اكتب لكم هذا ” المقال ” وانا في الطائرة التي عدت فيها عبر الاطلنطي الى كندا من رحلتي الاخيرة قبل يومين .. وبقيت قصة نزار والقطة الاندلسية السوداء تلازم مشاعري وتفكيري .. عندما نشرت ذكرياتي في لندن مع الشاعر نزار قباني ، والمنشورة في كتابي ” نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية ” ، لم اكن أعلم أن الرجل كان صديقاً لاعلامي عربي قديم أصبح في ما بعد سفيراً ووزيراً في الاردن هو الاستاذ سمير مطاوع .. الذي التقيت به صدفةً قبل أسبوع من خلال مشاركتنا في واحد من المؤتمرات .. وقد جلسنا نحتسي القهوة عند الضحى ، وتذكرّنا معاً نزار وتداولنا بشأن قصيدة له أسمها ” قصر الحمراء ، وكنت أعرف أن نزاراً قد تغّزل فيها بامرأة اسبانيولية عند مدخل القصر ، ولم يسعفني نزار بقصّته معها وقت ذاك ، لكثرة قصصه .. حكى لي سمير كيف آمن نزار بتناسخ الارواح جرّاء ما حصل له أمامي ، اذ كان سمير قد التحق من مدريد برفقة وفد من الدبلوماسيين العرب لزيارة الاندلس ، بطلب من صديقه نزار .. في غرناطه مشوا جميعاً نحو قصر الحمراء لزيارته ، وكان نزار وسمير يمشيان بعد نزولهما من الباص ، وقد دخلا تلك الحدائق الغناء التي تحيط بالقصر ، والتي يسميّها الاسبان بالجنان ، ومنها جنة العريف ، وباحة الرياحين ، وخصوصاً أمام قصري قمارش الكبير الرياض السعيد وقصر الاسود .. جلس الاثنان على مصطبةٍ ، وجلس ثلاثة من السفراء العرب الاخرين على مصطبةٍ مقابلة ، وبعد برهة ، أطلّت من بين الاوراد ، قطّة سوداء كالحة بعيون خضراء براقة ، ووقفت تنظر ملياً الى نزار دون غيره ، ومن ثمّ قفزت نحو حجره تشمّه .. كان نزار يلبس قميصاً ، وقد فتح أزراره العليا ، فكانت القطة السوداء تشمّ حتى صدره ، وهي تنظر اليه وهو ينظر اليها .. وبعد هنيهات من الوقت ، نزلت عنه ، والتفتت تتأمّل فيه ، ثم اختفت بين الزهور ، وقد دخلوا القصر وقد شغلت باله قصة تلك القطة .. وعاد نزار الى الفندق ، وهو يفكر بقصة القطة السوداء ليكتب قصيدته عن قصر الحمراء ، مؤمناً بأن تلك التي استقبلته على بابها ، وهي تشمّه ما هي الا امرأة عربية من أصل دمشقي تناسخت روحها عبر مئات السنين ، لتصل الى هذه القطة .. هذه ” القصة ” لم يقصصّها عليّ نزار في التسعينيات ، بل حكاها لي قبل ايام الصديق الدكتور سمير مطاوع والعهدة فيها عليه .. قال نزار في قصيدته الرائعة :
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا
ما أطـيب اللقـيا بلا ميعاد
عينان سوداوان في جحريهما
تتوالـد الأبعاد مـن أبعـاد
هل أنت إسبانـية؟ ساءلـتها
قالت: وفي غـرناطة ميلادي
غرناطة؟ وصحت قرون سبعة
في تينـك العينين.. بعد رقاد
وأمـيّة راياتـها مرفوعـة
وجيـادها موصـولة بجيـاد
ما أغرب التاريخ كيف أعادني
لحفيـدة سـمراء من أحفادي
وجه دمشـقي رأيت خـلاله
أجفان بلقيس وجيـد سعـاد
ورأيت منـزلنا القديم وحجرة
كانـت بها أمي تمد وسـادي
واليـاسمينة رصعـت بنجومها
والبركـة الذهبيـة الإنشـاد
ودمشق، أين تكون؟ قلت ترينها
في شعـرك المنساب ..نهر سواد
في وجهك العربي، في الثغر الذي
ما زال مختـزناً شمـوس بلادي
في طيب “جنات العريف” ومائها
في الفل، في الريحـان، في الكباد
سارت معي.. والشعر يلهث خلفها
كسنابـل تركـت بغيـر حصاد
يتألـق القـرط الطـويل بجيدها
مثـل الشموع بليلـة الميـلاد..
ومـشيت مثل الطفل خلف دليلتي
وورائي التاريـخ كـوم رمـاد
الزخـرفات.. أكاد أسمع نبـضها
والزركشات على السقوف تنادي
قالت: هنا “الحمراء” زهو جدودنا
فاقـرأ على جـدرانها أمجـادي
أمجادها؟ ومسحت جرحاً نـازفاً
ومسحت جرحاً ثانيـاً بفـؤادي
يا ليت وارثتي الجمـيلة أدركـت
أن الـذين عـنتـهم أجـدادي
عانـقت فيهـا عنـدما ودعتها
رجلاً يسمـى “طـارق بن زياد”
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل