ليس ثمّة ما يماثل ثقافة الفساد التي تعمّ العراق في أي مكان من هذا الوجود . إنها ثقافة منحّلة، ليست نقض سلوكيات، أو مجرّد انحرافات، أو مجموعة تجاوزات، يمكن أن تعالجها إصلاحات.. لقد غدت منظومة الفساد متكاملة ببشاعتها، وتعمّ كلّ البيئات العراقية اليوم، ولا تستوي أبداً مع قيم العراقيين وأخلاقياتهم التاريخية التي عرفها العالم قبل خمسين سنة .. والمشكلة أن غالبية الناس معترفة بها ومدركة تفاصيلها، ولكن لم تعد تنفع معها أيّة قناعات أو قرارات أو قوانين إصلاحات وترقيعات، إذ طاولَ الفساد حتى القضاء. قد يتفلسف بعضهم بأنّ الفساد مستفحلٌ في كلّ العالم اليوم، ونردّ عليه: ينفرد العراق بهذه البشاعة، كونه غارقا في تناقضاتٍ غدت مبرّرةً من الملايين. لم يقتصر الفساد على مؤسسّات الدولة المتعفّنة، بل أخذ ينخر في المجتمع نخراً مميتاً. وتفاقمت المشكلات التي يعاني منها العراقيون، بحيث يقف الجميع اليوم أمام مفترق طرق صعب، وقد فقدوا القدرة على تمييز الصواب والخطأ. مشكلتهم الحقيقية أنهم افتقدوا القدرة على أن يكونوا عراقيين حقيقيين، لهم شعورهم الموحّد تجاه وطنهم الذي كان ولم يزل ينزفُ نزفاً شديداً، وقد استهلكوا جرّاء هذه “الثقافة” التي لا مثيل لها في العالم، مذ افتقدوا شعورهم الموحّد بعضهم إزاء بعضهم الآخر.
ينتظر العراقيون أربع سنوات، من أجل معترك الانتخابات، فالناس تنتظر الإصلاح والامن والعدالة، وهناك من يترصّد منصباً، أو كسب جاه، وهناك ضباع تقتنص الفرص للنهب من المال العام، وهناك من يريد ممارسة السلطة والنفوذ ويشتري منصبه بملايين الدولارات، ووصل الحال في العراق إلى درجةٍ بائسة لما عصف به وبأوضاعهِ على امتداد سنوات طوال.. كثرت المساومات وشراء الذمم وتهريب ملايين رصدت للنازحين، وانتشرت الجريمة. وأتعجّب من رئيس وزراء يعلن عكس ما يصرّح به قبل 24 ساعة، ويسود التزوير في كلّ المرافق، بل وتجد مئات من المسؤولين أصحاب شهادات مزوّرة، وهم جهلة لا تواريخ احترافية لهم، ولا سير مهنية عندهم.. وقد تفشّت الرشوة بشكل لا يصدّق، وتسود المحسوبيات والمنسوبيات في كلّ الحكومة ومرافقها، فكلّ وزارة فيها تمتلئ بأقارب الوزير وقريباته.. في حين أكلت الانقسامات الطائفية المجتمع العراقي بشحنه سياسياً وإعلامياً بأبشع الأوصاف، وسادته أعرافٌ وتقاليد بدائية، وانتشرت فيه ثقافة الأحقاد والكراهية التي تصل إلى حدود الهمجيّة وأخذ الثارات، وانتشرت في المدارس والجامعات سلوكياتٍ لا تمّت للتمدّن بصلة.. ولم ينفع أيّ علاجٍ مع هذه الطبقة الحاكمة التي تسيّدت الموقف منذ 2003، وقد مارست كلّ الشناعات ضدّ العراقيين، بحيث لا يمكن للمرء أن يصدّق ما يروى ويكتب عن أحوال الفساد اليوم في العراق، وما مارسه من نهبٍ منظّم أصحاب النفوذ والمناصب، رؤساء ووزراء ووكلاء وسفراء ومدراء ونواب ومستشارون ومتنفذون وقوى مليشياوية ألصقت بها الصفات الرسميّة، وأضحت تمارس بطشها باسم القانون بكلّ عنت واستهتار وولاءاتها خارج الحدود. وأتمنى أن يردّ بعضهم مدافعاً، كون الدولة منشغلة ضد “داعش”، وكأن الوضع منذ 2003 كان زاهياً، وكأن الحكومة السابقة لم تتحمّل مسؤوليتها في الجريمة.. تعاقبت عدة حكومات منذ 2005، ولم نجد أيّ منجزاتٍ حقيقية تذكر مقارنة بحجم الهزائم والمجازر والإقصاءات والتخريب والتدمير والصفقات غير المشروعة ولجان التحقيق الوهمية، وحروب أهلية وإشاعة مفضوحة للطائفية والمحاصصات مع ممارسات علنية لها.
مارست الولايات المتحدة الأميركية سياسات خاطئة جداً في العراق منذ 2003، وقد سمحت بسحق المؤسسات وتمزيق نسيج المجتمع، كما سمحت لدول الجوار بأن تعبث بمقدّرات العراق. وكنّا ولم نزل نجد دور إيران الخطير في اختراقاتها، ولعب أدوارها كما تريد سلطات ولاية الفقيه في إيران. وقد ساعد على ذلك تأييد أحزاب وتيارات عراقية حاكمة السياسات الإيرانية، وهي دينية وطائفية، لا تمتلك أيّ شعور بالمواطنة، شيعية كانت أم سنيّة. الطابور الخامس هو الذي يحكم العراق اليوم، بعد أن نجح في ضياعه، والعبث بمقدّراته ونهب موارده بمليارات الدولارات.
السؤال الأهم: هل ثمّة إمكانية لمعالجة أوضاع العراق؟ قبل الإجابة، مستغربٌ من عراقيين فقدوا ضمائرهم وأخلاقهم، ورموا نزعتهم الوطنية والأخلاقية، بحيث لا يريدون أبداً سماع ما يستلزمه الواقع المضني، والمتمثّل بتغيير النظام الحالي، علماً أنهم يدرون تماماً بحجم الجريمة، والمأساة الكبرى التي اقترفها كلّ من تسلّم أية مسؤولية سياسية أو إدارية أو اقتصادية أو دبلوماسية، أو حتى تعليمية أو خدمية في العراق. تدرك الآلاف المؤلّفة من العراقيين جيّداً مدى الفساد المهول الذي اجتاح، ولم يزل، مؤسّسات البلاد وكلّ شرائح المجتمع، ويعرفون جيّداً حجم العقود الوهمية، وحجم الرشاوى والنهب من المال العام، وولادة فئة طفيلية سارقة للمليارات والملايين، وثمة من يسطو على العقارات وعلى أراضي الدولة وأملاكها.. ناهيكم عمّا يمزّق العراق من عصابات وأعمال القتل والجريمة المنظمة وحجم الاختلاسات، وقد استحدثت هذه الثقافة لغة لها مفرداتها القبيحة، وأصبح العراقيون يتداولونها.
هل ينتخب العراقيون في الانتخابات المقبلة عناصر من هذه الطبقة الحاكمة نفسها، والتي عبثت بمقدّرات العراق، وحطّمته ومزّقته بجهالتها وغبائها وانعدام أخلاقها، وقبلت الرضوخ لقوى خارجية، ولم تستطع ضبط الأمن والنظام في البلاد، بحيث انتشرت الفوضى والتفجير وقتل الناس بالآلاف، وسمحت لـ”داعش” أن يسيطر على ثلث العراق، وعلى أعرق مدنه، والتي تمّ سحقها سحقاً.. وقد فشلَ نظام الحكم برمّته في كلّ المجالات، إذ قاد العراق إلى التبعيّة والتخلّف والانقسام، ونرى كم تردّى التعليم بشكلٍ لا يوصف، وصرفت ملايين الدولارات على تحسين الكهرباء منذ سنوات من دون جدوى، وذهبت الأموال سدىً، وآلت الحالة من سيئ إلى أسوأ.. وهكذا بالنسبة للخدمات المعدومة في عموم العراق. آلاف المشروعات والشركات الوهمية التي تعاقدت معها الحكومة قد تقاسمت معها، فتبدّدت الصفقات في الجيوب وسرق المال، ولم تحقق على الأرض شيئاً.
هنا مناشدة لكل العراقيين الغيارى على وطنهم ومصالح أهلهم ومستقبل أجيالهم أن يرفضوا رفضاً حقيقياً هذا النظام برمته، وأن يرفعوا صوتهم عالياً ليسمعه الجميع، ليس لمجرد إدانة النظام وحسب، بل للدعوة إلى تغيير هذه الطبقة الحاكمة بقضّها وقضيضها، وتقويض كلّ ما ترتّب ما بعد 2005 من نظام سياسي فاسد، مارس التزوير من أجل البقاء، وأشاع منظومة فسادٍ بكلّ ثقافتها البشعة وجرائمها الخطيرة وسياساتها العفنة ضد الناس ، وأن يسعى الجميع للعمل من أجل انبثاق حكومة مدنية مؤهلة دولياً، تستمد مشروعيتها من الشعب وحده، بعيداً عن صناديق اقتراع مزوّرة.. وكما كنت أطالب منذ سنين، سأبقى أنادي بتأسيس حكومة إنقاذ وطنية مدنية، تحمي أولاً استقلال البلاد، وتؤمن ثانياً الأمن، وثالثاً محاسبة المجرمين والفاسدين من هذه الطبقة الحاكمة علناً.. يقول نائب في البرلمان “الجميع غطس في الفساد، ولا يستثني منهم أحداً بمن فيهم هو نفسه”.
أخيراً، لا يمكن تغيير الأوضاع الفاسدة في العراق إلا بتغيير الوجوه السائدة، وتغيير الدستور، وحلّ الأحزاب الدينية والطائفية، وحل القوى الأوليغارشية والمليشيات والجماعات المسلحة المرتبطة بإيران، وأن تشرع حكومة مؤقتة تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فهل هناك من ينقذ العراق من هذا المأزق التاريخي؟ متى تبدأ المرحلة الأخرى من استراتيجية أميركا في المنطقة؟ ومتى يتولد الوعي جيداً لدى كلّ العراقيين بكلّ هذه الدروس المضنية؟ ان المرحلة القادمة حبلى بالاحداث ، وسيتم التغيير بعد كل هذا الخراب كما تدل عليه كل المؤشرات .
نشرت في العربي الجديد ، 21 آب / اغسطس 2017 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل