية الدولية ان العالم يستخف باي بلد ان كان رخوا ضعيفا ، ويهزأ به ويضحك عليه ان كان ثريا يعيش على ريعه النيام ، ويحترمه شديد الاحترام ان كان بلدا زاخرا بالنسوة والرجال العظام !
ملاحظة مهمة : للحديث بقية عن مبدعين عراقيين آخرين عرفتهم كم قدموا للعراق كثيرا ورحلوا او ما زالوا في معاناتهم يتألمون ..
تنشر يوم 8 حزيران / يونيو 2020 على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp/