حدثني الاخ الفنان حمودي الحارثي في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1997 ، اذ كنت قد التقيت به في واحد من مطاعم العاصمة الاردنية عمّان قبل قرابة عشرين سنة .. حدّثني عن رحيل استاذه الفنان الراحل سليم البصري والذي كانت المنية قد عاجلته في 8 مايس / ايار من ذلك العام .. حدثني الحارثي ، وهو يكابد حزنه وألمه على نهاية البصري المأساوية ، وكيف لم يجد أحداً يرفع تابوته ويمشي في جنازته التي لم يكن فيها غير عبوسي واثنين آخرين ، وكأن سليم البصري لم يزرع البسمة طوال سنوات على ثغر العراقيين ، ولم ينتزعهم من مكابداتهم الصعبة ، ولكنهم ان لم يعرفوه في نهايته المؤلمة ، فهم لم يعرفوه حتى بعد مماته بسبب مجافاة السلطات له .. وتسعفني ذاكرتي أيضاً عندما مات العديد من المبدعين العراقيين الكبار في الشعر والفن والتاريخ والقانون والتشكيل والطرب والادب وميادين اخرى ، فلم يحفل لهم أحد .. انهم يصبحون عالة على انفسهم في شيخوختهم ، ويغادرهم الناس ، وهم يتحسرون على شبابهم ، وقد غدوا يتضورون من الفاقة والحرمان والعوز ولا احد يهتم بهم ، او يكافئهم ، او يتفقد أمراضهم ويعمل على ابقائهم اعزاء كبار النفوس والامثلة لا تعدّ ولا تحصى .. كنت اتمشى يوما في الصالحية قرب دار الاذاعة وقد خرجت من المنصور ميليا ، فوجدت الفنان الرائع رضا علي رحمه الله عند محطة الباص يتشبّث بباب باص مصلحة نقل الركاب ، ولكن شبابا مستهترين دفعوه ، فوقع أرضا مع اهانة قاسية بلعها وسكت متحسّرا ، وكان نظره ضعيفاً ، فانكسرت نظاراته ، وقام من الارض متألمّاً بعد ان ركضت نحوه وساعدته وهو في اشدّ حالات اليأس ، وقد قمت بايصاله بسيارتي الى بيته ! ولن اصّرح بما قاله لي في تلك اللحظة الاليمة !
ان المبدعين العراقيين لا يلقون اي اهتمام في مجتمعهم ، وما ان تنطفئ أسرجة حياتهم ، فأمّا يموت ذكرهم ، وقد تناساهم الجميع ، وأمّا تضجّ الدنيا ، وتنقلب الاسارير ويصبح الفقيد الراحل من أعاظم الناس ، ومن اوفى الاصدقاء لبعضهم ، ويتبرّع الجميع بالحزن والاسى ، او أنهّم يشاركون في العزاء والبكاء ويسارعون بتدبيج المقالات في لحظة زمنية تمرّ وعندما تتوالى الايام ، يصبح هذا الراحل او ذاك مهملاً او نسيّا منسيا ! انها ازدواجية المعايير لدى الشعب العراقي الذي لم أجده موّحدا وله كلمته الواحدة في تقييم رموزه ، ومنح الاعتبار الوطني لجميعهم ، مهما اختلف الناس في شأنهم .. ان أهواء الناس في العراق تميل الى حيث مالت اتجاهات السلطة فيه ، فان رضيت السلطة عن شخص رضوا عنه ، وتوددّوا له ، وان وقفت السلطة منه موقف الضدّ والتجاهل تناهوا منه ، وان حذرت منه انفضوا عنه خوفا ورياء ومداهنة .. وقد وصل الحال اليوم الى اسوأ درجات التمييز بين هذا وذاك ، اذ يغلب الوازع الطائفي على الناس ، فيغالب البعض من المتشددّين الطائفيين في تلميع هذا والتقليل من شأن ذاك ، بل ويصل الامر الى جعل هذا في مصاف القديسين وهو لا يستحق ذلك ، الا لكونه محسوب على هذا الطرف ، وينالون او يتجاهلون اسماً آخر لكونه ينتمي الى طرف آخر .. وهذا ما يذكرني بمن كان يداهن السلطة على العهد السابق ازاء من يقف مستقلاً او معارضاً لها ، بحيث يتداول الناس تهماً ملفقة واساءات لا حقيقة لها ابداً عن فنان او اديب او مثقف مبدع ، فقط لكونه لا يجاري الوضع القائم .. وهذا ما نلحظه اليوم ، فما ان يبدي أي رمز او مبدع رأيه المضاد للوضع العام يرمى في سلة المهملات .. حكى لي يوماً احدهم وهو يعدّ نفسه اكاديميا ومثقفاً ، ولكنه طبل فارغ لا تجده الا منفوخاً ، حدّثني عن تهم ملفقة ضدّ واحد من علماء العراق المشهورين ، اذ اتهمّه بتهمة تعتبر كسر عظم في العموم ، قال انه كان يتقاضى راتباً من السفارة الامريكية في بغداد لقاء تجسّسه ، قلت له : وما حيثياتك وأدّلتك وقرائنك ضدّه ؟ قال : انني سمعت ذلك من فلان ! قلت له : ولكن فلان كان خصماً لدوداً له لاسباب شخصيّة ، وهذه تهمة خطيرة والرجل في رحاب الله ، فسكت على مضض ، ولكن احجية هذا تناقلها من كان حاضرا !
سئمت جدا من تصرفات بعض العراقيين وأهوائهم وامزجتهم في ممارسة بعض عاداتهم السقيمة ، وتبيان مظاهرهم واستعراضاتهم الكاذبة ، وأغلبها لا حقيقة لها وغير واقعية ولا حقيقية ابدا .. وهي تدّل دلالات فاضحة على غرابة سايكلوجياتهم ، وغباء تصرفاتهم ، عندما يرفعون أسم هذا الى عنان السماء ، أو عندما يجعلون اسم الاخر في اسفل سافلين ! ولم تكن الامثال الشعبية العراقية المتوارثة الا حصيلة دروس لما اتصف به الناس في هذا المجتمع الذي سحقته التناقضات سحقا .. فهم لا يهتمون بهذا الشخص المبدع ولا ذاك العملاق الكبير ، ولا بتلك العلامة البارزة ، ولا يهمّهم هؤلاء في حياتهم ، ولم يكلفوا انفسهم عناء السؤال عن شيخوختهم ، ولا البحث عن معاناتهم ، ولم يقفوا معهم في محنهم القاسية عند نهايات حياتهم ، وخصوصاً عندما تبدأ حياة اولئك العمالقة بالذبول ..فلم يسعوا الى مساعدتهم ، ولا الى تلبية حاجاتهم ولا المساهمة في شراء أدويتهم ، ولم يراعوا صحتهم ، ولم يمنحوهم حبهم او محبتهم الا عند سماعهم بموتهم ، ليجعلوا من هذا ” الحدث ” كرنفالا لاحدهم ولحظة صمت لا مبالية لأحدهم الاخر .. هذا يشيعونه باعلان شهادات الوفاء واقامة المهرجانات الخطابية ، ونشر كلمات التأبين ، وذاك لا يجد احدا يواريه الثرى !
وعليه قال العراقيون في امثالهم : “ من يموت فلان تطول كراعينه ” ، اذ تبدأ العواطف تشتعل وتظهر الاحزان ، وتنهمل الدموع ، ويضجّ الجميع بالبكاء والنواح .. وتبدأ تبثّ الصور، وتذاع الخطب ، وتنشر المقالات عن شخص مبدع يجعلونه واحدا من اصدقائهم ، وقد كان الرجل قبل ايام يعاني دون ان يلتفت اليه احد ، وعاش سنواته الاخيرة وهو عزيز النفس لم يطلب من أحد شيئاً وهو في ديار الغربة ، والكلّ يعلم كم هناك مئات او الوف التافهين اصبحوا اليوم من اصحاب الملايين ، وهم لا تاريخ لهم ، ولا خدمات لديهم ، ولا ابداعات منهم .. اننا ندري بأنّ الطبول الفارغة تسكت ، والجعجعة سرعان ما تنتهي فورتها ، اذ يلحق ذاك المبدع بقافلة المبدعين العراقيين الذين لم يروا في حياتهم الا الجحود والتجاهل والتنكر والانكار ، ولكن عند رحيلهم تضرب الخدود وتشقّ الجيوب وتبرز الذكريات وتنشر الصور لتبيان مدى الوفاء والاخلاص ، وتستعرض الصداقات مع الراحل وتتمظهر الاستعراضات الشخصية ، وكأنّ هذا الراحل لم يعرف غيرهم .. انها من اسوأ عادات العراقيين ، ان ميزوّا احدا قدسوه ، وان كرهوا احداً تجاهلوه ، وان خالفهم أحد عادوه ، وان حسدوا أحداً قاموا بتشويه سمعته وقللوا من شأنه بين الناس .. ليس لهم الا الزوابع الفارغة والمظاهر الخادعة والعواطف الكاذبة .. يمثلون دور الشاكي في حياة هذا ، ويمثلون دور الباكي في ممات ذاك ..
انّ الاشجار اليانعة ان لم تزوّدها بالماء ، فسوف تذوى وتتيبّس وتموت قال فولتير : ” ما نفع ان يمدحني الناس بعد مماتي وهم ينكرونني في حياتي ” . اتمنى عليهم لو كانت لهم ضجتهم الكبيرة من اجل الوقوف مع أي مبدع عراقي ، وهو حي يرزق في شبابه او كهولته او شيخوخته بعد ان صرف حياته في خدمة العراق واهله .. واتمنى عليهم لو كرموه أعزّ تكريم في حياته ، ومنحوه عواطفهم الساخنة في أيّامه الصعبة .. وأتمنى أن يمنحوه ما لديهم من دون نفخةٍ كاذبةٍ ومظاهر بليدة وادعاءات فارغة .. وأن يتساوى جميع المبدعين في تكريمهم سواء في حياتهم او في تأبين ذكراهم اثر رحيلهم .. وكلّنا يعرف نهايات شخصيات ورموز عراقية امثال الرصافي والصافي النجفي والكاظمي والسياب وجميل بشير وعبد العزيز الدوري وعفيفة وزينب وفؤاد سالم وغيرهم كثير ..
وأخيراً اقول بأنّ ما نشهده من حالات في المجتمع العراقي لم نشهد ذلك ابداً في ايّ بلد عربي آخر .. اذ يكفي مثلاً احتفاء كلّ أبناء شعب مصر برموز مصر نسوة ورجالاً ، وجميعنا يشهد كيف يوّدع الناس فيها رموزهم التي يعتزون بهم جميعاً غاية الاعتزاز .. فهل يدرك أهلنا في العراق وكلّ العراقيين في شتات العالم مغزى هذا الكلام ؟
نشرت في افتتاحية الزمان ، لندن ، العدد 5539 الخميس 26 من محرم 1237هـ – 27 من اكتوبر / تشرين اول 2016