مقدمة :
نتابع في هذه الحلقة من ” رموز وأشباح ” الاجابة على تساؤل يفرض نفسه دوما عند مختلف الاجيال في العراق ، وخصوصا على امتداد القرن العشرين ، والقائل :
ماذا كانت يا ترى نهايات رموز واشباح الساسة والزعماء والمثقفين العراقيين على عهد فيصل الاول ؟
يعترف الجميع أن العهد الملكي لم يكن عهدا دمويا ، ولم يعدم فيه الا القليل من الناس ، بالرغم من سطوة مديرية التحريات ورجال الامن ، الا ان الاضطهاد السياسي قد مورس ضد الشيوعيين بشكل خاص منذ بعيد الحرب العالمية الثانية ، وأود القول ان مؤسس الحزب الشيوعي العراقي فهد وجماعته لم يكونوا اول الذين اعدموا في العراق . اذ ينبغي الرجوع الى عهدي فيصل الاول وولده غازي ثم عهد الوصاية .
1/ ضاري المحمود
سبقهم الشيخ ضاري المحمود ( حوكم واعدم 1928 في سنجار من قبل الانكليز بعد أن قبض عليه في دير الزور هاربا متخفيا ) وأعدم باصرار من قبل البريطانيين كونه قاتل العقيد البريطاني جرالد لجمان الذي قطع عن شيوخ العشائر العراقيين تزويدهم بالليرات الذهبية لاسترضائهم ، اذ كان الانكليز يمدّون كل من شيوخ العشائر وشيوخ الدين بها بين 1914- 1920 ، وهناك معلومات تاريخية مضطربة عن الشيخ ضاري ، فالمؤرخ يجد نفسه بين مداحين لبطولاته الاسطورية ، وبين منتقدين ومعارضين له كونه تعاون في البداية مع الانكليز ، ولكنه لم يوف بتعهداته مما جعل لجمن يهينه ويطرده في خان النقطة بين بغداد والفلوجة ، فكان ان دبر الشيخ ضاري مع أولاده قتل لجمن وحارسه .. اما الوثائق ، فتشير الى انقطاع الليرات الذهبية عنه ، مما جعله يدبّر قتل لجمن .. ورواية تقول انه مات مريضا في سجنه او أن غموضا يلف موته ، ولكن الحقيقة انه قد قبض عليه وحوكم من قبل الانكليز في سنجار وشنق فيها ! ولم يوّقع فيصل الاول على قرار اعدامه .
2/ تجسير العلاقة بين الزعيم والمثقفين
وللعلم ان فيصل الاول لم يوقّع طوال حكمه على اي قرار باعدام اي عراقي .. وهذه نقطة مضيئة وتاريخية تحسب له ، اذ كانت له رؤيته السلمية للامور ، وكان يرى انه حتى المجرم يمكن اصلاحه ، والعاهرة يمكن صلاحها كونهما نتاج مجتمع سلبي جنى عليهما ، وان المجتمع نفسه قسا عليهما بعد أن صنعهما ، ولا يمكن صلاحهما الا بصلاح المجتمع .. ليكون أيا منهما عضوا نافعا في الهيئة الاجتماعية .
وكان فيصل الاول يتمتع بقدر كبير من الحكمة ، ويهتم برموز العراق من أدباء وشعراء وعلماء ومثقفين وساسة ورجال دين ، اذ كان الزعيم العربي الوحيد الذي قام بتجسير الفجوات بين زعامته والمثقفين ، وكان يراقب شأن الشباب ، اذ يرى انهم ذخيرة المستقبل . ولم يكن قاسيا فظا ضد معارضيه العراقيين الذين وقفوا ضده في العراق ، وفي مقدمتهم الشاعر معروف الرصافي الذي اطلق القصائد معارضا له ، وكان يستقبله في مكتبه ويحادثه ويحاوره ، وان سئل الرصافي عمّا يريده ، يجيب بأنه لا يعرف ما يريد ! وهذه هي أبرز مشكلة سايكلوجية يعاني منها المثقف او السياسي العراقي منذ زمن طويل .. انه يعارض باسم الوطن او تحت يافطة من الشعارات الوهمية ، لكنه يعارض كونه هو نفسه يطمح للسلطة بأي ثمن ، فيعبر عن طموحه المكبوت بالمعارضة .. اي بمعنى ان المثقف والسياسي العراقي قد تمتع على عهد فيصل الاول بحرياته الفكرية والسياسية والابداعية كاملة من دون اي اضطهاد او تعسف ، وخصوصا ابان العشرينيات من القرن العشرين . لقد اختار فيصل الاول ان تكون السيدارة الفيصلية رمزا للعراقيين المتمدنين كي تميزهم عن غيرهم سواء في دواخل البلاد ، أم في الخارج .
3/ قضية أنيس زكريا النصولي
ولم يكن فيصل الاول واقفاً ضد ارادة العراقيين ، ولم يعترض على ما تقرّه المؤسسات في دولته الوليدة ، فقد كان قد تمّ اخراج الاستاذ المؤرخ انيس زكريا النصولي من العراق عام 1927 ( لبناني الجنسية ) بسبب اصداره كتاب ” تاريخ الدولة الاموية في الشام ” وما سبّب ” الكتاب ” من لغط واستهجان في الاوساط الشيعية العراقية ، اذ اعتبروه ممالئاً للامويين ، وهو مجرد كتاب عادي في التاريخ الوسيط .. ولم يتدّخل فيصل في الامر أبداً ، اذ لم يعترض على مغادرة النصولي العراق مطرودا . وقد انتقد اللبنانيون موقف العراقيين ، وجعلهم كتاب النصولي قضية سياسية في حين انها مسألة تاريخية ، وقد احتفى اللبنانيون بوصول النصولي بلاده عائدا من العراق ، فاسموا احد شوارع بيروت باسمه تكريما له .
4/ محمد مهدي الجواهري
ويحكي لنا باقر السيد أحمد الحسني في ذكرياته عندما نصبه فيصل الاول موظفا في البلاط الملكي عن محمد مهدي الجواهري وكان شابا معمما ولم يثبت على أمر ، اذ بعد رفض ساطع الحصري استمراره معلماً لعدم استكماله اوراقه الثبوتية ، عينّه فيصل الآول تشريفاتي في بلاطه بوساطة من السيد محمد الصدر بالرغم من وصف الجواهري للملك بالكذاب ( ص 97 ) وقد نزع جبتّه وعمامته وغدا افنديا في البلاط وكان يحرج الملك بقصائده التي ينشرها في الصحف ، وكلها شتائم وسباب بحق العائلة المالكة ، وهو محسوب على فيصل ( ص 100 ) ، أو انه يمدح باسمه الصريح في يوم وفي اليوم التالي يسب ويشتم باسم مستعار !!
5/ عبد المحسن السعدون
وفي ظروف غامضة عام 1929 ، قيل ان عبد المحسن السعدون قد انتحر بعد ان كتب وصيته بالتركية جراء اتهامه عميلا للبريطانيين ! وربما قتل ، اذ يقال أنهم وجدوا طلقتين في رأسه لا طلقة واحدة عندما وجدوه ميتاً يوم 13 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1929م . واسئلة تثار دوما في خاطري : لماذا انتحر السعدون فجأة وهو بهذا المنصب الأعلى ؟ لماذا كتب وصيته بالتركية ، وقد وجهها الى ولده علي ؟ وهل هو نفسه الذي كتبها أم زوجته ؟ لماذا لم يكتبها بالعربية اذن وهو رئيس وزراء دولة لغتها الرسمية هي العربية ، بل هو من قبيلة عربية قحّة ؟ ما اثر علاقته السيئة بزوجته التركية في العراق على مصرعه ؟ أسئلة تبحث لها عن اجابات مقنعة للعقل ايها العراقيون ، واجيال منذ تسعين سنة تمر من تحت تمثال له نصب في اشهر شارع في بغداد اسمه شارع السعدون .
.
6/ المس غرترود بل
ومن قبلهما ، توفيت في 12 /7/ 1926 المس غرترود بل المستشارة البريطانية الشهيرة ، اذ تناولت جرعة زائدة من الدواء، فهل قصدت الانتحار أم لا ؟ وقد شيعت تشيعا مهيبا في بغداد، ودفنت في مقبرة الإنكليز في باب المعظم وسط بغداد . ما اسرار موتها ؟ هل كانت تعاني من ازمة نفسية في العراق ؟ لماذا لم تغادر العراق الى وطنها الام بريطانيا ان كانت لم تتجرّع الحياة في العراق ؟ كانت قد اسميت بـ ” خاتون بغداد ” الشهيرة التي احبها البغداديون كثيرا ، كونها انسجمت مع طبيعتهم وعرفت كيف تتعامل معهم .. طيب ، هل قتلت ؟ ومن الذي قتلها ؟ صحيح انها كانت تشكو في رسائلها لابيها من علاقاتها السياسية المضطربة مع المسؤولين البريطانيين ببغداد ، ولكنها كانت مرتبطة بالادارة البريطانية العليا التي كانت تعتمد عليها كثيرا ؟ من يقرأ كتبها ورسائلها ، ينفي عنها صفة الانتحار ..
7/ انتفاضة الآثوريين
وفي مسألة حيوية وتاريخية اخرى ، يجمع اغلب المسيحيين العراقيين ان الآثوريين قد دفعوا ثمنا باهضا جراء انتفاضتهم القومية التي قضي عليها الجيش العراقي بقوة السلاح عام 1933 وبقسوة بالغة من قبل بكر صدقي ضد المنتفضين المطالبين بتحقيق مطالبهم التي اعتبرت تعجيزية .. ناهيكم عن تعامله بقسوة مع العشائر التي تمردت ضد قانون الخدمة الالزامية في ربوع الفرات الاوسط .. وكان قد تألم منها فيصل الأول قبيل وفاته عندما كان يعالج في سويسرا ، وقد رحل وعنده غصّة جراء ما حدث في سمّيل ضد التيارية الآثوريين وقمع حركتهم .. وما تلقّى من انتقادات دولية جراء ذلك . ويقف الدارسون امام حركة الاثوريين ايضا على اتجاهين اثنين ، اولاهما يتفق معها وثانيهما يختلف عنها ..
8/ نهاية فيصل الاول
وعدّ فيصل الاول رمزاً للعراقيين ، كونه المؤسس الحقيقي للعراق الجديد ، وبالرغم من نهايته المفاجئة وهو بعيد عن بلده ، اذ كان يعالج في برن بسويسرا ، الا ان الغموض لم يزل يحيط بموته ، اذ يشكك البعض في نهايته ، اذ يقال انه مات مسموما ، ولم يفصح مرافقه العسكري الاقدم تحسين قدري عن ذلك ابدا وخصوصا في مذكراته التي قمت بنشرها هذا العام 2018 ، وكان يرافقه في رحلته ، وكان الى جنبه عندما كان فيصل الاول يعاني سريعا من سكرات الموت ، اذ اتهمت ممرضته الهندية بزرقه ابرة مسمومة ! ويصعب على الكثيرين البحث عن حقيقة موت فيصل الاول باستثناء ندرة من المؤرخين ، ولكن الحدث بحاجة الى فحص التقارير الطبية السويسرية عن موت فيصل الاول .
انتظروا الحلقة الرابعة
تنشر على موقع الدكتور سيّار الجميل بتاريخ 18 سبتمبر / ايلول 2018
https://sayyaraljamil.com/wp/