كنت قد كتبت عن ام كلثوم التي تعد ظاهرة عربية لا تتكرر بسهولة ابدا ، ولقد اشار اكثر الباحثين والنقاد الى ان ذروة صوتها واعظم اغنياتها وقصائدها التي شدت بها كان خلال الاربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين ، وهي مطربة حقيقية جمعت موهبة الصوت وحسن الاداء وعمق النفس وروعة الاجادة والاحساس العظيم .. زارت العراق مرتين عام 1933 وعام 1946 ، وقلدت وسام الرافدين وعشقها العراقيون وكتب عنها الشعراء والادباء وتوثقت علاقتها بزعماء العراق القدماء وخصوصا بالوزير والمهندس المبدع الاستاذ ارشد بيك العمري .. وكرمّها البيت الهاشمي الحاكم كثيرا ، ولكن يقال انها لم تكن وفية العهد معهم ! وزارت سوريا ولبنان خمس مرات في اعوام : 1933 و1955 و1957 و1958 و1959.. وتوثقت علاقاتها بالسوريين واللبنانيين ، وخصوصا مع الزعيم الوطني فخري البارودي ..
كان كلّ من العراق وبلاد الشام يشقّان طريقهما النهضوي ابان الخمسينيات ، ويقف عليهما رجال اذكياء لهم مهاراتهم واذواقهم وحسن تصرفاتهم وروعة ادائهم واختياراتهم وقوة شخصياتهم ومحبتهم لاوطانهم وشعوبهم لا كما هو حال المسؤولين اليوم الذين اغرقوا كل من سوريا والعراق بدماء شعبيهما الطيبين .. اخترت لكم اليوم القصيدة التي اعشق سماعها دوما بصوت ام كلثوم ، وهي رباعيات الخيام التي اجاد ترجمتها الشاعر احمد رامي ، وقام بتلحينها الموسيقار رياض السنباطي ، متمنياً التأمل في المعاني الخصبة للرباعيات .. وبالاخص في وقفة ام كلثوم وهي تشدو :
لا توحش النــــفس بخوف الظنون
واغنم من الحاضر أمن اليقين
فقد تســـاوى فى الثرى راحل غدا
وماض من الوف الســنين
نعم ، انها حفلة متميزة ، اذ نجحت ام كلثوم بتقديم القصيدة باسلوب غاية في الروعة والجمال والتلون بالمقامات العليا مع الايقاعات الجميلة .. متعاطفة مع اجواء دمشق في 27 حزيران / يونيو 1955، وعلى مسرح حديقة مدرسة اللاييك ، فهي من أهم الحفلات التي أقامتها بدمشق بدعوة من جمعية المبرّة النسائية التي تبرعت لها بمبلغ قدرة عشرة الاف ليرة سورية . وكانت تلك الحديقة تتسع لثلاثة آلاف مقعد ، ولكن الحضور تجاوز خمسة الآلاف وكان على رأس الحضور وقت ذاك رئيس مجلس الوزراء صبري العسلي والوزراء خالد العظم، وعبد الباقي نظام الدين، ورئيف الملقي، وحامد الخوجة، وفاخر الكيالي، وليون زمريا، ومأمون الكزبري، ووهيب الغانم، فضلا عن بعض أعضاء مجلس النواب وعلى رأسهم الزعيم فخري البارودي، وغاب رئيس المجلس ناظم القدسي عن الحفل لأسباب التزاماته . وكان ضيف الشرف الشيخ فهد السالم الصباح وزير الأشغال العامة في الكويت الذي حضر إلى دمشق خصيصاً ليسمع صوت أم كلثوم.
أتمنى على كلّ من يهوى سماع ام كلثوم رحمها الله ان يصغي الى ادائها في غناء رباعيات الخيام هنا في هذا الحفل الرائع بدمشق قبل اكثر من ستين عاما :
سمــعت صـوتا هاتــفا فى السحـــر
نادى من الغـيب غفاة البشر
هبوا املأوا كــأس المـنى قبل أن
تملأ كأس العـــمر كفّ القدر
لا تشـــغل الـبال بماضي الزمان
ولا بـــــآت العيش قبل الاوان
واغنم من الحــاضـر لـذاته
فلـــيس فى طبع الليالى الامان
غد بظـــهر الغـــيب واليوم لــي
وكم يخيب الظـن فى المقــــبل
ولســت بالغافـل حــتى أرى
جمال دنياى ولا أجتـلى
القـــلب قـــد أضناه عشق الجــمال
والصدر قد ضاق بما لا يقــال
يارب هل يرضـــيك هذا الظما
والماء يـنساب أمامى زلال
أولى بهذا القـــلب أن يخفــق
وفى ضـــرام الحب أن يحرق
ما أضيع الـيوم الذى مـر بـى
من غير أن أهوى وأن أعـشق
أفـــق خفـــيف الــظل هذا السـحر
نادى دع الـــــــنوم وناغ الوتر
فــــما أطـــال الـنوم عـــــمرا ولا
قصر فى الأعمار طول السهر
فـــــكم تــوالى اللـيل بعد النهـار
وطال بالأنـجم هذا المدار
فامش الهـــوينا ان هــذا الثرى
من أعين ساحـــــرة الإحورار
لا توحش النــــفس بخوف الظنون
واغنم من الحاضر امن اليقين
فقد تســـاوى فى الثرى راحل غدا
وماض من الوف الســنين
أطفىء لظى القلب بشهد الرضاب
فإنما الايام مثل السحاب
وعــــيشنا طيف خيال فنل حظك
مـنه قبل فوت الشــباب
لبست ثوب العيش لم استشــر
وحــرت فيه بين شتى الفكر
وسوف انــــضو الثوب عنى ولم
ادرك لمـاذا جئت اين المفر
يا من يحـار الفهم فى قدرتك
وتطلب النفس حمى طاعـــتك
اسـكرنى الإثـم ولكننى
صـــحوت بالآمال فى رحمتك
إن لم أكن اخلصـــت فى طاعتك
فإننى أطمع فى رحمتك
وانمـا يشـــــفع لى اننى قد
عـــــشت لا أشرك فى وحدتك
تخفى عن الـناس سنى طلعتك
وكل ما فى الـكون من صنعتك
فأنت محـــلاه وأنت الـذى
تـــرى بديــع الصنع فى آيــتك
إن تفصل القطــــــرة من بحرها
ففى مـداه منتهى امرها
تقاربت يارب ما بيننــا
مسافة البعد على قــدرها
ياعالم الأسـرار علم الـــيقين
ياكاشف الضر عن البائسيــــن
ياقابل الأعــذار عدنا الى ظلك
فاقــبل توبـة التائبيــن
https://www.youtube.com/watch?v=K8_1W-sT1hE