مرت قبل ايام 6 كانون الثاني / يناير الذكرى 95 لتأسيس الجيش العراقي ، فهو من اقدم الجيوش العربية بتأسيسه عام 1921 ببغداد على ايدي نخبة لامعة من القادة والضباط العراقيين العثمانيين سابقا والذين شارك اغلبهم في الثورة العربية عام 1916 ضد حكومة الاتحاديين في الدولة العثمانية .. وقد عاش ذلك ” الجيش ” حتى سقوط العراق بأيدي الاميركان عام 2003 ، فتشتت وتبعثر وسرقت عدته ، وقام بريمر بحلّ الجيش العراقي في اسوأ قرار اتخذه ضد العراق والعراقيين .. وكنت قبل اكثر من عشر سنوات قد نشرت بعض الملاحظات النقدية عن تاريخ الجيش العراقي الذي نعتز به جميعا وبعراقته وادواره الوطنية ، فكان ان خرج علينا احدهم وهو ضابط متقاعد ، فكتب ردّا معتبرا الجيش العراقي له قدسيته ولا يمكن المساس به . واليوم ، اجد تمجيدا لا تقويما ، وانفعالا لا استفادة من تاريخ منظومة بقدر ما كانت لها بطولاتها وامجادها في ساحات الوغى ، فقد كانت لها اخطاءها وخطاياها .. واعتقد أن أغلب العراقيين الوطنيين لا ينكرون ابدا شجاعة جيشنا السابق وبطولاته ، لكن علينا ان نعترف بأنه ساهم بارتكاب خطايا كبرى في تاريخ العراق الحديث ، اذ كان الى جانب ابطال الجيش العراقي ثلة حمقى ومرضى ومجانين، والى جانب الاذكياء والنظاميين ، كما ضمت الثكنات الى جانب المخلصين والوطنيين والمحترفين الحقيقيين، خونة ومأجورين وسفهاء مارقين ..
واذا كان العراقيون اليوم يمجدّون الجيش العراقي السابق، فلأنهم وجدوا انفسهم مؤخرا ازاء جماعات وعصابات وميليشيات منفلتة عديمة الولاء للوطن وعديمة الاخلاق في التعامل ، كما ان شعبنا بحاجة الى جيش وطني حقيقي يحميهم من قوى ومنظمّات ودعشاء وطفيليّات وتحزبّات متعصّبة وطائفيّة .. لا ينفع للجيش ان يكون صاحب عقيدة عسكرية فقط ، بل هو بحاجة ماسة الى ان يكون صاحب اخلاقيات وله امانته واستقلاليته وانتفاء طائفيته وعدم تدخله في السياسة .
كان تأسيسه قويا على ايدي رجال مهنيين محترفين اقوياء لهم تجاربهم ومعارفهم ووطنيتهم واخلاقياتهم العالية ، وكان ” العسكر ” في العراق قد جمع كلّ الطيف الاجتماعي المتنّوع في ثكنة واحدة ، ووحّدهم علم واحد ، ونسّقت اصطفافاتهم ساحة عرضات واحدة ، وكان الوطن عقيدتهم ضمن نظام واحد .. نحتفل كلّ عام بذكرى تأسيسه يوم 6 كانون الثاني / يناير 1921 ، ايّ منذ 95 سنة ، ولكنه جيش شهد تاريخه مختلف البدائل بين الكوارث والمحن والانتصارات والانكسارات .. بين الرفعة والسمو الى التفاهة والانحدار .. كان جيشا منظما قويا جراء قوّة مؤسّسيه الكبار الاوائل ، ولكنه ضمّ عشرات بل مئات الفاشلين الذين لم تقبلهم الجامعات في الاجيال اللاحقة ، وبقدر ما حقّق من انتصارات للعراق ، فقد نكّل بالعراقيين وخذلهم وتدخّل في شؤونهم ، كما وتدّخل في السياسة والامن الداخلي .
وبدل ان يحمي حدود البلاد في ازمنة عصيبة ، فقد ادخل خشمه في قضايا سياسيّة داخليّة هو في غنى عنها ، وبدل ان يتخلّق كلّ ابنائه بالأخلاقيّات العالية ، فقد ساءت اخلاق بعض ابنائه كثيرا وخصوصا من الضبّاط الذين تجعلهم الرتب على اكتافهم يتفوّقون بصلافتهم وعنجهيتهم على المدنيين من البشر ، وتكالب البعض من اجل السلطة ونخر الجيش التحزّب السياسي حتّى نجح في سحق البلاد .. وهذه حقيقة يقرّها العقلاء من كبار القادة العراقيين .
انني اعتقد ان نوستالجيا العراقيين للعسكر وللبنية العسكريّة هي مجرّد احساس عاطفي يأتي في زمن فرغ العراق خلاله من القوّة والاخلاق ومن النظام الوطني اليوم ، ومن السطوة التي كان يفرضها العسكر العراقي على الحياة وقت ذاك ، وخصوصا بانتظار الناس اذاعته البيان رقم (1) الذين تعوّدوا على سماعه، او في بيانات القيادة العامة لمجريات الحرب مع ايران التي لها اطماعها وتنفيذ مشروعها . العراقيون كعادتهم لا يقبلون الاعتراف بحقائق التاريخ ، ولم يزل حنينهم لأيام سوداء اساء بعض قادة الجيش وضبّاطه التصرّف فيها برعونتهم وما فعلوه بالعراق الذي حولوه في مجزرة دامية الى ” دولة خاكيّة ” كما خطب هستيريا احد مؤسسي الجمهورية الخالدة !
امضيت خدمتي الالزامية والاحتياط اكثر من سنتين من حياتي جندّيا في الجيش العراقي بعد اكمالي الجامعة بالعراق، وعليه ، فانا احد ابناء هذه المؤسّسة واعرفها بالرغم من تقديس العراقيين وعشقهم لها اليوم كونهم يعتبرونها الوحيدة التي تحميهم من جحيم ما حدث لاحقا ، لكنهم لم يلتفتوا قليلا الى الوراء ليتأملوا خطاياها على حياتهم، وما فعله القادة العسكر ببلادهم وقد خانوا الامانة ، وانها مؤسسة اعتزت بها الدولة وكل مؤسساتها وتفاخرت برجالها ، ودللّتهم ، ولكنهم خانوا الامانة وسحقوا البلاد بمن فيها سواء بسلسلة الانقلابات العسكرية التي قامت بها ، او بخيانات البعض ، او بمؤامرات البعض ، او عمالات اخرين ، او محاكمات آخرين ، او اعدامات آخرين .. ؟؟؟؟ مؤسسة تضيع حقوق المرء فيها بين بائس تأكله الحرب او تأسره او تعوّقه .. وبين متشدّق يعلن اليوم بوقاحة انه لم يخدم في الجيش ابدا !
أسأل : هل من اجابات عاقلة على اسئلة اطرحها على العراقيين : من قتلَ مؤّسس الجيش العراقي عام 1936 ؟ الم يقتله جيشه ؟ ولماذا ادخل الجيش انفه في السياسة ليقوم بأوّل انقلاب عسكري عربي عام 1936 ؟ ولماذا استخدم الجيش دوما لحسم مشكلات سياسيّة ، وتظاهرات شعبيّة ، وتمرّدات عشائرية ؟ ولماذا تأشكل الجيش قبيل 1941 ؟ وشكّل حكومة الدفاع الوطني واشعل الحرب ضد بريطانيا بتعاونه مع المحور ، ويعدم العقداء الاربعة ؟ ولماذا تعلن الطوارئ ليمارس الجيش السلطة في الشوارع ؟ ومن هم الضبّاط الاحرار وما طبيعة اتصالاتهم الخفيّة ؟ ولماذا قاموا بقلب نظام الحكم عام 1958 ونالوا من زعيمهم نوري السعيد بتقطيعه اربا ؟ بأي حق يحاكم الضباط الصغار قادتهم الكبار في محكمة عسكرية ( عليا ) خاصة يترأسها المهداوي ؟ ومن احدث التمرّد في الموصل بقيادة عبد الوهاب الشواف عام 1959؟ وما دور عبد الناصر مع ضباط عراقيين قبل 14 تموز او من بعدها ؟ ولماذا انقسم الجيش العراقي بين قوميين وشيوعيين ؟ وكيف تم اذلال الضباط ؟ وكيف يقوم الضباط بإعدام زملائهم في ساحة ام الطبول ؟ وماذا حدث للجيش في كركوك ومآسيها ؟ ومن قام بانقلاب 8 شباط/ فبراير 1963 ؟ وماذا فعل الضباط البعثيون بزملائهم وخصومهم الاخرين وعلى رأسهم عبد الكريم قاسم والمهداوي ؟ من بصق بوجه الزعيم قاسم وهو معدوم على شاشة التلفزيون ؟ الم يكن جنديا في هذا الجيش ؟ وماذا فعل البعثيون بالضباط الشيوعيين؟ ومن الذي منح العقيد الركن عبد السلام عارف رتبة “مشير ركن ” ونصبه رئيسا بلا اية انتخابات ؟ من قام بحركة حسن سريع وهو نائب عريف شيوعي ومعه عصبة من العرفاء والجنود ؟ من قام بحركة 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963 ولماذا سمى عبد السلام عارف نفسه بابي الثورات الثلاث ؟ من وزع الوزارات والمناصب العليا على الضباط العسكريين ؟ من قام بحركة عارف عبد الرزاق الاولى والثانية وبمؤامرة دبرها جهاز المخابرات المصرية ؟ اليس هو الجيش ؟ من اقصى عبد الرحمن البزاز عن ترشيحه رئيسا للجمهورية .. اليس ضباط الجيش ؟ من قام بحركتي 17 – 30 تموز/ يوليو 1968 ؟ الم يساهم الجيش بتآمرات ضباطه وخياناتهم واعتلاء احمد حسن البكر رئيسا بلا اية انتخابات ؟ من اجلس المئات من القادة والضباط الشرفاء في بيوتهم وصبغ الجيش بالصبغة الحزبية ؟ من نكّل بمن ؟ من منح صدام حسين رتبة “مهيب ركن” وهي اعلى رتبة متخيلة ، والرجل لم يخدم يوما واحدا خدمته الالزامية ؟ من اعدم جملة من الضباط العسكريين بتهم الخيانة العظمى والتآمر ؟ من منح حسين كامل وعلي حسن المجيد وغيرهما رتبا عليا في الجيش كالفريق اول ؟؟
نعم ، لقد شارك الجيش العراقي بشمم واباء في حرب 1948 ، وحرب 1967 ، وحرب 1973 ضد الكيان الصهيوني ، ثم امضى ثماني سنوات عجاف استمرت حرب العراق ضد ايران وتوسعاتها .. وكم اكلت تلك الحرب من بشر ومن خيرات العراق ؟ وكم صنعت من بطولات ؟ وكم فجعت من عوائل ؟؟ اذا اعتبرت تلك الحرب ضرورة تاريخية ؟ فهل من عراقيين اليوم يفسرون لي ما حل بقيمتها الوطنية والتاريخية بعد سقوط النظام السابق وتمزّق الجيش شرّ ممزّق ؟ واسأل : من الذي غزا الكويت عام 1990 وجنرالات العراق لم تعلم ؟ وما الذي فعله ذلك الجيش هناك على مدى ستّة اشهر قاتلة ؟ وماذا حصل لذلك الجيش عام 1991 ؟ والعراق تسحق بنيته التحتيّة ل43 يوما بالطائرات الاميركيّة ؟ من قام بتهريب طائرات العراق الى ايران في اغبى عمليّة لم تحدث ابدا من قبل ؟ ما ذنب الالاف المؤلفة من الضباط والجنود العراقيين يسحقون وهم ينسحبون من الكويت تحت النيران الاميركية ؟ ومن قال بانتفاء التمييز في الجيش .. كنت بنفسي ارى كيف يعامل الصابئى والمسيحي واليزيدي والتركماني وغيرهم من قبل المراتب الاجلاف !
واتمنّى على من يخالفني الان ان يسأل نفسه : كم من الشرفاء العسكريين العراقيين قالوا : لا وانتهوا نهايات بائسة ؟ كم من القادة العسكريين الكبار قد اعدموا بعد ان عذبوا في قصر النهاية ؟ سنوات طوال والتمييز قائم في العراق بين الجيش النظامي والحرس الجمهوري والحرس الخاص .. وعندما اقتربت 2003 ينصّب اناس لا حرفية لهم قادة على الشمال والجنوب ليتمزّق الجيش العراقي شذر مذر ، وتسرق عدّته ، ويبعثر بالكامل ، وتهرب فيالق كاملة ، ولم تنفع نصائح واراء اسداها البعض من الضباط والقادة الكبار كما حدثني بها لاحقا بعض القادة الكبار ومنهم نزار الخزرجي ورعد الحمداني وعبد الوهاب القصاب وغيرهم .. اذ لا يمكن ابدا ان يقحم الجيش في معركة خاسرة بلا غطاء جوي لينسحق العراق انسحاقا ؟؟
لقد جنى الجيش العراقي ليس على نفسه وحدها ، بل على العراق واوصله الى هذا المصير .. فهل وعى كل العراقيين الدرس اليوم ؟ انني اشك في ذلك !
نشرت في جريدة المدى ، بغداد 19 كانون الثاني / يناير 2016 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …