تهافت اندلاع حرب جديدة في 2019
أ.د. سيّار الجميل
لا أدري كيفَ يجازف “بعضهم” بنشر توقّعات خطيرة، وهو تنقصه المعرفة التاريخية، كما لا يراقب أيّة إحداثيات يومية في العالم، ناهيكم عن ضيق أفقه، ومحدودية رؤيته، وانطلاقه دوما من زاويةٍ محدّدة قبع فيها منذ عشرات السنين (!). جاءنا يسعى اليوم مع إطلالة 2019، ليبشّر بالحرب في مِنطقتنا التي يصفها أنها “تقف على حافّة الهاوية”، من دون أن يدرك أن دولنا الحالية جميعاً هي في الهاوية، ولا قدرةَ لها على الحرب، إلّا إذا قادَ الآخرون حروبهم على أراضيها. من يبشّر باندلاعِ حرب هو بلا عينين، وقد خفي عنه حجم الحروب المستعرة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية في أكثر من مكان. الحرب، إذا اعتقد بعضهم، مجرّد نزهة يستدعيها مزاجه متى يريد، أو أنه يخيف بها أحداً، فهو واهم حقاً. أما توصيفه أنها ستكون طائفية بغلاف “قومي عربي لسحق أجنحة إيران” فذلك منتهى البلادة السياسية، إذ لم تعد هناك أية نزعة قومية عربية اليوم، حتى في أروقة جامعة الدول العربية، بل بات طرف خارجي، أميركا تحديدا، لا يريد البتة أن يخسر أبناءه وراء البحار، ما دامت مصالحه يصنعها الآخرون له بمنتهى الوضاعة. وقد أثبتت تجارب الرئيسين، بوش الأب والابن، للشعب الأميركي خطل سياسات عهديهما. وعليه، فإنّ لأميركا وسائل أخرى اليوم لفرض هيمنتها، وتحديد مخاطر المجالات الحيوية في العالم لمصالحها.
من قال إن الوهابية باتت واهنةً، وأنها تنازع لتموت في السعودية قريباً؟ ومن يؤكد أن الدولة السعودية ستخرج بثوبٍ عصري جديد مع تحالفات جديدة واهم.. هل قرأ هؤلاء تاريخ السعوديين منذ جذوره؟ إنه تاريخ تشكّل مع الحركة الوهابية، باعتبارها عقيدةً مذهبيةً، بتزاوجها السياسي مع السعوديين، فقطارهم لا يمكنه أن يمشي على سكّةٍ من مخدّة واحدة، فهو يمشي، منذ ولادته، على سكتين اثنتين، العرش والمذهب، فليسَ هناك سعودية قديمة وأخرى جديدة، فهي لا تستطع التخلّي عن الوهابية أوّلاً، وهيَ لا تمتلك مؤهلات الحداثة السياسية ثانياً، كون نظام الحكم فيها لا يؤمن بالتجارب الحديثة في العالم، وهي غير مؤهلة لاتباع ذلك أبداً ثالثاً.
وعليه، لا يمكن التعويل إلا من الساذجين على هذا الشاب الذي تبوأ ولاية العهد، كي يصفهُ بعضهم “البلدوزر”، وأنه سيقوم بعصرنة مملكته، مهما كلّف الأمر. لا يمكن لأيّ غبيٍّ أن يقتنع بأن أميركا تناضل من أجل عقد قرانٍ من خلال تحالفاتٍ مصيريةٍ ومستقبلية مع دولةٍ مثل السعودية، حتى لو كان التحالف بقيادة أميركية، فأميركا ترامب غير أميركا روزفلت، ولا يمكن لأميركا أن تفتح جبهة حربٍ هذه الأيام ضدّ إيران أو غيرها، وتجربة السعودية بدت واضحة في اليمن، فهل للسعودية وحلفائها في الإقليم القدرة على مواجهة إيران؟
الفوضى تضرب أطنابها في دولنا ومجتمعاتنا كافة. وليست زاحفةً إلى منطقتنا كما يتغنّى بعضهم.. الحربُ قاسيةٌ جداً على كلّ المجتمع اليمني، فليس سقوط صاروخ على الرياض أو نجران يغيّر من المعادلة شيئاً، فللحرب في اليمن جذور قديمة في بلادٍ جغرافيتها مقفلة ومجتمعها مغلق.. أما تشدّق بعضهم باسم التوقعات الاستراتيجية، وتبشيرهم باندلاع حرب، وهو لا يعرف قراءة طبيعة العلاقات الدولية، ولا أوضاع المجتمعات، فاشتعال حربٍ لا يحصل بمثل هذه السهولة، وخصوصاً بين دولٍ تمتلك قوة الطاقة في العالم. نجحت إسرائيل مثلاً في إشعال الفوضى، ومدّها في كلّ مكانٍ عربيٍّ حيوي يهدّدها، بدل أن تخوض حروباً بنفسها ضدّ العرب.
طرح بعضهم توقّعاته البائسة، وقال إن الخطر سينتقل، خلال أسابيع، إلى المرحلة الثانية لرسم ملامح خرائط جديدة. وهذا لم يحصل، وسوف لن يحصل في هذه المرحلة.. وقد بدت جميع تلك التوقعّات خاطئة، فليس هناك أية تحالفات حقيقية سياسية، ولا عسكرية، مع المعسكر الأميركي، وليس هناك أي تحالف مضاد له، بمشاركة روسيا أو عدمها.
أسدى السياسي الفرنسي، جان مونيه، نصيحة ثمينة في قوله إن عليك لحلّ أيّة مشكلة مستعصيّة تغيير السياق… ولا يمكن حل مشكلات الشرق الأوسط المستعصية أبدا من دون تغيير السياقات فيها… ابحثوا عن الذين يقفون حائلا دون تغيير المساقات في كلّ من العراق وسورية مثلاّ، وستجدون أن ثمّة إرادة دولية، وأخرى إقليمية، لإبقاء السياقات على حالها، لإكمال مهمّة التدمير الممنهج وإبقاء الفوضى.
هل تغيرت الأوضاع والرؤية اليوم كي تتغير السياقات في العام 2019؟ ما نجده على الأرض يعكس حقائق مخيفة، فإن كان العراق مفكّكاً ومسحوقاً ومنهوباً، وهو دمية بأيد إيرانية، فإنّ سورية محتقنة جداً، لتمزقها الاجتماعي، واختراق روسيا وإيران لها، مع وجود تركي، وهيمنة إسرائيلية على مجالها الجوي. أما الصراع في اليمن فهو حربٌ أهليةٌ داخلية، باستحقاق واضح، عبرت عنها أشكال وعناصر متباينة، وغدت أرض اليمن مجالا لتصفية حسابات إقليمية. لم يبدأ الصراع في مارس/ آذار 2015، بل في سبتمبر/ أيلول 2014، عندما تم تقويض الحكومة الشرعية التي دعمها المجتمع الدولي، إلى جانب اليمنيين أنفسهم. الأمم المتحدة هي السلطة الوحيدة الموثوقة لعقد الحل المتفاوض عليه للنزاع في اليمن. أما الوضع في ليبيا فهو القابل للإصلاح، أكثر من أيّ بلد آخر في الشرق الأوسط.ويبقى العراق وحده مرشحّا لمتغيرات صعبة في العام 2019 ، نظرا لحراجة موقفه الاقليمي والدولي ، وفقدانه المشروعية ناهيكم عن موقعه الجيوستراتيجي في الشرق الاوسط .
لقد صدم العالم، عندما سار قرابة المليون إنسان من سوريين وعراقيين في العامين 2014 و2015 إلى أوروبا، بعبورهم المتوسط، وامتدوا نحو البلقان، وصولاً إلى شمال أوروبا وكندا. وفي انتظارهم تدهور الأوضاع المعيشية والمشكلات الصعبة في الخارج… وطال الزمن ثماني سنوات، وباتت الضرورة ماسّة لخطاب أمني عالمي، ينذر بكارثة قادمة في الشرق الأوسط، وهو قلب العالم إذا بقيت أوضاعه تنتقل من سيئ إلى أسوأ. وقد أثبتت التجارب المرّة أن حكومات بلدانه سيئة جداً، وغير قادرةٍ على وضع حدّ للانهيارات المقبلة، مقارنة بالحكومات التي جاءت إبان التسعينيات لدول المنظومة الاشتراكية سابقاً، ونجحت في إيجاد حلول جذرية للمشكلات الصعبة فيها.
نشرت في العربي الجديد / لندن يوم الثلاثاء 1 يناير / كانون الثاني 2019 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp