بدأ زمن الوصاية في العراق المعاصر منذ مصرع غازي الاول ، اذ كان نجله وولي عهده فيصل طفلا وعمره 4 سنوات ، فكان ان غدا ملكا تحت وصاية خاله الامير عبد الاله حتى بلوغه السن القانونية لتسلّم الملك ، اي بين 1939- 1953 . اي اربعينيات القرن العشرين ، وفيها شهد العراق تطورات سياسية صعبة جدا بدءا باندلاع الحرب العالمية الثانية وآثارها وانتهاء بمعاهدة بورتسموث ونتائجها .. فما هي ابرز العلامات البارزة عهد ذاك ؟
رستم حيدر
في حوالي الساعة 11 من صباح يوم 17 /1/ 1940 دخل على وزير المالية رستم حيدر في مكتبه المدعو حسين فوزي توفيق، وأطلق عليه الرصاص ، فنقل الى المستشفى، وفارق الحياة بعد 4 ايام… وكان هذا الجاني مفصولا من الشرطة ومطرودا من الأشغال العسكرية واعترف بجنايته التي فسّرها باليأس من الحصول على وظيفة دون ان يحرضه احد او يعاونه او يشترك معه . قتل هذا الوزير اللبناني الذي صاحب فيصل الاول في مهماته التاريخية ، وشغل عدة مناصب كان آخرها وزارة المالية سنة 1939م، وقد أسف العراقيون واللبنانيون عليه كثيراً، كانت له خبراته الادارية والمالية ، وبرز في مجتمع تتصارع فيه المصالح وتتصادم فيه الاهواء ، وحوكم القاتل وأعدم . وهذه الحادثة تذكرنا بمقتل استاذ مصري في كلية الحقوق العراقية ابان الثلاثينيات ، اذ قام أحد الطلبة العراقيين باطلاق النار على استاذيه المصريين محمود عزمي وحسن سيف ابو السعود فمات الاخير بعد ان اطلق الجاني الرصاص على نفسه وانتحر في قصة رواها لنا الاديب المصري زكي مبارك في كتابه ” ليلى المريضة في العراق ” .
ثمة اسئلة تثار حول مقتل رستم حيدر ومن قبله حسن سيف : هل خلت كل من الحادثتين المأساويتين من خفايا سياسية ؟ هل كانت وراء مقتل رستم حيدر بالذات اياد خفية ؟ لماذا هرب رستم حيدر الى لبنان اثر انقلاب بكر صدقي ، ولما فشل الانقلاب عاد الى العراق ثانية ليتبوأ مناصب عليا في البلاد ؟ لماذا لم ينفتح رستم حيدر على كل المجتمع العراقي ، وبقيت صداقته منحصرة باشخاص معينين ؟ لماذا نبّه من أحدهم من اعتداء قد يناله اثناء سيره يوميا من بيته في الصالحية حتى المحطة ؟ ولماذا أجابه : بأن ليس له أعداء ؟ ما حقائق ما كتبه عنه ناصر الدين النشاشيبي ، وخصوصا اتهامه اياه بموت فيصل الاول في برن بسويسرا بواسطة صديقته المصرية اليهودية ؟ لماذا لم يكتب رستم حيدر في مذكراته تفاصيل ذلك الحدث الجلل اذا كان مرافقا له ؟ وهو السؤال نفسه الذي لم اجد له جوابا في مذكرات تحسين قدري التي حققتها مؤخرا ، اذ لم اجد اية تفاصيل عن موت فيصل الاول ، علما بأن قدري ذكر بأن فيصل الاول مات بحضوره ؟
صورة رستم حيدر
مصرع المربع الذهبي
ودارت الايام ، وكانت الحرب العالمية الثانية قد سببت تداعياتها انقساما سياسيا في العراق ، قاد الى احداث 1941 والحرب العراقية البريطانية ، وسيطرة بريطانيا على الموقف بعد ازالة حكومة الدفاع الوطني بقيادة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الاربعة .. وبعد فشل الحركة التي تسمّت باسمه .. تمّ اعدم العقداء الاربعة محمود سلمان وصلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد وكامل شبيب وبمعيتهم محمد يونس السبعاوي ( باصرار من البريطانيين لتعاونهم مع الفوهرر هتلر ابان الحرب الثانية ودخول جيش حكومة الدفاع الوطني في حرب مع الحلفاء ) على اثر فشل تلك الحركة عام 1941 ، هربت نخبة من المثقفين والساسة العراقيين الى خارج العراق ومنهم ساطع الحصري الذي اسقطت الجنسية العراقية عنه وعن آخرين عقابا ، واستمرت هجرات المثقفين والساسة العراقيين ، ومن بعدهم الناس العاديين بالالاف المؤلفة لاحقا ابان العهود الجمهورية – كما سنذكرها لاحقا.
ثمة أسئلة لا مفكر فيها حول ما حدث في العام 1941 بمعزل الدفاع عن الطرفين العراقيين المتصارعين ، سواء من كان يحابي البريطانيين ، او من كان يوثق علاقاته مع المانيا النازية ، اقول : الم يكن ذلك الصراع حقيقة يعبر عن انقسام سياسي عراقي بين معسكرين اثنين ؟ واذا عرفنا كم كانت علاقة رشيد عالي والعقداء الاربعة طيبة مع الانكليز منذ زمن طويل ، فما الذي جعلهم يغيّرون مواقفهم ليكونوا فجأة في الضد منهم ؟
صورة العقداء الاربعة
ما علاقة الدور الالماني ممثلا بالسفير الالماني غروبا في بغداد ؟ ما تأثير الدور العربي في العراق ممثلا بالحاج امين الحسيني مفتي فلسطين واتباعه وهم بالمئات ، ناهيكم عن دور العشرات من المدرسين والاساتذة العرب في بغداد وامهات المدن العراقية ؟ لماذا صدّق البعض من العراقيين ان هتلر سيرسل بالطائرات والدبابات لهم كي يتحرروا من الهيمنة البريطانية ؟
صورة ادولف هتلر يصافح رشيد عالي الكيلاني
من الذي سعى من العراقيين الى جعل العراق ساحة حرب مشتعلة ؟ ومن الذي اصّر ان يبقى العراق بعيدا عن الحرب ؟ من كان يسمع ليل نهار الى اذاعة يونس بحري ” حي العرب ” من برلين ويصدّق بدعاياته النازية ؟ ان قراءات متمعنة ودقيقة في الذي كان يعبّر عنه العراقيون في صحفهم وادبياتهم .. يخرج بنتائج مؤلمة تعّبر عن انقسام الرأي العام وسذاجته السياسية وعواطفه المحمومة التي يعهدها المؤرخ وهو ازاء مرآة من اضطراب المواقف ومتغيرات اصحابها وتقلباتهم مع الازمنة والعهود في العراق .
صورة جمال جميل في طريقه الى المشنقة
اعدام جمال جميل
وفي العام 1948 ، يعدم في اليمن الضابط العقيد الموصلي جمال جميل 1911- 1949 اثر محاولة انقلابية هناك من قبله ضد حكم الائمة في اليمن . كان الرائد جمال احد اعضاء بعثة عسكرية ارسلت لليمن عام 1940 لاغراض تدريب الجيش هناك ، وانجزت مهمتها ، وعادت 1943 وبقي جمال جميل الذي تزوج من ابنة امر المدفعية اليمنية (اسماعيل بك) وعمل معلما في الكلية الحربية واسهم في حركة انقلابية فاشلة 1948 اغتيل فيها الامام يحيى ، وافشلها ابنه (سيف الاسلام احمد) وقبض على جمال جميل واعدم في (1949) . السؤال : ما الذي يجعل ضابطا عراقيا يحاول قلب نظام حكم قديم جدا في اليمن ليعدم ويدفن هناك ؟ ولكن لماذا كسب الرجل محبة اليمنيين على امتداد سبعين سنة ، اي حتى يومنا هذا ؟
صورة الشاب جعفر الجواهري ( اخو الشاعر محمد مهدي الجواهري ) من شهداء الجسر
معاهدة بورتسموث وشهداء الجسر
وقعت المعاهدة الأنجلو-عراقية ، أو معاهدة بورتسموث لعام 1948 في 15 يناير 1948. وكانت بمثابة مراجعة للمعاهدة الشهيرة بين الطرفين 1930 التي حسمت استقلال البلاد واخرجته من الانتداب ، فان البريطانيين قد أعادوا خلال الحرب العالمية الثانية احتلال العراق لوأد ما حدث عام 1941 ، ونجد في المعاهدة الجديدة بعد المفاوضات اتفاق على الانسحاب البريطاني وتأليف مجلس دفاع بريطاني وعراقي مشترك يشرف على التخطيط العسكري العراقي. والتمركز في العراق و الاشتباك مع ايران وابقاء العراق مرتبطا بالبريطانيين من أجل الإمدادات العسكرية والتدريب حتى العام 1973 ، اي لمدة 25 عاما ورفض العراقيون المعاهدة بانتفاضة سميت بوثبة كانون احتجاجا وتمردا ، الا ان الموالاة للغرب ركن من فلسفة النظام الملكي .
تحدت الحكومة الشعب واطلقت عليه الرصاص ، فسقط بعض الشهداء ، باشتداد العنف يوم الثلاثاء 1948/1/27 ومن الشهداء : رشيد إبراهيم الحميد . وقيس إبراهيم الآلوسي وجعفر الجواهري وغيرهم . انني اعتقد ان المعاهدة قد حددت النفوذ البريطاني الذي استفحل بعد 1941 ، وان ” المعاهدة ” كانت على غرار المعاهدات الاخرى اثر الحرب الثانية . والسؤال : هل كان افشال المعاهدة خطة لملأ القوى الجديدة الفراغ في الشرق الاوسط ، وخصوصا وان قوتين كبريين بدأتا تستحوذان على العالم : الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي .. وان قوة اقليمية تنمو في الشرق الاوسط متمثلة باسرائيل التي خابت في الحرب ضدها المنظومة العربية قاطبة عام 1948 . والملفت للنظر ، ان سعي العراقيين للتسلّح هو من اجل التوازن الاقليمي ، اذ كانت كل من ايران البهلوية وتركيا الكمالية يتسّع نفوذهما في الشرق الاوسط الى جانب ولادة اسرائيل .
الشيوعيون العراقيون : اعدام فهد وجماعته
تفاقمت قوة الشيوعيين في العراق ابان الاربعينيات من القرن العشرين ، وكانت لهم مشاركتهم الفعالة في وثبة كانون 1948 ، مع ازدياد شراسة النظام الملكي ضدهم واعتبارهم من ألّد أعداء النظام ، خصوصا وان الشيوعيين وجدوا في الحرب الباردة بين المعسكرين العالميين فرصة امتدوا فيها نحو كل مدن العراق .. ونتيجة لذلك ، فقد اخطأ النظام الملكي باعدامه يوسف سلمان يوسف كما يعرف غالباً باسمه الحركي( فهد) عام 1949 رفقة جماعته ، هو الرمز الكبير لكل الشيوعيين العراقيين ، اذ قصم اعدامه ظهر النظام قبل عشر سنوات من زواله ، وغدا كل الشيوعيين العراقيين من أقوى المعارضين له وحتى اليوم .. كان اول عراقي يؤمن بالماركسية منذ العشرينيات هو المعلم الاستاذ يحي قاف العبد الواحد الموصلي ، وكان ظهور أول الحلقات الماركسية العراقية قد ضمت: حسين الرحال، وعوني بكر صدقي، ومصطفى علي، ومحمد وأحمد المدرس، و عبد الله جدوع ، ولعب محمد حسين أبو العيس الدور الفعال في حياة الحزب الشيوعي حيث كان عضو اللجنة المركزية للحزب وأول رئيس تحرير لجريدة اتحاد الشعب الناطقة باسم الحزب ، ودفع اغلب الاقطاب الشيوعيين العراقيين اثمانا باهضة من دمائهم وحياتهم عام 1963 او تشردهم مع هجرة اغلب قواعدهم من العراق ، وبالذات عام 1979 – كما سنأتي الى ذلك لاحقا – .
صورة يوسف سلمان يوسف ( فهد ) مؤسس الحزب الشيوعي العراقي
البعثيون العراقيون
اما حزب البعث في العراق ، فترجع بداياته التاريخية الى أوائل الخمسينات ، اذ تشكلت عام 1953 أول قيادة قطرية من قبل كل من فؤاد الركابي (كأمين السر) وفخري قدروي وجعفر قاسم حمودي وشمس الدين كاظم ومحمد سعيد الأسود. وكان من اوائل البعثيين العراقيين ايضا سعدون حمادي الذي يعد اول بعثي عراقي ينضم للحزب خارج العراق منذ العام 1948 .. يحدثنا نصير الجادرجي في مذكراته عن اعتقاله ابان الخمسينيات ( 1956 ) وهو في معتقل السعدية الذي جمع المعارضين السياسيين الشيوعيين والبعثيين ، قائلا : ” كان لكل معتقل سريره الخاص ، كما كانت هناك اجهزة مذياع في غرف المعتقل ، يستمع النزلاء عبرها بالاخبار ، وكان متنفسنا الوحيد ( اذاعة صوت العرب من القاهرة ) ، التي كنا نستمع اليها من دون أية رقابة تذكر ، حيث كان سلوك آمر المعتقل جيدا ، وأحيانا كان يجلس معنا ليلا لبعض الوقت يشاركنا الحديث .. ( ص 149 ) . ويستطرد قائلا في مكان آخر من مذكراته : ” تصرفات حكام العهود التي تلت ذلك العهد ، والتي تعد أسوأ منه كثيرا بانتهاكاتها ومساوئها واستهتارها بمصير ومستقبل مواطنيها مع الاسف الشديد .. نعم كان عهدا ذهبيا اذا قورن بما تلاه من عهود وما نحن عليه الان أيضا ! ان انتقادي ينصب على الاتجاه والممارسة السياسيتين في العهد الملكي . أما من حيث الكفاءة الادارية والنزاهة فكانتا على مستوى عال والشعور بالمسؤولية لبناء الدولة الحديثة ” ( ص 146 ) .
وأخيرا ، اقول ، ان مجرد مقارنة تاريخية بين العهد الملكي وما تلاه من عهود سياسية جمهورية ، توضّح الفوارق التاريخية التي لم يتعّلم منها العراقيون شيئا .. وان عوامل التغيير التي حلم بها العراقيون لم تتحقق حتى يومنا هذا ، وأن الاهداف التي نادوا بها ، كانت شعارات مجردة من مضامينها تماما ، وان المبادئ الحقيقية لم تحملها الا الرموز النادرة ، في حين يرفع الشعارات الجوفاء مهرجا بها كل من يبحث له عن منصب او جاه او مال .. وايضا ، اسمع عن ناس امتد بهم العمر حتى اليوم يقولون كنا نتمرد وننتفض ونحن شباب في مقتبل العمر ، لا نعرف من الحياة شيئا ، ولم نكن نقرأ شيئا بتمعن ودقة .. كنا ننساق نحو الشوارع بلا تفكير .. كان بعضنا مخدوعا ، وبعضنا الاخر ساذجا او جاهلا والاغلبية لم تفهم او تدرك معنى السياسة !! لقد بدا واضحا ان صراع العراقيين في ما بينهم يعد مشكلة تاريخية ليس من أجل رقي بلدهم وتقدمه ، بل ان صراعهم هو تعبير لارادات الغير والآخرين في العالم .
انتظروا الحلقة السادسة
تنشر على موقع الدكتور سيّار الجميل بتاريخ 28 سبتمبر / ايلول 2018 .
https://sayyaraljamil.com/wp/