Home / الرئيسية / رموز وأشباح الحلقة 37 : ليلة العيد بين دجلة والنيل في الزمن الجميل

رموز وأشباح الحلقة 37 : ليلة العيد بين دجلة والنيل في الزمن الجميل

رموز وأشباح
الحلقة 37 : ليلة العيد بين دجلة والنيل في الزمن الجميل
أ.د. سيّار الجميل

ليلة العيد لها مفارقاتها في تاريخنا المعاصر ايضا ، فهي قيمة اجتماعية سواء كانت يحياها اهلها من مكان الى آخر ، او من زمن الى آخر ، او كانت بين نهرين عظيمين مثل دجلة او النيل ، فهي رمز مخّلد تنتج بهجة يصنعها اناس سعداء في مكان او زمان معينين ، او تعيش في لحظة كآبة تصنعها اشباح بين اناس يملؤهم الحزن ويقتلهم الكمد في زمننا الحاضر .. وهكذا هي الحياة بكل افراحها واتراحها ، وبكل سعادتها ومآسيها وخصوصا في مجتمعاتنا التي اتمنى ان تكون متفائلة دوما كي تستمر الاجيال عبر كل الازمنة بكل تحدياتها الصعبة. ونقداتي في رموز وأشباح لا تخص أحدا بذاته ، بل تخصّ حالات مجتمع وسياسات ، ورصد أزمنة ، وخطابات وابداعات !
يعدّ الثلاثي المبدع ام كلثوم واحمد رامي ورياض السنباطي من رموز الزمن الجميل الذي راح وانقضى أجله منذ تاريخ طويل.. وفي تلك المرحلة من ذروة الاستنارة والانتاج المعرفي والادبي العربي احتلت مصر والعراق دورهما الى جانب بقية البلاد العربية المتمدّنة قبل غزو التخلف والبدونة بتأثير تدفق النفط لينتقل زمننا من جمالياته النسبية الى البترودولار وانتهاء بمآسي اقتصادات ريعية انتهت الى الافلاس في كل المجالات .. قرأت قصة حياة الانس في زمن الرومانسية الجميل حيث المدن النظيفة والقوانين السارية والحياة الطبيعية وروعة الفنون وقوة الكلمة وجماليات الفن وعظمة الطرب .. وكانت قد ولدت اغنية ” يا ليلة العيد ” لتعبّر عن كل تلك الجماليات وابداعات الزمن .. ام كلثوم ، كان عبد الاله الوصي على عرش العراق اول من كرّمها من الحكام العرب ، ثم توالت تكريمات لها من فاروق وعبد الناصر وبورقيبة والملك الحسن الثاني وعبد السلام عارف والشيح عبد الله السالم الصباح والملك الحسين بن طلال والشيخ زايد بن نهيان وغيرهم .
يا ليلة العيد آنستينا من فيلم دنانير كلمات: احمد رامى وألحان: رياض السنباطى وغناء : ام كلثوم .. وكانت من انتاج: 1939 اي في السنة التي اندلعت فيها الحرب العالمية الثانية ، وبها ثمّن الملك فاروق الاول صوت المطربة ام كلثوم، بحضورة الحفل بنفسه وسمعها تمدحه في ليلة العيد بوسام الكمال ليصبح لقبها منذ ذلك الوقت بـ “صاحبة العصمة” بعدما غنت له هذه الاغنيه فى حفلة النادى الاهلى فى 17 سبتمبر / ايلول 1944. وكلمات الأغنية بسيطة جدا ، ولكن كلها تذكر العيد بكل أمل وخير وسعد وتمنيات ومحبة وشدو طيور ونسائم تسري وتشبيه الماء في مصر بالسكر وفي العراق بالعنبر ، .. نعود الى ليلة العيد
يا ليلة العيد آنستينا … وجدّدت الأمل فينا
هلالك هل لعنينا … فرحنا له وغنينا
وقلنا السعد حيجينا … على قدومك يا ليلة العيد
جمعت الأنس ع الخلان … ودار الكاس على الندمان
وغنى الطير على الأغصان … يحيي الفجر ليلة العيد
حبيبي مركبه تجري … وروحي فى النسيم تسري
قولوا له يا جميل بدري … حرام النوم فى ليلة العيد
يا نور العين يا غالي … يا شاغل مهجتي وبالي
تعالى اعطف على حالي … وهني القلب بليلة العيد
يا نيلنا ميتك سكر … وزرعك فى الغيطان نور
تعيش يا نيل ونتهنى … ونحيي لك ليالي العيد
والمقطع الاخير فى اول ماغنت هذه الاغنية فى فيلم ” دنانير ” عام 1939 مدحت فيه الخليفة العظيم هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي ببغداد (اسمع الفيلم وشاهده ) غنته كالآتي :
“يا دجلة ميتك عنبر … وزرعك فى الغيطان نور”’
“يعيش هارون يعيش جعفر … ونحيي لكم ليالي العيد”’
و فيما بعد ، و فى الحفل الذي حضره الملك فاروق فى عيد جلوسه على العرش ، غنت :
يا نيلنا ميّتك سكر … وزرعك فى الغيطان نور
يعيش فاروق ويتهنى … ونحيي لُه ليالي العيد
وبعدها غنت أم كلثوم فى ذلك الحفل الشهير الكوبليه الاخير من اغنية : حبيبى يسعد اوقاته ، قائلة :
حبيبي زي القمر قبل ظهوره يحسبوا المواعيد
حبيبي زي القمر يبعث نوره من بعيد لبعيد
والليلة عيد ع الدنيا سعيد
عز وتمجيد لك يا مليكي


طبعا الفنانة ام كلثوم كانت تنطق باسمها تزلفا وتقرّبا لا باسم الحقيقة ، فمثلما مدحت هنا مليكها فاروق، فقد مدحت لاحقا خصمه عبد الناصر تجمّلا ومديحاً، والفرق كبير بين الزعيمين، وقد اكرمها اغلب الزعماء العرب وقلدها الامير عبد الاله في زيارتها الثانية للعراق بوسام الرافدين باصداره قانون خاص كي يقلّد لامرأة ، وكانت ترتبط مع احدى اخواته الاميرات بصداقة متينة جدا ، ولكن اثر قتلهم صبيحة 14 تموز / يوليو 1958 لم تعزيهم بكلمة واحدة، ورضخت بسرعة لمشيئة عبد الناصر، وغنت تزّف تهاني مصر للعراقيين بقصيدة ” بغداد يا قلعة الاسود ” من شعر محمود حسن اسماعيل والحان الموسيقار رياض السنباطي .. نعم تغنّت أم كلثوم ببغداد عقب الثوره على الملكيه عام 1958 باكثر من حدث، ويقال ان ذلك قد حدث بتأثير وضغط من الرئيس جمال عبد الناصر .. وهو من الضباط الاحرار الذين قلبوا نظام الحكم ليصبح جمهوريا ، وكادوا يطيحوا بعرش ام كلثوم كذلك ، ولكن عبد الناصر وقف مناصرا لها وحماها منهم ، فاصبحت تمجّد عبد الناصر . وحالها ليس بافضل من الشاعر الرائع الذي اعشق شعره منذ صباي ، محمود حسن اسماعيل ، فقد كان يسبح بحمد الملك فاروق طوال حكمه ( انظر المجلد الاول من اعماله الشعرية الكاملة ) ، ولما انقلب الوضع ، راح يمدح عبد الناصر ، قائلا :
من ساق هذا النور للمحاجر سل جبهتي واسمع ضياء ناصر
( انظر المجلد 2 ، ص 462)
وقبل الاطاحة بعهد فيصل الثاني ، كتب قصيدة عصماء اسمها دجلة والنيل ، قال فيها :
وهذا يناجيه قلب الشباب وهنا الطيور له تهدل
ولكن ربيعك غض الاهاب حييت الى النيل يا فيصل
( انظر المجلد 1 ، ص 430) .


ولم يجف دم فيصل الثاني صبيحة 14 تموز 1958 حتى كتب محمود حسن اسماعيل القصيدة التي غنتها مباشرة ام كلثوم ، قائلة وهي تصف الثوار بـ ” الاسود ” :
بغداد يا قلعة الأسودِ يا كعبة المجدِ و الخلودِ
يا جبهة الشمس للوجود سمعت في فجرك الوليد
توهج النار في القيود ويبرق النصر من جديد
يعود في ساحة الرشيد بغداد يا قلعة الأسود
زأرت في حالك الظلام وقمتِ مشدودة الزمامِ
للنور للبعث للأمامِ لبأسك الظافر العتيدِ…
ومجدك الخالد التليدِ عصفت بالنار والحديدِ…
وعدت للنور من جديد
أم كلثوم لم تتنازل ابدا عن وسام الكمال المصري ولا عن وسام الرافدين العراقي من النظامين الملكيين القديمين في مصر والعراق ، بل بقيت محتفظة بهما دون ان تذكرهما ابدا ، ولكن الاقسى انها لم تتذكر اصدقائها من الاسر الحاكمة ابدا بالرغم من عشقهم لها ، بقيت تمجّد هذا وتمدح ذاك حالها حال اغلب الفنانين، فمثلا الفنانة فيروز غنت اغنيات سياسية رائعة، وكانت ولم تزل تقول بأن لا علاقة لها بالسياسة !! المشكلة انهم يوثقون عرى صداقاتهم بالحكام والزعماء وعوائلهم ويمدحونهم ، وما ان يطاح بهم ينسونهم ولا يتذكرونهم بكلمة واحدة . وهذا لم أجده في اية ثقافة أخرى الا في الثقافة العربية ، وهو اسلوب متوارث منذ القدم ان تمدح وتداهن الاصنام وتطلق المفاخر عنها ، وفجأة وبعد سقوطها تبدأ بشتمها وهجوها ، وان رحلت وهي في السلطة ترثيها وتبكيها ، وان سقطت ، فتبدأ بصب اللعنات عليها !


ان ام كلثوم بقيت تريد الحفاظ على مكانتها الفنية العليا فوق الجميع ، وقد ساءت علاقتها بالرئيس انور السادات كونه جعل زوجته جيهان السادات السيدة الاولى في مصر نكاية بأم كلثوم ! ان الفنانين حالهم حال الشعراء يتقلبون مع الازمنة ، وقلة من الفنانين من بقي محافظا على مبادئه ووفائه، اذ بقي بعضهم على اخلاصه لمن كرمه واعتز به وبقي يذكر حسناته ، بل بعضهم آثر الاعتزال كيلا يكون اداة بيد هذا وذاك ، ومن امثال الذين اخلصوا لفنهم ومبادئهم، قلة منهم : فتحية احمد ومحمد القصبجي والشيخ زكريا احمد واسمهان وفريد الاطرش وعبد الغني السيد وعبد اللطيف التلباني وغيرهم ، واغلبنا يعرف مأساة الفنان محمد فوزي الذي مات موتا صامتا بطيئا . ومن العراق : عفيفة اسكندر وفؤاد سالم وكوكب حمزة وجاسم الخياط وغيرهم واغلبنا يعرف مأساة الفنان صباح السهل واعدامه .

نشرت في ليلة عيد الفطر المبارك بتاريخ 23 مايو / ايار 2020 . على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp/

الصور المرفقة :
صورة الملك فاروق وهو يسمع يا ليلة العيد من ام كلثوم ومديحها له ..
صورة 2 : الامير عبد الاله ونوري السعيد وحاشيتهما برفقة ام كلثوم ببغداد وتقليدها وسام الرافدين
صورة 3 : ام كلثوم  تتوشح بوسام الرافدين  في العراق
صورة 4 : ام كلثوم الى جانب الرئيس جمال عبد الناصر .

Check Also

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …