Home / الرئيسية / رموز وأشباح الحلقة 35 : ثورة العشرين وثقافة الحذف رؤية نقدية جديدة

رموز وأشباح الحلقة 35 : ثورة العشرين وثقافة الحذف رؤية نقدية جديدة

رموز وأشباح
الحلقة 35 : ثورة العشرين وثقافة الحذف : رؤية نقدية جديدة
أ.د. سيّار الجميل

يثير كتاب الاخ الاستاذ عادل الياسري عن جده المغفور له الشيخ السيد نور الياسري وهو بعنوان : ” جهاد السيد نور السيد عزيز الياسري في ثورة العراق التحررية 1920 وصناعة الوطنية : دراسة في وثائق الاستخبارات البريطانية ، ط1 ( بيروت : الدار العربية للعلوم – ناشرون ، 2018 ) وفي 32 فصلا ( 860 صفحة ) ” ، جملة من الاسئلة الدامغة والتي يستلزم ان توجّه الى العراقيين عموما ، وفي مقدمتهم من يسمّون انفسهم بمؤرخين او مثقفين عراقيين وانتهاء بكل الشرائح التي ليس لها الا الشعارات وتجارة المعتقدات والايديولوجيات .. كتاب كنت قد قرأت عنه منذ صدوره عام 2018 ، ووصلتني بعض مصورات منه لاعتمادها في كتابتي بحث عن هستوغرافية ثورة العشرين لمناسبة مرور مائة سنة بالضبط على مجرياتها ، ولكن المفاجأة كانت بصدق عندما اهداني الاخ عادل الذي يقيم في اميركا ، نسخة من الكتاب مشكورا قبل 3 اشهر ، فاجزلت له الشكر والتقدير ، وفرحت اقرأ مضامينه بمتعة شديدة ، وشعرت ان العراقيين كانوا قد تربوا منذ اجيال على اخطاء وترديد شعارات مستهلكة ، وانهم بنوا في ذاكرتهم تماثيل عظيمة بدت اليوم وبعد مائة سنة مجردة من الحياة ، فهي من شمع تذوب عندما تسطع عليها شمس الحقائق الصارخة ، فكم اناس اتهموا وهم ابرياء ، وكم من (عظماء) مجدوا ، وهم في الحقيقة مجرد اقزام ، وكم صنعت الانظمة السياسية من مرتزقة ابطالا ، وقد كشف اليوم انهم كانوا يقبضون من الانكليز ليرات من الذهب ! وكم من المؤرخين رددوا اقاويل لا اساس لها من الصحة أبدا ، كونهم تخرجوا من دوائر التلفيق والشعارات ! وكم ساهم البعض في توزيع التهم جزافا لاسباب طائفية مقيتة ، ولا حقائق تثبت ما يقول ! وكم تشدّق الشارع بالوطنية وذبحت الحناجر من اجلها، وفي الحقيقة كم غدر بالوطنيين الحقيقيين ، وكم اتهموا بتهم رخيصة كالخيانة ، او سجنوا وعذبوا وقتلوا وسحلوا واتهموا اتهامات ظالمة او ابعدوا وهم في الحقيقة صناعا للوطنية العراقية .. وعليه ، فانني اتفق مع الاخ عادل الياسري عندما وجد في العراق بعد زيارته له عام 2004 انه ” وطن بلا وطنية ” !
لقد تضمن ” الكتاب ” وهو الاهم عن ثورة العشرين، توضيح حقائق تاريخية مهمة ، ويكتب ناقدا بصراحة متناهية كتب التاريخ التي تغيب عنها الدقة ابان حقب معينة ،بالاستناد إلى معطيات جديدة، وعند الكشف عن معلومات مستجدة تفصح عما يخالف السائد والمكتوب وحتى المترسخ في اذهان الناس، وبالتالي عما يضيء من زوايا معتمة، ويكشف عن حقائق تاريخية غيبت عن قصد أو غابت من دون قصد. ومما يؤسف له حقا أن صفحات كاملة من تاريخنا بحاجة إلى اعادة نظر وبحث من اجل تشكيل رؤية جديدة وتسليط أضواء جديدة تكشف الخفايا، وتنتصر للحقيقة ويضيف المؤلف الياسري قائلا “لن يغفر الشعب العراقي لكل من شوه التاريخ وللذين تطفلوا عليه أو سيسوه لأغراضهم الشخصية، ولن ترحم الأجيال الحرة والمؤرخون كل من أساء في كتابة التاريخ”(1) .
ويرينا عادل الياسري في كتابه المتضمن 32 فصلا (2) صورة موسعة عن قيمة نور الياسري عصر ذاك منتقدا بشدة تغييب الدقة والتوثيق عند المؤرخين ، مصححا حسب وجهة نظره معلوماتهم عن الثورة واسبابها وقادتها وبالذات دور نور الياسري في مواجهة البريطانيين . وكتب تحت عنوان “الثقافة الملائية وكتابة التاريخ” ، قائلا : “وربما الثقافة الملائية أو الروزخونية هي الطاغية على تفكير الآخرين، وأن إحدى خواصها لا ترغب في تخليد شخصية قومية عربية دينية مقدسة في تاريخ العراق، لأسباب كثيرة وربما السائدة في حركة الكتابة والتأليف دون أن يدركها المثقفون”. ويؤكد المؤلف على ما اسماه بـ “ثقافة الحذف” بحيث حذفت اسماء ومعلومات من اهم الوثائق عن ثورة العشرين ووضعت بدلها اسماء ومعلومات اخرى . وفي صراع نور الياسري مع المرجعية الدينية وهيمنة المدرسة الأصولية الشيعية بدعم من شاه ايران علي القاجاري (3) ، ويقدم المؤلف بعض التقارير البريطانية التفصيلية لأول مرة واصفا بعض الشخصيات مع أسماء بعضها ويصفهم بأن “قلوبهم كانت متيمة بالبريطانيين ومجبولة ضد العثمانيين”. ثم يستعرض تفصيلات الصراع بين الشخصيات العراقية وخلفياتها بسبب مقاربتها او مباعدتها او بسبب توافقها أو مقاومتها للسلطات البريطانية المحتلة (4) . ان المعلومات التي كشف عنها بصدد آل ياسر ومواقفهم ، وخصوصا دور السيد نور الياسري في صناعة الوطنية العراقية ،وتدوين مواقف وطنية لآخرين عراقيين . ويخبرنا عادل الياسري في مقال له بأن الغلو والمبالغات قد زاد بشأن دور الشيخ ضاري الزوبعي في ثورة العشرين، اذ لم يكن الرجل بطل الثورة لوحده ، بل ساهمت قيادات وشيوخ وعلماء دين ومثقفين في الحدث ، ان المبالغات كثيرة عند الجميع وفي معظم الكتب والمذكرات التي صدرت على العهود الجمهورية في العراق(5).
تهم خطيرة
ثمة تساؤل عن تأخر نشوب الثورة قرابة 5-6 سنوات ضد البريطانيين الذين بدأ احتلالهم للعراق عام 1914 وثار العراقيون في 1920 ؟ لقد كشف مؤخرا عن معلومات تاريخية خطيرة خصوصا و” ان المشايخ لم يعودوا مسنودين بالذهب البريطاني وبالحراب البريطانية “(6) . وفي العام 1921 ، كتب المسؤول السياسي البريطاني لمنطقة العمارة يقول : أخبرني المشايخ في اكثر من مناسبة ان المحافظة على القانون والنظام تتطلب منهم تخويف رجال عشائرهم بشدة ، مع تلطيف هذه المعاملة بمكافآت تعطى بين حين وآخر ” (7). ويكشف عادل الياسري ناقدا في دراسته التي اعتمد فيها علىى وثائق الاستخبارات البريطانية ، فضلا عن رسم ملامح مؤكدة عن مواقف قادة الثورة الوطنية . مدعّما معلوماته الدقيقة بالأدلة والوثائق ، وخصوصا عندما يثبت ما تورّط البعض به سواء كانوا عشائريين ام رجال دين ام سياسيين عملوا من اجل منافع شخصية ضد رجال وطنيين ، ويفصح من خلال الوثائق ايضا عن منح الانكليز الرشاوى والليرات الذهبية الى ذلك ” البعض “، اذ تكشف الاستار لأول مرة عن اناس اشتهروا بالتجلة والنبل والرفعة ، ولكنها اليوم ظهرت وجوههم عارية اذ كانت تقدم مصالحها الشخصية على المنفعة العامة ، وقد خدعت طوال هذه العقود من الزمن المجتمع ، وقد نالها الكثير من تمجيد المؤرخين الذين لم تتوفّر لبعضهم الأدلة والثبوتيات لكشف حقائقهم(8)! وكان السير ونستون تشرشل 1874- 1965م ينتقد سياسة الانفاق والتبذير التي كان يتبعها رجاله في العراق ، مما امر بتخفيضها الى النصف .. “(9)
واخيرا : ماذا نستنتج ؟
وعليه ، فان الحفريات التاريخية التي يجريها المؤرخ الجاد تميط اللثام عن اسرار ومعلومات مهمة جدا تغير صور كاملة راسخة في الوعي والاذهان . وتقف على حجم الادعاءات التي انطلت على الناس على مدى قرن كامل ، وكم حدثت خيانات ؟ وكم اقصيت رجالات ؟ وكم عتم على مخاز وجنايات ؟ وكم تقّلب هذا وذاك بين ازمة وموجات ؟ وكم اخفيت اخبار ومعلومات ؟ وكم صعد الى الحكم امعات ؟ وكم صعد الى المشانق من الابطال وهم يرون تحت اقدامهم زواحف لا تستحق الحياة ؟

الملاحظات
(1) عادل الياسري في كتابه ( تأليف واعداد ) ” جهاد السيد نور السيد عزيز الياسري في ثورة العراق التحررية 1920 وصناعة الوطنية : دراسة في وثائق الاستخبارات البريطانية ، ط1 ( بيروت : الدار العربية للعلوم – ناشرون ، 2018 ) وفي 32 فصلا ( 860 صفحة ) .
(2) المرجع نفسه .
(3)هو محمد علي شاه احد شاهات ايران القاجاريين حكم بين 1907 – 1909م .
(4) نفسه ، ص 123 وما بعدها .
(5)نشر عادل الياسري مقالته ” المجاهد السيد نور الياسري والشيخ ضاري والعلاقة بينها في ثورة 1920 وفيلم المسألة الكبرى ” في الحوار المتمدن ، العدد: 6350 – 2019 / 9 / 13 –
(6)ذكرها حنا بطاطو في كتابه : العراق : الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية ، ج1 ، ترجمة : عفيف الرزاز ، ط1 ( بيروت : مؤسسة الابحاث العربية ، 1990 ) ص 110 ، نقلا عن :
Great Britain, Adminstration Report of the Mentafiq for 1921, p. 4 .
(7) حنا بطاطو ، المرجع نفسه ، ج1 ، ص 110 ، معتمدا على :
Great Britain, Adminstration Report of the Amarah Division for 1920-1921, p. 7.
(8)عادل الياسري في كتابه ، جهاد .. ( سبق ذكره ) ، ص 124 وما بعدها .
(9) A. Haldane, The Instruction in Mesopotamia, 1920 (London, 1922), pp. 366-8.

تنشر على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل بتاريخ الثلاثاء 19 مايو / ايار 2020
https://sayyaraljamil.com/wp/

Check Also

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …