Home / الرئيسية / رموز وأشباح الحلقة 36 : حكاية قصر الملك فيصل الثاني في سرسنك

رموز وأشباح الحلقة 36 : حكاية قصر الملك فيصل الثاني في سرسنك

رموز وأشباح
الحلقة 36 : حكاية قصر الملك فيصل الثاني في سرسنك
أ.د. سيّار الجميل

مقدمة
سرسنك من الاماكن الساحرة التي كان لها تأثير في حياتي منذ طفولتي ، ولم ازل بعد مرور عقود من الزمن ، اذكر جمالياتها ، واخضرار جبالها ، وصفاء مياهها ، وعذوبة هوائها ، وروعة سكانها .. لقد كان لبلدة سرسنك الكردية تأثيرها السحري على مخيلتي منذ ان كنت في السابعة من العمر ، خصوصا وانني كنت قد دخلت القصر الملكي فيه ، قصر المغفور له الملك فيصل الثاني الذي عاش 23 سنة فقط ، أي بين 1935- 1958 ، وحكم العراق 5 سنوات 1953- 1958 وقد قتل غدرا عند بوابة قصر الرحاب في بغداد على ايدي ضباط جيشه وجنوده مع كل افراد عائلته العراقية المالكة صباح يوم 14 تموز / يوليو 1958 .. وبقدر ما احببت سرسنك وسحرها، احببت فيصل الثاني ووداعته وسجاياه الكريمة، اذ كان شابا طيبا ودودا ومثقفا وانسانا بسيطا رائعا، احب وطنه وشعبه وحلم بـ ” أن يجعل من العراق جنائن معلقة في القرن العشرين ” – كما حدثتني مربيته التي التقيتها في اسكتلندا بعد عشرين سنة من مصرعه رحمه الله ونشرت ما حدثتني به عنه منذ قرابة 20 سنة – . وكان قد اختار بنفسه ان يبني له بيتا في سرسنك التي عشقها عشقا كبيرا ، واحب كردستان واهلها حبا جما .. وكان يخرج فجرا من قصره البسيط ليمشي لوحده عند سفح الجبل، وقد شوهد ايضا يجلس في احد المقاهي الشعبية وحوله الناس ( برواية سيدة مسيحية من سرسنك كان اسمها أم رمزي ) .. او تجده يجلس في حديقة قصره يقرأ في كتاب ويتأمل في عالم جميل ما الذي يمكن تقديمه لشعب عريق .. ولقد آليت على نفسي ان اكتب ما اعرفه عن قصره البسيط ذاك ، والذي كنت قد دخلت فيه وانا صبي يافع .. وان اقدّم لوحة تاريخية عنه داعيا للحفاظ عليه، وجعله متحفا في المستقبل .. حفاظا على ذكر صاحبه الملك الوديع رحمه الله ، ولكي نبقي صفحته حية تتعلم منها الاجيال .

مصيف سرسنك وميزاته الجمالية
كانت ” ناحية ” سرسنك ضمن القانون الاداري ، قد استحدثت بإرادة ملكية ، وتحولت من مجرد قرية جبلية عرفت بالاسم نفسه الى مركز ناحية عام 1952، ارتبطت بها اداريا مجموعة كبيرة من القرى المتناثرة فوق ارضها الواسعة بلغ عدد قراها 35 قرية ، وتبلغ مساحتها الاجمالية (918)كم، يتم زراعة 30% منها والبقية عبارة عن اراض غنية بأحراش رعوية ومناطق وعرة صخرية، ويتوزع اليوم فوق هده المساحة 19الفا و 28 نسمة هم مجموع سكان الناحية .. اما سكان مركز الناحية نفسه ، اي بلدة سرسنك نفسها، فيبلغ عددهم 10 الآف و85 نسمة ( كما جاء في تقرير خاص نقل عن لسان مدير ناحية سرسنك اليوم )، والذي صرّح بأن هذا الحجم من المواطنين يتوزعون على 6 احياء سكنية اليوم وهم من الكرد والآثوريين والسريان الارثودكس ، وهي المسماة بـ (11 آذار / سه رهلدان / آشور / كولان / نوروز / آزادي) ..
سرسنك ناحية تابعة لقضاء دهوك التابع لمتصرفية لواء الموصل .. وتمر السيارة من الموصل باتجاه ناحية فايدة ، ومن ثم وادي آلوكه وبساتينها من اشجار التفاح التي يغذيها نهر صغير اسمه الروبال يمتد من خلال جبال دهوك .. ومن ثم ينفصل طريق زاخو نحو الشمال عن طريق دهوك نحو الشرق ، اذ نصل دهوك ، ومن هناك يأخذنا الطريق الجبلي المتعّرج الرائع بين الجبال الشاهقة الى سرسنك عبر قرية صندور وقصبة زاويته ومصيف سواره توكه وصولا الى سرسنك ومنها الى سولاف وانتهاء بالعمادية .. وقبل الوصول الى سرسنك كما اتذكر ينفصل طريق خاص نحو بامرني التي اشتهرت بمطارها الوحيد في كردستان الماضي ، فضلا عن كونها موطن الاسرة النقشبندية الكردية العريقة .. وكانت سرسنك تربط الطريق الرابط بين العمادية والموصل على مدار ساعات النهار وجزء كبير من ساعات الليل، ذلك ان حركة المرور لا تهدأ ولا تتوقف على مدار ايام السنة .. واعتقد ان تلك الجبال تمتلك جماليات طبيعة خلابة . وتقع منطقة سرسنك بين جبلين مهمين هما جبل كارة وجبل متين، مما جعلها حالة متفردة في الجمال ونقطة مواصلات تجتمع فيها حركة كل المصايف الاخرى في المنطقة، وخصوصا ، عندما ازدهرت بشكل كبير بعد شق الطريق العام الذي يمر من وسطها والذي يربط مدينة دهوك بمدينة العمادية وبقية المصايف الاخرى، وكذلك تشييد الفندق الحجري والقصر الملكي ، وكانا من اهم المنشآت التي شجعت المنطقة واهلتها لتكون واحدةً من ابرز مصائف منطقة بهدينان الكردستانية قاطبة. ولقد اكتسبت سرسنك سمعة تاريخية عندما تأسس فيها هذا القصر الملكي ، خصوصا عندما شهدت محادثات سياسية مهمة جدا في واحدة من صالاته .- كما سنقرأ ذلك في الحلقة القادمة – .
لقد عدّ مصيف سرسنك مصيفا عراقيا جاذبا منذ بدايات الخمسينيات، وبداية عهد فيصل الثاني ، واقيمت على ربواته العديد من المعسكرات الكشفية منذ أواخر الأربعينيات .. وبالرغم من بناء الفندق الحجري في الاعوام 1946 – 1948، حيث جرى افتتاحه الرسمي ،وكان سعر الاقامة فيه مع وجبة فطور غنية ووجبتي غداء وعشاء لا يزيد عن دينار وربع الدينار ، وهو مبلغ ليس بقليل وقت ذاك، وعليه، كان نزلاؤه من طبقة عليا في المجتمع ومن الاثرياء والاعيان بمستواهم المادي العالي ، ويقال ان الفندق كان يحتوي على مطعم من الدرجة الاولى وبار وقاعة بليارد وقاعة سينما ومسبح كبير لنزلائه الذين كانوا يمارسون السباحة المختلطة نساء ورجالا في مياهه عهدذاك ..
ومن حيث تأثير السياحة على بلدة سرسنك بصفتها مركزا للناحية ، فان السياحة قد اثرت من دون ادنى شك على البلدة ومحيطها الجميل المتألف من احزمة قرى ومنتجعات باتجاه انشكي او سولاف او بامرني او غيرها .. وذلك منذ منتصف القرن الماضي.

ذكريات طفولة : حكاية قصر ملكي
كتبت قبل سنوات في وصف هذا القصر في كتابي ( حقيبة ذكريات ) وصفا مما علق في ذاكرتي عن منطقة سرسنك والقصر الملكي الذي تحتضنه ، انقله لكم :
انه قصر بسيط ، كنت قد دخلته وانا صبي ابن ثماني سنوات ، وكنت برفقة والدي – رحمه الله – والطاقم القضائي الذي كان بمعيته واتذكر الباشكاتب عبد القادر، وحماية تتكون من 4 من الشرطة ومن ضمنهم المراسل الكردي علي ، اذ كان والدي وقت ذاك حاكما للأقضية الثلاثة دهوك والعمادية وزاخو في آن واحد خلال العامين 1960- 1961 باوامر صدرت عن رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم، نظرا لحراجة الاوضاع السياسية .. وجدت سرسنك، بلدة جميلة في كردستان يقطنها كل من الاكراد والاثوريين وبعض السريان العراقيين معاً، والبلدة تحتضنها الجبال الخضراء، وتطل علي وديان تكسوها أشجار البلوط والسرو والاسبندار، وكانت وقت ذاك تعد من أروع مصايف العالم, بغزارة مياهها العذبة ، وطيب مناخها ، وجمالها الساحر, القصر بسيط من طابقين ، لونه أبيض وتكسوه أسطح القرميد البني المائلة الى الاحمرار ، وآثاثه بسيط . وتدور حدائق جميلة من حوله، وكان الملك فيصل الثاني – رحمه الله – يفضّل الجلوس في الحديقة الخلفية عصرا ، وهي المطلة على جماليات الطبيعة اللامتناهية ، وهو يحتسي كأس شاي العصر ، وكان يتأمل طويلا في تلك المناظر الخلابة، او يقوم برسم بعضها في لوحات زيتية ، او يقرأ في كتاب جديد .. وعند مغيب الشمس يأخذ نزهته مشيا على الاقدام قرب القصر، ويأخذ وجبة عشاء خفيفة مع تفاحة واحدة، ويأوي الى فراشه عند الثامنة مساء ( والرواية منقولة عن شيف الاوتيل الحجري وهو من الاثوريين ويكلف باعداد طعام فيصل بثلاث وجبات وباجور يدفعها فيصل من جيبه له ) .. ولم ازل اتذكر انه في حديقة القصر وعلى الطرف الايسر عند وسط القصر حوض سباحة يتميز بمياهه الزرقاء الصافية بفعل انعكاس المرمر الايطالي، ويطل من طرفه الشرقي والشمالي على وديان سرسنك الجميلة..
بالرغم من طابعه البسيط ، فهو على طراز الابنية الاوربية ، فالقصر جاذب لمن يراه ويتمتع بمزايا مفرحه في دواخله ، كانت شبابيكه واسعة ، وقد روعي في هندسته وبنائه ان يكون مطلا على بلدة سرسنك الجميلة وهو يواجه الشرق وشروق الشمس ، وقد اختير موقعه بعناية بالغة ، بحيث يقع جبل كارة الاخضر من ورائه ، فيحجب حرارة الشمس الثقيلة عنه ، بل وروعي ان يكون في ممر الهواء العليل المنعش طوال اليوم . لقد بني على ربوة عالية من سفح جبل كارة ..

اختيار موقع القصر على ربوة سرسنك
قام الملك فيصل الثاني باختيار سرسنك كبلدة ساحرة لبناء قصره الملكي على ربوتها قرب جبل كاوه ، والمطل على ربوعها في ذلك الوقت، وقد اصبح منتجعا حقيقيا للملك نفسه ، وغدت سرسنك أهم ناحية من نواحي العراق بوجود المنتجع الملكي فيها ، كما ان بناء القصر الملكي بالحجر والاجر والقرميد قد اضفى عليها هيبة ومكانة في المجتمع الكردي، وكان الفندق الحجري من قبله قد شجع اهالي المنطقة للعمل في قطاع السياحة، واصبحت الاعمال رائجة والسوق متوفرة في سرسنك وبدأ يقصدها الناس تيمنا بملك بلادهم الذين احبوه حبا جما ، ولقد تحوّلت سرسنك بوجود المرافق السياحية من قرية فقيرة بعيدة لا يعرفها احد الى ناحية ومنتجع جميل للاصطياف، وهي تقع في اجمل بقعة عراقية على الطريق العام الذي يربط سهوب الموصل بجبال كردستان باتجاه العمادية، الى جانب ما تتميز به من موقع جغرافي ، ووفرة المياه ، وكثرة الاشجار والمناظر الخلابة الساحرة.
ان مجرد اختيار ملك البلاد هذا المكان مصيفا له ، فان لذلك معاني سامية في نفوس ابناء تلك الجبال ، وقد اضفت سحرا أخاذا على ما يوصف به كل من الجبلين وواديهما من سحر لا تمله النفس وجمال لا يشبع منه النظر. وكانت واحدة من امنياتي مذ كنت طفلا ، ان اقضي جلّ حياتي في تلك البيئة الرائعة وبين اهلها الطيبين .. ولم تزل تلك ” الامنية ” تلاحقني حتى هذا اليوم ، كون سرسنك وما يحيطها من امكنة طبيعية ، مغذية للروح ، منعشة للجسم ، مريحة للنفس والاعصاب .. تبعث على التأمل والتفكير .
القصر البسيط
انشأ القصر الملكي في سرسنك عند منتصف خمسينيات القرن المنصرم من خلال مهندس قدير وبنائين من الموصل لهم قدراتهم الفنية في بناء الحجر المنحوت .. وارتفع البناء على ربوة عالية من سفح جبل كارة ، كي يكون رمزا جديدا لكل المنطقة ، وكان الناس فرحين مستبشرين ان تكون بلدتهم مقرا صيفيا للإقامة الصيفية للملك فيصل الثاني ، وزادهم المكان اعجابا عندما وجدوا في ملكهم الشاب حاكما بسيطا يحبهم حبا جما ، ووجدوه بينهم انسانا كان يعشق التأمل في ذلك الجبل عند تلك الرقعة من المكان الجميل ، ويحب ان يمضي نحو بلدتهم سرسنك بالسيارة لا بالطائرة ، كي يتمتع بمناظر الطبيعة والمياه والاشجار طوال اشهر الربيع والصيف من كل عام،

بناء القصر وملكيته
بدأ بناء القصر عام 1953 من قبل الاسرة المالكة ومالها لا بأموال الحكومة ، قال احد الذين شاركوا في تشييده : ” كان ذلك بين عامي 1953 و1955، اي بعد تتويج الملك عام 1953، و جلوسه على عرش العراق، استغرق بناء القصر اكثر من عامين ” . ويضيف قائلا : ” كنت في ذلك الوقت شابا قويا لا يزيد عمري على 20 عاما، جلبوا ثلاثة بنائين من مدينة الموصل، احدهم كان متخصصا بنقر الحجارة { نقّار} ويكنى بأبي داؤود، وهو معمار من طراز خاص، فنان وصبور، كان طويل القامة، نحيفا سريع الحركة، اختارني من بين عدد كبير من “العمال” كي اكون مساعدا له في مهنة النقارة، وبالفعل عملت إلى جانبه مدة ليست بالقصيرة، ومنه تعلمت فن النقارة، لم يكن في ذلك الزمن نقار واحد في مدينة دهوك ولا العمادية.. وقد عملت في هذه المهنة بعد ان اتقنتها اكثر من 40 سنة متنقلا في اماكن مختلفة جزء منها في مدينة الموصل والجزء الآخر في دهوك وعقرة واربيل وزاخو، وفي اماكن متفرقة غيرها، كنا نقوم بتفتيت الحجارة من سفح جبل كارة بواسطة البارود، ثم يتم نقلها الى موقع القصر بواسطة البغال التي يتم جلبها من قبل عمال في المنطقة ، كان البناؤون ينامون داخل خيمة خصصها الجيش لهم خلال فصل الصيف ، اما في الشتاء فكان منامهم داخل غرف القصر، كان يزورنا بين الحين والآخر المهندس المشرف على بناء القصر وهو اجنبي، يقال انه المهندس نفسه الذي اعد تصاميم الفندق الحجري الحالي ، واشرف على تنفيذه خلال الاعوام 1946 و1948، هذا المهندس لا يقيم بشكل دائم في مبنى القصر، بل كانت لديه غرفة خاصة ينشر خرائطه الكثيرة فوق منضدة مرتفعة بداخلها ويؤشر عليها بالقلم الأحمر خطوطا واسهما يفهمها البناؤون، وكثيرا ما كان يستدعي البنائين الى غرفته يمكثون عنده اكثر من ساعة في كل مرة، ثم يعودون لاستئناف العمل..
كنت ارى المهندس الاجنبي مسرورا كلما يرتفع البناء خطوة جديدة، يصيح باعلى صوته وهو يبتسم ” كود ” Good ثم يأمر المحاسب الذي كان يرافقه بصرف اكرامية للبنائين ومساعديهم ” ( انتهى النص ) ( انظر : التقرير الذي اعده السيد صادق إسماعيل) .
وبعد ان اكتمل بناء القصر على نفقة الملك نفسه ، عدّ من ممتلكات تلك الاسرة – كما سجل ذلك في دائرة الطابو – ، وبعد عامين من انشائه ، سكنه الملك فيصل الثاني ، وكان اثيرا عنده ، اذ كان يحرص على ان يقضي الصيف فيه , وبقي حتى عام 1958 مقراً صيفياً للعائلة الهاشمية الحاكمة . والقصر يحتوي 3 صالات وعدداً من غرف النوم ، وكل صالة وغرفة ملحق بها حمام خاص ، وتحيط بالقصر حدائق يعتني به بستاني آثوري من اهل سرسنك له عنايته بالأوراد والاشجار ، وثمة قطعة ارض مجاورة من توابع القصر ، وهي لم تتجاوز الاربعة دونمات ، كانت معتنى بها بحشائشها واورادها ، وكانت معدة لبناء دائرة رسمية للحكم وتلحق بها بعض المكاتب ، وهي اليوم ليست أكثر من أرض بور غير معتنى بها ابدا ، وفيها شجرة يابسة هي كل ما تبقى من الارض الجميلة التي كانت! وكان هناك على البعد يقابل القصر ، مقر ( بحجم المخفر ) لبعض من جنود الحرس الملكي.
يتبع
انتظروا الحلقة القادمة : الدور التاريخي لقصر سرسنك الملكي
ستنشر كل من الحلقتين 36 – 37 على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp/

Check Also

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …