القسم الثاني
من قطار الشتاء الى قطار الصيف
أ.د. سيّار الجميل
مقدمة
اليوم ، موضوعنا في التاريخ المقارن ، ساتناول حدثين بينهما خمس سنوات اولاهما قطار الشتاء المنطلق من الموصل في العام 1959 ، وثانيهما قطار الصيف المنطلق من بغداد في العام 1963 .. ويجد المؤرخ ان الحدث الثاني هو وليد الحدث الاول باختلاف الزمان والمكان والعناصر ، فلا يمكن أن نجرد كل من الحدثين عن بعضهما ، ذلك ان تاريخ العراق يعد سلسلة مترابطة واحدة بالرغم من التقاطعات المزدحمة فيه .. ساعتمد في الاول على رواية أحد اهم الشهود العيان على الحدث ( 1959) الاستاذ الراحل صديق اسماعيل الكتبي ، وكان من اكفأ الضباط العراقيين ، وقد حكم عليه بالاعدام رميا بالرصاص بتهمة الاشتراك مع الشواف في الموصل ، ولكن استبدل الحكم عليه الى الاشغال الشاقة المؤبدة ، وبقي مسجونا حتى العام 1963 ، وقد نشرت مذكراته عام 2006 بعد وفاته بثماني سنين ( توفي رحمه الله 1998 ، ولهذا الرجل الفضل في القبض على عارف عبد الرزاق وافشال محاولته الانقلابية الثانية في الموصل ضد حكم عبد الرحمن عارف ) .
وساعتمد في الحدث الثاني على رواية أحد الشهود الاحياء هو الصديق الاستاذ جاسم المطير ، وقد كتب عن قطار الموت المنطلق من بغداد 1963 ، وانا أثق بالرجل ، وقد كتب معلوماته باسلوب ادبي خلب . فضلا عن الذاكرة الجمعية العراقية لكل من الحدثين ، فالاول ليس باستطاعة احد ان ينتزع ما حدث من ذاكرة الابناء والاحفاد ، والثاني ليس باستطاعة أحد أن ينتزع ما حدث من ذاكرة الابناء والاحفاد . ان كليهما من العراقيين . ان وقفتنا عند قصة قطار الموت تستدعي البحث عما جرى عام 1959 في قطار الحمل الذي انطلق من الموصل الى بغداد شتاء ، لنقارن اسلوب الانتقام السياسي لدى العراقيين كيف يكون ! وستكون الحلقة القادمة مخصصة للتحليل التاريخي المقارن لهذا الموضوع .
قصة قطار الموت
اذكر ان الايام والشهور الاولى من انقلاب 8 شباط 1963 ، كان البعثيون مع الرئيس عبد السلام عارف ينددون دعائيا بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم وعهده حيث جرت على عهده مذابح ومجازر للقوميين وغيرهم من المستقلين ، وخصوصا في الموصل وتلكيف ودهوك وكركوك واعدامات في بغداد ، ( التفاصيل كلها في محاضر وقرارات المجلس العرفي العسكري الاول ببغداد 26 / 12 / 1960 ، وصدرت عدة قرارات تجريم اثر محاكمات ، ولكن لم يؤخذ بها ، اذ اعفى الزعيم عن المجرمين بعد اشهر لمناسبة عيد الابتهاج ) ، وكانت قد عقدت احتفالات لتأبين شهداء ام الطبول يحضرها عبد السلام عارف ويقدم الخطابات العاطفية ، وكانت تلقى الخطب والقصائد .. بمعنى ان الجو كان يشحن سياسيا ضد ما فعله الشيوعيون في العراق .. وكان كل القوميين في العراق قد فرحوا وتشمتوا لما أصاب الشيوعيين والقاسميين من انكسار وهزيمة يوم 8 شباط 1963 وما بعده .
لقد قرر اعضاء المجلس الوطني لقيادة الثورة على أن يذهبوا بالمعتقلين الى سجن نقرة السلمان الصحراوي سيئ الصيت ، وكان يتراوح عدد الشيوعيين المعتقلين لاكثر من 500 معتقلا من قادة وضباط عسكريين واطباء ومهندسين وصيادلة وغيرهم ، ونقلهم الى السماوة في قطار مخصص لحمولة البضائع ، وهو يحتوي على العديد من العربات الحديدية المغلقة.. وواضح لماذا اختيرت تلك العربات لنقلهم في عز الصيف عبر تلك المسافة الطويلة ، اذ يفسّر الشيوعيون ذلك هو للتخلص منهم خنقا وعطشا بسبب شدة ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأوكسجين وفقدان اجسام المعتقلين للأملاح والسوائل ! وقد خطط ان تستغرق السفرة عشر ساعات .. في حين يبرر البعثيون ذلك ان ليس هناك اي مخطط للموت ولا لقتلهم بهذه الوسيلة .. يكتب الاديب جاسم المطير هذا النص في كتابه ” نقرة السلمان ” بأن قطار الموت حمل الف سجين مرة واحدة في سفرة واحدة .. بعضهم يقول أن عددهم 800 .
قطار الموصل :
اسلوب الانتقام من رحلة قطار الشتاء الى رحلة قطار الصيف
وبالوقت الذي ينفي البعثيون تهمة الموت الجماعي للشيوعيين ، ويظهرون براءتهم غير المقصودة، يؤكد الشيوعيون على ان العملية كانت مبيتة لقتلهم قتلا بطيئا في عربات حديدية ليس فيها نوافذ تهوية تسير ببطئ وتحت حرارة تصل الى 50 درجة مئوية !
توقفت طويلا عند مذكرات المرحوم صديق اسماعيل الكتبي ( 1927- 1998 م ) وكنت اعرف الرجل حق المعرفة ، وانا موقن بمصداقيته تماما ، وكان قد حدثني بنفسه في بيته قبل اكثر من اربعين عاما عن ذكرياته المؤلمة التي حدثت بعد ساعات من القضاء على حركة عبد الوهاب الشواف 1959 ، وكان قد شارك فيها كواحد من الضباط المواصلة ، قال : ” جرى اعتقالنا واحدا بعد الاخر ، وتعرضنا لاعتداءات من جنود القوة الجوية ، ونقلنا الى المطار ، وكنا اكثر من خمسين ضابطا معتقلا .. وكنا صائمين ، وقبل الافطار حضر ضابط اسمه سعيد مطر من الشيوعيين ، واخرج المعتقلين وكبلهم من الخلف بسلاسل حديدية او بالحبال ، وساعده جنود الانضباط العسكري ، ثم نقلنا بسيارة كبيرة الى الطائرة ، ورمينا فيها بعد ان مشينا من البهو ( حيث تم اعتقالهم ) الى الطائرة مع سيل من الشتائم والاعتداءات كالها لنا الجنود الشيوعيون المتجمعين لهذا الغرض ، ووصلنا الى الطائرة بشق الانفس حيث التدافع مع ايدينا المكبلة الى الخلف ، ونحن نتلقى الضربات من كل حدب وصوب ، وقد اصيب المقدم كامل الدبوني بجرح بليغ في رأسه اثر ضربة من أحد منتسبي القوة الجوية على رأسه ، ودخلنا الطائرة التي كانت مخصصة لنقل المظليين ، وشدوا ارجلنا الى بعضها . وكان هناك من يمر من فوقنا للاعتداء علينا بالضرب والشتم ، وقام احدهم برفع الرتب من فوق اكتافنا ( ص 53 ) ، وحلقت الطائرة الى بغداد مدة 15 دقيقة ، ثم عادت وهبطت في مطار الموصل ثانية ، وانزلونا منها ، وبقينا حتى التاسعة ليلا حيث نقلنا الى قرب ثكنة كتيبة الهندسة ( في معسكر الغزلاني ) حيث يمر القطار بالقرب منها ، وادخلنا عربة معدة لنقل الحيوانات ثم اقفل علينا الباب وجرى وضع الشمع على قفل باب الشاحنة وكنا 53 ضابطا . مكبلا من الخلف ، والعربة مغلقة بالحديد ، والبرد شديد وفي الليل ، انه منظر مؤلم حقا والذي يزيد الماً انه لا يوجد احد مطلق اليدين ليساعد اخوانه لقضاء حاجاتهم … وكان الحرس في عربة خاصة مربوطة بعربتنا . وعند وقوف القطار في المحطات ، كان التراب ينهال علينا من فتحة جدار العربة الصغيرة الموجودة في اعلى الجدار ، وهكذا قضينا اصعب ليلة قاسية ، ووصلنا بغداد مع بزوغ الشمس ، ونحن في حالة يرثى لها ، اذ كان البرد قاسيا ، ولم يذق أحدنا طعم النوم ، وجرى فتح العربة ، ودخل علينا الزبانية ، واعتدوا على الشهيد زكريا ( زكريا طه ) والشهيد علي توفيق بالضرب والشتم ، ثم انزلنا جميعا من العربة وسط ضربات ولكمات تأتينا من كلّ صوب ، ونقلنا بسيارات كبيرة الى معسكر الدبابات وسط معسكر الرشيد ، وكان في انتظارنا عند وصولنا المعتقل عدد كبير من الجنود وضباط الصف ، وبعض الضباط ، فانهالوا جميعهم علينا بالضرب على ما تصل ايديهم اليه .. وانبرى ضابط صف لم أعرفه ليتهمني امام الضابط المسؤول قائلا : يا سيدي هذا قتل 400 مناضل ، فابقوا يداي مربوطتان من الخلف وحررت ايدي الجميع سواي ورميت وسط الغرفة المكتظة عدة ساعات ، ومن حولي المعتقلون صامتين ” .. الى نهاية القصة .. ( 55- 56 ) . ان هذا التصّرف مع ضباط عراقيين متهمين بحركة انقلابية لا يجوز قانونيا ولا انسانيا معاملتهم مثل هذه المعاملة ، ولم يحاكموا بعد .. ومثلما تدان عملية قطار الموت ، فينبغي ان تدان هذه العملية ايضا .
من المسؤول عن هذا ؟ ومن المسؤول عن ذاك ؟
اذا كان قطار الموصل 1959 مسؤولا عنه الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء والذي كان على اتصال تلفوني دائم مع الضباط الشيوعيين في الموصل بشهادة كل من كتب عن حركة الشواف ، وما حدث لها من تداعيات مريرة ، فحين اخذ القطار اكثر من خمسين ضابطا الى بغداد لمحاكمتهم ، كانت الموصل تشهد مجزرة دموية لا مثيل لها ، فقد فقدت الحكومة المركزية السيطرة عليها ، وهبت عليها مجموعات خارجية للقتل والنهب والسحل ، وتغلب الشيوعيون في الموصل على الموقف في دوامة من الفوضى وفقدان الجيش والشرطة والادارة وبقاء الحالة لتسعة ايام شهدت المدينة وضواحيها الاهوال .
اما قطار بغداد ( قطار الموت 1963 ) ، فيؤكد الشيوعيون والبعثيون معا على ان تلك العملية اشرف عليها كل من عبد السلام عارف رئيس الجمهورية ، وطاهر يحيى رئيس اركان الجيش ، ورشيد مصلح الحاكم العسكري العام .. وسواء كان هؤلاء ام كان الجناح البعثي الاكثر تشددا ، وسواء كانوا من العسكريين ام المدنيين ، فان العملية تعد جريمة ضد الانسانية يعاقب عليها القانون ، وان النظام الحاكم كله كان مسؤولا عليها امام الله والتاريخ . يتابع محدّثي وهو شيوعي عراقي قديم ممن كان ضمن المعتقلين الذين ذهب بهم قطار الموت ، – لم يرد ذكر اسمه – ، وكان طبيب عيون ، وقد التقيت به قبل عشر سنوات – وصف الترحيل بالصعوبة بسبب قسوته الفيزيائية وآثاره السايكلوجية .
سمي القطار بـ (قطار الموت) ، ولا يعرف من اطلق عليه هذه التسمية حتى اليوم ! ، وهذه تجربة مفضوحة للقتل الجمعي في 15 عربة حديدية مقفلة حولت القطار الى فرن متحرك ، كان يغلي بالمعتقلين على مدى ساعات ، وهو يسير بطيئ الحركة تحت محرقة شمس تموز .. ولكن السؤال : اذا كان القطار قد تحرك الساعة السابعة صباحا واحتاج الى ساعتين حتى وصل المحاويل 80 كم جنوبي بغداد على الساعة التاسعة صباحا ، بمعنى ان المتبقي من المسافة 220 كم قد قطعها بثلاث ساعات ان كان يسير ب 70 كم في الساعة .. بمعنى ان القطار وصل السماوة على الساعة الثانية عشرة ظهرا .
انطلق القطار من محطة بغداد العالمية صباحا . وقد حُشِر في 15 عربة حديدية مغلقة تخلو من العوازل الحرارية والكراسي والنوافذ، وكانت جدرانها الداخلية قد طليت بالقار بلا أي منفذ للهواء أو النور باستثناء ثقوب صغيرة جدا عند مفصل كل عربة ، وقد تم غلق بوابات العربات وقفلها ، وابقاء العربات ممتلئة بالمعتقلين عدة ساعات قبل انطلاق القطار صباح 4 تموز / يوليو 1963 .. اي من الساعة الثانية بعد منتصف الليل وحتى السابعة صباحا ، اذ انطلق القطار . وقد أمر المسؤولون من سائق القطار ويدعى عبد عباس المفرجي السير ببطء من اجل المحافظة على سلامة البضاعة ! اذ اخفيت عنه الحقيقة اذ اتي به من بيته فجرا ، واوعزوا له بقطع المسافة المقدرة بحوالي 300 كم بين بغداد والسماوة في 10 ساعات !
وقفة القطار عند المحاويل
يقول الاستاذ المطير : ” بعد ساعة واحدة من حركته نحو الجنوب بدأ السجناء يدركون ان أمرا ليس طبيعيا سيواجهونه في هذه العربات ” .. مع مرور الوقت ، تحولت عربات القطار الى حديد ساخن جدا ، فضاقت الانفاس في الدواخل ، وقل الاوكسجين وتضورت الاجسام من العطش وقلة الاملاح ، وتلاشت الصرخات التي لم تنفع مع الضرب على جدران العربات الحامية والمطلية بالقار .. بعد قطع 140 كم ، توقف القطار في احدى المحطات ، وهذا الرقم تشوبه المبالغة ، فقد توقف القطار في المحاويل قبل الحلة ، اي بعد ان سار القطار قرابة 80 كم ، فالمسافة بين بغداد والحلة 100 كم ، وكان القطار قد توقف بعد تجاوز الدورة وهور رجب في محطة المحاويل ، واثناء توقف القطار ، – كما يحكي سائق القطار – صعد رجل في الثلاثين من عمره قائلا للسائق : ان حمولتك ليست بضاعة خاصة وانما سجناء سياسيين. فقام المفرجي بعد ان وثق من صحة الخبر بواسطة مساعده ، فانطلق قبل الموعد باقصى سرعة ممكنة ، فوصل بالقطار قبل موعده بساعتين وقبل ان تتهيأ السلطات المحليه لاستقباله. ،في حين أكدت لي رواية اخرى ان الخبر قد تسرب من بغداد اذ كان من بين المعتقلين ضابط صيدلاني هو ابن السيد طالب أحد وجهاء السماوة ، وقد سّرب الخبر بواسطة احد الجنود من معارفه ، وكانت هناك سيارة تنهب الارض لتصل مع وقوف القطار ، ويقوم من كان فيها سائق القطار بخطورة ما يحدث . ويخبرنا جاسم المطير ان برقية لاسلكي تسلمها ناظر محطة السماوه تخطره بخبر القطار ، فانتشر الخبر بين اهل السماوة الذين خرجوا باغذيتهم لاستقبال المعتقلين او لمساعدتهم .
كان سائق القطار عبد عباس المفرجي ( توفي 1987 ) قد حكى لولديه الصحفيين مظهر، وعلاء ، كيف تم استدعائه فجر 4 تموز .. وقد قاد القطار دون علمه بمن كان فيه من بشر ، وكيف أخبر بحقيقة الحمولة، فقطع المسافة المتبقية 220 كم بسرعة ، ولم يلتزم بالتوجيهات ، التي تجعله يستغرق بحدود 5-6 ساعات.. اما الوضع في داخل العربات ، فقد غدا ملتهبا بعد ان فقد اغلب المعتقلين سوائلهم ، واقترح احد الاطباء منهم ان يلعقوا عرقهم المتصبب كي يحافظوا على قدر من السوائل والاملاح ، وقد سمع بعضهم من يخبرهم من الخارج بصوته المتعاطف معهم بأن القطار سيسرع في اندفاعه نحو السماوة ، فعرفوا الحقيقة …! وثمة مبالغات نرصدها على الانترنيت من الذين يضفون على الحدث اكثر مما يتحمّل ، وهي ضارة بتاريخ الحدث لا بافادته .
التوقف عند محطة السماوة ومنها الى نقرة السلمان
ضاعف السائق سرعة القطار لإنقاذ المعتقلين ، مما اشعر هم بهذا التغيير، متجاوزا عدة محطات صغيرة بلا توقف .. ولكن ثمة معلومة تقول بأنه قد توقف في الرميثة ( قبل السماوة بـ 25 كم ) ويبدو ان خبر القطار قد وصل متسربا الى الناس ، فخرج بعضهم برواية السائق المفرجي لأبنائه، علما بأن القطار كانت تراقبه عيون الحرس القومي ، ويخشى من سوء النتائج الكارثية .
الوصول
وصل القطار محطة السماوة ، ففتحت ابواب الحاويات وكسرت اقفالها، وانزل المعتقلين ، واغلبهم في حالة سيئة ، ومنعهم رافد صبحي اديب ، وكان طبيبا معتقلا من شرب الماء البارد ومعه جماعة من الاطباء ، بل شربوا ماء فاترا مع الملح لتعويض الاملاح المفقودة .. وقد توفي المعتقل الرائد يحيى نادر في المستشفى بعد نقله اليها في نفس اليوم.( ويقدم الاستاذ المطير قائمة من 158 اسما من معتقلي قطار الموت ). وقامت الجهات الأمنية مسرعة بترحيل المعتقلين الى سجن نقرة السلمان. ووصلوه ، وتم توزيعهم على الردهات، فانتهت قصة قطار الموت .
انتظروا الحلقة القادمة تحليل تاريخي للحدث وتداعياته .
تنشر بتاريخ 28 ديسمبر 2018 على موقع الدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp