وصفَ أحد أشهر الشعراء العراقيين المتمدّنين قبل أكثر من ستين سنة مدينته ببيتِ العنكبوت وقد تركها مهاجراً ، وعندما سُؤل : لماذا أسميتها بهذا الأسم المثير ؟ أجابَ يائساً يأكله القنوط ، وهو يصف قائلاً : انني لم أجد في مدينتي منذ ولادتي الّا التعاسة والأحباط والخوف من كائناتٍ شريرةٍ تثير الاشمئزاز من حسدها وكراهيتها التي لا حدود لها ، وثمّة مجموعاتٍ من العناكب السامة منتشرة ، وهي تأكل بعضها بعضاً ، فيها القوي الجشع ، وفيها من يأكل الضعيف ، والأمّ فيها تختار أجمل أولادها لتأكله أمام الملأ ، وكلّ من يعمل فيها ويبدع ويتميّز على أقرانه ، تطارده العناكب السوداء الصغيرة كي تلدغه وتميته ، أو يتمكّن من الهربِ نحو مكان آخر في الوجود كي يبعد نفسه عن شرورها .. بيت العناكب ، مُختل الأوزان ، وفاقد للاخلاق ، فالعناكب غادرة ولا تعرف الا الخيانة وشحن المؤامرات ، وتعمل ليل نهار مترصدّة بعضها بعضاً ، وهي تنسج خيوطها التي تفرزها حول نفسها .. البيت لا تجدُ فيه الّا الحفر والنفايات والقبور والاشجار مجموعة أعواد يابسة تتوزّع فيها ، وهي قاتلة لكلّ جماليات الحياة وسنادين الزهور ..
قال هذا شاعرنا منذ أزمان في وصف مدينته التي كانت تبدو جميلة ساحرة من بعيد ، ولكنها تزدحم بالعناكب الصفراء والسوداء وبنية الالوان وهي تنتشر في كلّ مكان .. العناكب تملؤها الكراهية والاحقاد حتى ضمن الفصائل المشتركة منها ، لا الفةَ بينها ولا انسجام .. لا وفاء ، ولا اقدام ، ولا مروءة ، ولا صفاء .. لا يطيق أحدها ان يرى أي كائن سعيداً ، أو ناجحاً ، أو مبدعاً حيث بتآمر عليه مع بقيّة العناكب الفاشلة لتأكله أو تسحقه نفسّياً .. بيت غادره أهله موجات تلو أخرى ، فمن يهرب لا يخلص حتى من اللدّغات والطعنات ، ومن يأتيه أجله ويموت ، تتشفّى به حتى الحشرات ، ثمّ تنساه الجماهير ولم يعد يذكره أحد في بيئته الموبوءة .. في حين أنّ صيته الرائع وصلَ كلّ العالم ..
ان كان هذا يجري قبل زمن مضى بطولهِ وعرضهِ ، فما الذي جرى اليوم ؟؟ .. ماذا جرى بعد أن سحقت دبابير وعقارب وحشرات ذلك البيت ، وقد زحفت نحوه كائنات مشوّهة من البراري الموحشة لتقضي عليه قضاءً مبرماً .. فغدا البيت أطلالاً تأوي اليه الأشباح السوداء والضباع المالحة وتماسيح الغابات .. حتى الطيور والعصافير هربت من الأعشاش العالية .. لم يبق الستر يغطّي أبواب المدينة الكئيبة التي لم تغسلها حتى الدماء المسفوحة بلا ذنبٍ ولا جرمٍ ، فقد ماتت الآف مؤلفّة من الكائنات البريئة والمخلوقات الجميلة .. وهيهات ترتوي الضباع الهائجة حتى وهي تمتصّ عظام الأطفال او تبتلع وجودهم ..
سألَ سائل ، وكان قد غادرَ مدينة العناكب منذ زمن طويل : ألم تكن التجربة مريرة ، وذات طعم مرّ ، كي تتعلّم الكائنات في المدينة من الدرسِ شيئاً ؟ ألم تتوالد روح المحبّة من جديد بينها ؟ ألم تذهب الغيرة والأحقاد ونزعات الكراهية والجشع المستفحل دون رجعة ؟ يجيب أحد الشعراء المبدعين الجدد فيها ، وهو يعاني معاناته المريرة كمعاناة الشاعر الذي سبقه قبل نصف قرن : أين بيت العناكب اليوم ، وقد غدا حضيرة تزدحم بالضباع ؟ ماتت كلّ الضمائر ، ولا تجد الّا الطعن والقذفَ والتقليل من شأن الكبار والعقلاء والمبدعين وما أقلهّم وقد سحقتهم الايام الطويلة والليالي المعتمة .. ولا تسمعُ الّا الفجاجة والشماتة ، ولا ترى الّا التفاهة في كل جنبات المدينة التي اغرقتها الطفيليات والفايروسات والامراض ، اذ يهيمن الجهلاءُ على مصير المدينة المشوّهة ومشهدها المقرف ، وتضاعفت أعداد الحمير والتي أصابها الجرب ، وقد نشرت اشلاءها تحت الشمس في مرعى منطقة خضراء .. وما زالوا يهزوّن رؤوسهم ، ويتلمظون حتى في احلامهم ، أو يضربون أجسادهم ، أو يركعون ويسجدون نفاقاً وقلوبهم كأحجار مصفوفة تأكلها النار ..
قلت : كنت أظنّ أنّ سنوات عجاف طوال مرّت بهم تجعلهم يفيقون بعدها من نومة أهل الكهف ؟ أجابني : هيهات .. لقد أصبحنا في حضيرة مليئة بالضباع ، ضبع يتبختر بلحيته القصيفة وقطع اللحم بين أسنانه ، وضبعٌ يمارس الرذيلة بعمامته السوداء أم البيضاء ، وهو يهرش أعضاءه بلا وجلٍ ولا حياء ، وضبع يمسح يديه من سمنة ملطخة بالدماء بكلّ وقاحة ، وضبع يأكل الجيف في هذا المكان أو ذاك وهو لا يخشى حتى الكلاب المسعورة !! وضبع يهرب بعظام البهائم .. المشكلة أنّ كلّ الحشرات تريد أن تكون كالضباع تارة وكالعناكب تارة أخرى ، قلت له : والحدائق اين ذهبت والزهور ؟؟ أجاب والدمع يترقرق في عينيه : صدّقني يا عزيزي ، أننا لا نسمع عندنا اليوم الا الضوضاء والفوضى المنكرة ، ولا نرى الا المستنقعات الآسنة والازبال والجيف تملأ الامكنة ، وبات الناس لا تعرف أي زهور ، وبين حين وحين تسمع صدى يتردّد عن بكائيات وآهات صوت رائع من زمن البيت الجميل ، كانت تسمّى صاحبته : زهور حسين !!
نشرت بتاريخ 31 تموز / يوليو 2018 على موقع الدكتور سيار الجميل