“على زعمائنا في المنطقة أن يكونوا أذكياء جداً في تعاملهم مع التنين القادم”
دونالد جون ترامب رجل أعمال أميركي، دخل المعترك السياسي أخيراً، ليغدو فجأة رئيساً منتخباً للولايات المتحدة الأميركية عن الجمهوريين بعد معركةٍ انتخابية مثيرة للجدل ضد هيلاري كلينتون عن الديمقراطيين، إذ كان ترامب يتقلد عدة إداراتٍ لشركات قابضة ومشروعات ومصالح تجارية. ويتبادل أتباعه نيته لإخلاء نفسه لمنصب الرئاسة. وكان ناجحاً في بناء امبراطويته المالية التي نشر اسمه عليها في كلّ العالم. ما يهمنّا قوة تحوّلاته التي يخطّط لها بينه وبين نفسه، ويحاول تحقيقها بأيّ ثمن. ولم يكن غامضاً، بل صريحاً لا يخشى من الآخرين، ويعتزّ بنفسه كثيراً، ويفتخر باسمه، وقد تزوج ثلاث مرات، مكرّساً حياته للأفكار التي يؤمن بها، وقد بلغ السبعين عاماً.
لم تمرّ أيّة انتخابات أميركية سابقة بمثل هذا الماراثون العاصف الذي كان بطله ترامب بلا منازع، وقد صدم العالم كله بفوزه، وسجّل الصندوق الانتخابي كلمته الفاصلة، لكي يعد فوزه المثير علامة فارقة في التاريخ الأميركي. ولكي نشهد تاريخاً جديداً، يعبّر حقيقةً عن كلّ ما يجري في العالم من تفاقم للتناقضات وضياع للقيم وانهيار في أساليب الحياة والتفكير، مقارنة بما كان سائداً في القرن العشرين.
النظام الليبرالي الغربي برمته في خطر، بعد أن نضج منذ مائة سنة، إثر الحرب العالمية الأولى. ولم تهزّه الحرب الباردة مع المنظومة الاشتراكية، ولكنه بدأ يهتز من دواخله، منذ أعلن هانتينغتون عن صدمة الحضارات قبل 25 عاماً، لكي تعلن قوى جديدة غاضبة ومحتدمة على نتاج الغرب من قيم ليبرالية وانفتاح، لتقول بالتغيير نحو اتجاهات أخرى، كما ندرك ذلك من تعابير قالها ترامب، ليس كما يفسرها بعضهم إنها مجرد دعايات انتخابية، بل إنها تعلن عمّا يدور في أعماق تفكيره المخالف لكل الراهن، وهو يتمتع بصراحة، ومن دون وجل. وعليه، أخالف كلّ الذين خرجوا علينا، وقالوا إنّ الرجل لا خبرة سياسية له، ولم يحسن قوله، إذ وجدته، منذ صعوده على المسرح السياسي منافساً، يتمتع بقوة الذئب، ليس في المخاتلة، بل في الوثوب، وليس في الانصياع بل في الهجوم، وليس في التباكي، بل في الوقاحة، وليس في الجهالة، بل في السفاهة الذكية .. ناهيكم عن تجربته في إدارة المال والأعمال، فكيف سيتمكن من صنع القرار المناسب؟
يأتي ترامب اليوم معبّراً عن إرادة جيل مهني جديد، فاقد للعمالة، يختلف تفكيره عمّا ساد سابقاً من أجيال القرن العشرين، ولكن الخطأ ليس فيه أو في السياسات الأميركية العقيمة التي ارتكبت أخطاء غبية، صنعها رؤساء سابقون، بحيث نشروا ظواهر مميتة صادمة للحياة، بصناعتهم المستبدين والفوضى والإرهاب والحروب، وأحدثوا في العالم قوميّاتٍ، لها نرجسيتها، وأماتوا حريّة الشعوب، وباركوا الحركات الدينية والطائفية العنيفة، وأشعلوا صراعات الأعراق والمذاهب، وفتحوا أبوابهم لجحيم المهاجرين الذين يلوذون بالفرار نحوهم، ساحبين معهم كلّ أوبئتهم وثقافاتهم الرثة وأساليبهم غير الشرعية، ليأتي ترامب اليوم في لحظةٍ تاريخيةٍ حاسمةٍ رافضاً ما حدث رفضاً قاطعاً، فيشكل ظاهرة جديدة برزت فجأة لتخيف دولاً وزعماء وقوميات ومنظمات، عندما قال مردّداً “سأعيد لأميركا مكانتها”، فكان ذكياً في سحب البساط من تحت أرجل ليس الديمقراطيين وحسب، بل في سحب من كان يقف فوق ذلك البساط المهترئ، ويتركه بعيدًا، وأغلبهم من فئات العمال والقوى الفاعلة التي عانت من تراجع المشروعات الصناعية الكبرى، جرّاء سياسات الديمقراطيين البلهاء. ربما يختلف المرء معه أو يقف ضده بسبب رعونته أو مجابهته، لكنه، في الحقيقة، جواب تاريخي للسياسات البليدة التي مارستها أميركا منذ سقوط المنظومة الاشتراكية، وهو أيضاً ظاهرة عبرت عن نتائج أفرزها احتدام أجيال جديدة خابت آمالها، وهي تتطلع إلى استعادة قوة أميركا ثانية في العالم. ومع غيبوبة النخب والفئات المخملية في المدن، تتبلور القوى الشعبوية في الطبقات الوسطى والعاملة في أصقاع متنوعة، تطالب بزعامات مشاكسة، تنادي بثورات التحدّي ضدّ كلّ الاهتراءات في العالم، مع شعور الأميركان بغيبوبة زعاماتهم القوية إزاء غيرها في العالم، مثل بوتين روسيا، وأردوغان تركيا، وأوربان هنغاريا، وترودو كندا. ويبرز فجأةً ترامب أميركا، عندما اختفت فرص العمل والوظائف واعتمدت الشركات على عمالات أخرى، بسبب تقليل الإنفاقات وضعف الإنتاج الأميركي في السوق العالمي، كالذي أحدثته العولمة التي جنت منها الشركات والمؤسسات التجارية الأميركية وحلفاؤها أرباحاً غير متخيلة، ومنها مؤسسة ترامب نفسه الذي خبر الألعوبة، فزجّ نفسه ليكون جمهورياً، فنزل إلى الحلبة بأمواله، ليعبّر عن هشاشة الديمقراطيين الذين بقوا لسنوات طوال، وهم يشهدون مأساة الإرهاب في العالم وحروب الأهالي وقصف المدن الآهلة وهشاشة صنع القرار وميوعة حسم تداعيات السياسات الأميركية في الشرق الأوسط.
لم يكن للديمقراطيين، كعادتهم، إلا التنظير في الهوية والبيئة والتباكي على المثليين، ومكوكية وزير الخارجية الفارغة، والكذب في إطلاق الوعود من دون تنفيذها. ومن الفجيعة أن يذوي كلّ اليسار إثر اختفاء المنظومة الاشتراكية، وانساقت القوى الثورية القديمة في ركاب الديمقراطيين والوسطيين والليبراليين، ووصل الأمر إلى أن يكونوا من الليبراليين الجدد. فما المتوقع من ترامب؟
ثمّة مفاجآت قوّية وصاعقة، في مقبل الأيام، كجزء من ثورة التحدّي وطور الاحتدام، وخصوصاً مع أوروبا، ومع الشرق الأوسط ، وستجري تحولات قوية بتحجيم دور إيران في المنطقة، وستجري متغيرات قوية في السياسات الاقتصادية، وستهتز منظومة الأمن في العالم، وسيجري كلّ شيء بأثمان، ربما تكون باهظة، ناهيكم عن إعادة التفاوض في الاتفاقيات التجارية الحالية، وكيفية التعامل مع كندا التي يحكمها الليبراليون، وربما الخروج عن الاتفاقيات السابقة إن لم ينصع الآخر لمطالب ترامب. المتوقع أن يقوم بتحجيم أدوار المتحالفين مع الولايات المتحدة، إذ سيحول حلبة السياسة إلى سوق بضاعة يديرها بنفسه. وهنا سيلعب ترامب بالنار إذا ما غامر بذلك، إذ سيمرّ اقتصاد العالم بمخاطر كبرى. وإذا كان ترامب يفكر بأن لكل شيء ثمنه، فربما سيخضع الميديا والاتصالات وثورة المعلومات وشبكات التواصل لسيطرته الأميركية، وربما فرض قيوداً عليها، أو طالب ببيعها بأعلى الأثمان. كما أن سياسات أميركا الخارجية ستختلف كلياً عما كانت عليه، ولا ندري من سيكون مسؤولاً عن هذا الميدان الحيوي، ومن هم الصقور الذين سيعتمد عليهم ترامب، في ترتيب العلاقات الخارجية بالنسبة لروسيا والصين وأوروبا، وبالنسبة لمشكلات الشرق الأوسط الصعبة القديمة والجديدة.
لم تعد أميركا كما كانت عليه في بدايات القرن العشرين، تحمل مبادئ ولسن في الحريات وتقرير المصير، ولم تعد الشفافية تنفع، ولا القوة الناعمة، بل سنسمع سياسة الإهانة واستعراض القوة الخشنة. وعليه، هل باستطاعة ترامب مسك العصا الغليظة التي يتوعّد بها هذا وذاك؟ هل سيمتلك طاقماً من الخبراء الذين يمكنهم ترجمة أفكاره في الواقع؟ هل سينجح في استعادة أميركا دورها القوي، لا المستعرض؟ هل ستكون سياسته متوحشةً وصريحة، أم تكون ناعمة وخبيثة؟ هل سيترجم أفكاره الصاخبة بصدد المهاجرين؟ هل سينجح في إيجاد فرص العمل للأميركيين؟ ما سياسته إزاء جيرانه الكنديين على عهد الليبراليين؟ ما سياساته إزاء أوروبا التي يريد أن تحمي نفسها بنفسها؟ هل ستبقى سياسات أميركا السابقة التي اتبعت في الشرق الأوسط؟ هل سيبقى صناعة الفوضى والميوعة البليدة والتمويه على الإرهاب والتمتع بما يجري من تفكيك وانقسامات؟ هل سيلغي الاتفاق النووي مع إيران؟ هل سيتبع سياسات مغايرة في العراق وسورية؟ ما سياسته إزاء إسرائيل والفلسطينيين؟ وهل يستطيع البقاء في الحكم إن نجح في تغيير اتجاه العالم؟ وهل يستطيع أن يبقي على حياته، وهو في السلطة، إن بدأ تطبيق أفكاره نحو الاتجاه الآخر. إلى غير هذه الأسئلة التي لا يجد أغلب الناس أجوبة عليها إلا بعد حين. وأخيراً، أقول إن على زعمائنا في المنطقة أن يكونوا أذكياء جداً في تعاملهم مع التنين القادم.
نشرت في صحيفة العربي الجديد / لندن ، السبت 19 نوفمبر / تشرين الثاني 2016 . ويعاد نشرها على مواقع الدكتور سيار الجميل