يبدو واضحا للمؤرخ ان العراق كان منذ القدم قاعدة اساسية لمتغيرات التاريخ في كل المنطقة ، وهذا ما شهدناه في تواريخ العصور القديمة ، وكما سنراه يتحقق ايضا على امتداد العصور الوسطى التي تقسم تحقيبيا في التاريخ الى ثلاثة مراحل كبرى ، هي : المراحل الوسيطة الاولى الممتدة بين انتشار المسيحية وسقوط روما وبين انتشار الاسلام ، ثم المراحل الوسيطة الوسطى بين انتشار الاسلام وحتى سقوط بغداد عام 1258م ، ثم المراحل الوسيطة الاخيرة بين سقوط بغداد وبين سقوط القسطنطينية عام 1453م .
انسحاق ما تبقى من الأقوام العراقية القديمة
إبّان المرحلة التاريخية الممتدة من 268 إلى 633م، كان المناذرة قد أسسوا دولتهم العربية في العراق بعد ان هاجروا من اليمن ، واتخذوا مدينة الحيرة قرب نهر الفرات عاصمة لهم ، واعتنقوا المسيحية وتبعوا كنيسة المشرق، وكانوا خاضعين لنفوذ الفرس الساسانيين الذين كانت المدائن ( = طيسفون ) عاصمتهم على نهر دجلة .. والذين انتهى حكمهم للعراق نهائيا اثر هزيمتهم النكراء في معركة القادسية اثناء امتداد الفتوحات العربية الاسلامية للعراق ، الذي غدا قاعدة انطلاق استراتيجية نحو ايران والشرق البعيد . ولقد اشتهرت مملكة الحيرة باقتصادياتها وثقافتها العمرانية وقصورها واديرتها العراقية القديمة ..
وكان هناك ملوك بابل من النبط والسريانيين ، وكان ملوك الموصل ونينوى من الجرامقة ، وكان هناك الصابئة والحنفاء الذين يؤمنون بالتوحيد الذي عليه الكلدانيون من قبلهم ، وقد قال ابن سعيد بأن معنى الكلدانيين يعني بأنهم من الموحدين .. وامتازت مملكة الجرامقة بحروبها ضد مملكة النبط .. ولكن بعد فتح الموصل من قبل المسلمين ، اتخذت قاعدة للانطلاق نحو الاناضول وقوقاسيا .. وهناك تفاصيل تاريخية لا يتسع المجال لذكرها .
لقد تضاعفت حدة الصراع بين الطرفين الفارسي الايراني والبيزنطي الروماني مذ غدا اباطرة روما يؤمنون بالديانة المسيحية في تحولاتهم التاريخية ، وكان في مقدمتهم الامبراطور قسطنطين Constantine I “the Great” ( حكم بين 324م – 337م) الذي انجز تحت رعايته مجمع نيقية المسكوني المسيحي الأول الذي عقد عام 325 م للتوفيق بين الطرفين المسيحيين المنقسمين ، أي بين الاريوسيين والاثنوسيين من اجل توحيد كلمة المسيحيين وخلاصهم من التباينات العقدية .. الاريوسيون اتباع آريوس (256 – 336 م) ، وهو موجد مذهب الآريوسية في الديانة المسيحية الذي يقول بأن الكلمة ليس بإله، بل بما أنه “مولود” من الله الآب فهو لا يشاركه طبيعته، بل تقوم بينهما علاقة “تبني. ولد في 293، توفي في 2 مايو 373م . اما الاثنوسيوسية ، فهم اتباع اثناسيوس ( ولد 293م وتوفي 373م) الذي كان بطريرك الإسكندرية في القرن الرابع. واعترف به قديسا من قبل الكنائس الأرثوذكسية الشرقية وخاصة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ومؤخرا من قبل الكنيسة الكاثوليكية ، واعتبر عالما عظيما من قبل البروتستانت. ويعتبر أحد الآباء الأربعة الأعظم لدى الكنائس الشرقية ،هو أب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ومعلمها الإيماني الأول.
اما قسطنطين ، فقد اصدر قراره بنقل مركز ملكه من العاصمة التاريخية روما الى عاصمة تاريخية جديدة هي القسطنطينية التي ستغدو عاصمة جديدة لدولة ترث الرومان اسمها “بيزنطة” ، وكان ذلك عام 330 م . هكذا ، بدا الصراع التاريخي بين الفرس وبين الرومان يتخذ له صبغة دينية وعقائدية ليضيف الى الصراع السياسي عوامل تاريخية جديدة ، اذ غدا الامبراطور الفارسي شابور الثاني الساساني المدافع الاول عن الزرادشتية وغدا الامبراطور الروماني قسطنطين الاول مدافعا عن المسيحية .. كيف ؟
البطش الساساني بالمسيحيين السريان العرب
لقد تضمخ الصراع بين الطرفين بأنهار من الدماء ، وخصوصا في العراق ، فكما انعقد مجمع نيقية المسكوني لدى المسيحيين عام 325 م ،انعقد برعاية شابور الثاني مجمع زرادشتي ضم كبار علماء المجوس ردا على رعاية قسطنطين لمجمع نيقية ! واتبع الملك شابور الثّاني سياسة دينية قاسية وفي عهدِه اكتملت مجموعة النصوص المقدّسة للزرادشتية المسماة أفيستا ، وتمت معاقبة أي مبتدع ومرتد عن الدين الزرادشتي .. وفي تلك الفترة غلبت العرب على سواد العراق. وكان أغلبهم من ولد إياد بن نزار. فلما بلغ شابور ست عشرة سنة، أعد عدته للخروج إليهم والإيقاع بهم، فأوقع بهم، فعمهم القتل، فسمي بـ ” قتّال العرب ” واستطاع شابور تأمين المناطق الجنوبية من الإمبراطورية، ولم يفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض الروم، وخلع بعد ذلك أكتاف العرب وهم احياء، فسمي بعد ذلك شابور ذو الأكتاف !
وكان شابور الثاني شديد الخشية من تعاطف رعاياه من المسيحيين العرب العراقيين مع أعدائه الرومان بشراكة الطرفين الاثنين الدينية ، وخصوصا بعد توحد الاريوسيين مع الاثناسيوسيين ، وكم حاول السيطرة على نصيبين واخذها من قسطنطين عام 338 م .. ولما عجز ، زاد اضطهاده اضعافاً مضاعفة ، وخصوصا عندما قام خلال قرابة اربعين سنة ( أي بين 340 وحتى سنة 379 م) بحملات بطش واضطهادات تعسفية منظمة ضد كل المسيحيين العراقيين .. تلك العمليات الإجرامية التي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المسيحيين الأبرياء وهو ما سمي بــ ” الاضطهاد المسيحي الأربعيني” ، وكان قد أصدر عام 340 م أوامره التعسفية بهدم الكنائس والأديرة والصوامع وإستدعى الى (كرخ ليدان) في (الأهواز) الجاثليق العراقي (مار شمعون برصباعي) وخمسة من الأساقفة العراقيين الكبار وكان برفقتهم (97) من القسس والشماسسة والرهبان وهم من السريان العرب وأمرهم جميعا بالسجود للشمس والنار ، ولكنهم رفضوا رفضا قاطعا ، فما كان منه الا ان ساقهم نحو سجونه الرهيبة ، واصدر اوامره بقطع أعناقهم واحدا تلو الآخر، وكانت قراراته تحظى بتأييد وتحريض كل من المجوس والمانويين واليهود في الدولة الساسانية لأسباب دينية وتاريخية معقدة . وكان اليهود من اقرب المقربين اليه ..
استعادة الانفاس العراقية
ان المؤرخين الذين اشتغلوا بمنتهى الحيادية على هذا ” الموضوع ” يقدرون اعداد من قام بإعدامهم سابور الثاني من المسيحيين بــ (160) ألف شهيد. ولما مات سابور الثاني عام (379 م) ارتاح ابناء العراق وتنفسوا الصعداء سواء كانوا من المسيحيين ام الصابئة من بطشه الشديد .. وبدأ المسيحيون يعيدون بناء اديرتهم وكنائسهم ، وطفقوا ينشرون مسيحيتهم المضطهدة في عموم العراق وأرمينية ، اذ كان الملوك من الساسانيين قد انشغلوا بالصراع السياسي على السلطة ، وكان الملوك العرب في كل من دولتي المناذرة في العراق والغساسنة في الشام قد اعتنقوا المسيحية الاولى ، وكان من قبلهم قد دانت القبائل العربية بالمسيحية ، وبنيت عشرات الاديرة في العراق وخصوصا في الموصل وتوابعها ، كما اتخذ أكثر من (37) ديرا على امتداد المسلك الرابط بين الحيرة عاصمة المناذرة والموصل وضواحيها وبين بلاد الشام حيث بصرى ودمشق وضواحيها وفي مناطق متعددة من الجزيرة العربية ، كما غدت الاديرة في الجزيرة الفراتية محطات ترانسيت حيوية للقوافل التجارية العابرة ولاغراض الاستشفاء وللتبشير بالدين المسيحي. ويعلمنا المؤرخون بأن الكنائس والاديرة المسيحية قد بقيت حية ترزق لأزمنة طوال على العهود الراشدية والاموية والعباسية ، وكان العديد من الخلفاء الامويين والعباسيين يقصدونها ، ويقضون فيها اياما مثلما كان يفعل الخليفة هارون الرشيد .. حتى بدأت تتحطم لاحقا على ايدي الغزاة القادمين من الشرق بعد سقوط بغداد عام 1258 م ( انظر كتاب الديارات للشابشتي توفي 388. ه) .
سمي بالعصر المتوسط ذاك الذي امتد بين سنتي 379-489 م ، أي منذ موت الملك سابور الثاني حتى تتويج الملك الساساني قباذ الثاني 488-531م ، اذ كانت الامور اكثر استقرارا مع اندلاع الحروب مع البيزنطيين ، ولكن يبدو ان علاقات العصر الاول بين الساسانيين والرومان كانت اقسى بكثير من اللاحق من السنين ، اذ اختلفت سياسةِ الإمبراطورية الساسانية الدينية بشكل مثير مِنْ ملكِ إلى ملكٍ آخر، ولكن على الرغم مِنْ وجود سلسلة من الزعماءِ الضعفاءِ إلا أن النظام الإداري للإمبراطورية الذي تم تأسيسه في عهد الملك سابور الثاني بَقى قوياً، والإمبراطورية واصلتْ الإشتِغال عليه عملياً .
ولادة عصر جديد
ويعد الملك الساساني كسرى أنو شروان الذي حكم للفترة 531 م ولغاية 579 م من أعظم الملوك الساسانيين المجددين إذ اخذ بتجديد العاصمة طيسفون واعتنى بها وبحدائقها ، ونظم الجيش على اسس جديدة ، وغزا به أنطاكيا وانتزعها انتزاعا من البيزنطيين ، كما نشطت الثقافة على عصره وترجمت عدة كتب الى الفارسية. وكان هناك إحياء للغة السريانية من خلال حراك المسيحيين العراقيين .. وفي زمنه ولد الرسول محمد (ص) عام 569 م او 570 م او 571م. وكان الملك كسرى الأول قد شهد عهده ازدياد قوة الدهاقنة وهم نبلاء القرى الزراعية ، وهي طبقة من النبلاء الاقطاعيين التافهين ، وكانت تحوز على مساحات هائلة من العقارات والتي كَانتْ تعد العمود الفقري في ادارة الساسانيين الإقليمية وهناك كذلك النظام الضريبي الذي قام الملك كسرى الأول بتأسيسه .
في الحقيقة ، كان الملك كسرى الأول من البناة العظماء وقد حسّن رأس اموال الدولة واسس البلداتَ الجديدةَ، واعاد بناء القنواتَ المائية واصلح المزارع مجدّداً التي سحقتها الحروب، بوَنى تحصيناتَ قويةَ ، ووضع القبائل في مناطق الثغور على الحدودِ ليجعل هذه القبائل موالية للفرس وصد هجومات المحتلين، وكان الملك كسرى الأول متسامحاً مع كُلّ الأديان، ومع ذلك أَمرَ بأنّ الزرادشتية يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الدين الرسميَ للدولة، ولَمْ ينزعج كثيراً عندما اعتنق أحد أبنائِه المسيحية.
تولى العرش بعده الملك هرمز الرابع 579-590م ، وتميز أيضاً بأنشطته مواصلا حالة الازدهار .. ، وأثناء حكم كسرى الثاني 590-628م ، ولدت ازمة سياسية سرعان ما اختفت بسيطرة الجيش لنصرة كسرى الثاني مسيطراً على الإمبراطوريةِ، ومستغلا الحرب الأهلية في بيزنطة وقام باحتلال شامل لأراضيها ، اذ كان كسرى الثاني يحلم بإعادة امجاد الاخمينيين وارجاع حدود الإمبراطورية الأخمينية السابقة ، وكاد حلمه يتحقق بسقوط القدس ودمشق في يده، وكذلك سقوط مصر مباشرة بعد ذلك بيده ، وفي سنة 626 م أصبحت مدينة القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية محاصرة من قبل السلافيين والأوراسيين ..
انتهت الحلقة 5 انتظروا السادسة
ملاحظة : جميع توثيقات ومصادر هذه ” المباحث ” التاريخية مثبتة في الاصل ، ولم نستطع نشرها الآن لضيق المساحة ..
الرئيسية / الرئيسية / الاطوار الانتقالية لمركزية العالم القديم : تحولات العراق من الاحقاب القديمة الى العصور الوسطى الحلقة 5: ملامح ولادة عصر تاريخ جديد
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …