يقال ان الانسان يُعرف لأوّل مرّة من تصرّفاته وسلوكه ، فان كان قد ترّبى تربية جيّدة ، فسيكون حسن السلوك طوال حياته ، وان كان من بيئة متدّنية ، ولم يحسن اهله ومدرسته تربيته ، فسيبقى سيئ السلوك ، وبليد التصرّفات مع نفسه ومع الاخرين ! ولقد اكدّ الاوّلون والاخرون من الادباء والمربيّن وعلماء السلوك على هذه الناحية التي يبدو ان البعض يفضح نفسه من دون ان يشعر ، ولا يتمّلكه أيّ احساس بالذنب بما يفعله او بما يقوم به من تصرّفات كي يعتذر ويعدّل سلوكه . ولقد ابتليَ المجتمع العراقي بهكذا نوع من البشر . ويبدو ان خمسين سنة مضت ، كانت تحمل أسوأ التناقضات التي افقدت الناس عادات سلوكية قيميّة وسلوكيات مرنة غير جارحة ، وزادت من سوء تصرّفات شرائح اجتماعيّة طارئة ومنتشرة هنا او هناك حتّى وان امتلك ابناؤها اعلى المناصب ، او حملوا ارفع الشهادات وارقى الدرجات والمناصب !
لم تتمّلكني المفاجأة وانا ارى على التلفزيون زعيم البلاد يجلس في مؤتمر دولي صُرف عليه الملايين من اجل هدف نبيل ، ولكنه جلس امام عدسات الكاميرات التلفزيونية ، وهو يلعب بأنفه لينظفّه من الاوساخ بطريقة بدائية ! او يقضم اظافره بأسنانه ، والاظافر – كما تعلمون – تحمل كلّ المكروبات ! فان كان ربّ البيت وهو القدوة يتصرّف بهذه الطريقة ، فما الذي ابقاه للناس العاديين الامييّن ؟ ان الرأي العام لا يحاسب على سياسات القادة والمسؤولين حسب ، بل يحاسبهم أيضا على سوء تصرّفاتهم وسلوكياتهم المنحرفة !
في مدارسنا الرسميّة قبل اكثر من خمسين سنة ، علمونا كيف نصطف كلّ صباح لتفتيش نظافة اظافرنا ووجوهنا وايدينا والبستنا واحذيتنا ؟ وكيف نصمت عند رفع العلم صباح كلّ يوم خميس .. وفي الصفوف ، يعلموننا ” الاشياء والصحّة ” قبل ان تحلّ بدلها “التربية الوطنية ” التي الغيت لتحلّ محلها ” التربية القومية ” لتلغى اليوم ولا ادري ما الذي تتعلّمه الاجيال الجديدة في ظلّ الانقساميين الجدد . كانوا يعلموننا اساسيّات السلوك واحترام الكبير والعطف على الصغير ، وكيف نصنع الورود ، وكيف نعشق الاوطان ، وكيف نتعامل مع الحياة ، وكيف نساعد الفقراء ، وكيف نغنّي الاناشيد الوطنية ، وكيف نحترم المعلم ونقدس الوالدين ..
وفي البيوت كان الوالدان يعلمان اولادهما ، كيف الجلوس ، وكيف الكلام ، وكيف التصرّف مع كبار السن بتقبيل اياديهم ، وكيف التعايش ومحبة كلّ الناس ، وكيف الحسنى مع الجيران ، وكيف حماية بنات المحلة ؟ وتحريم التحرّش وكيف الاغاثة ؟ وكيف التصرّف في المناسبات وكيف الوفاء مع الاصدقاء ، وما آداب المجالسة واصول مائدة الطعام ، وكيف نساعد الاعمى على عبور الشارع ، وكيف نترك مقاعدنا في باصات المصلحة لمن هو اكبر منّأ سنّا نسوة ورجالا .. علمونا ان السرقة جرم ، والمال العام حرام .. بل يعّلم الآباء اولادهم ان لا يفتحوا بطونهم في بيوت الاخرين ، ووجوب اكرام الضيف حتى بقدح شاي او فنجان قهوة ..
واذكر في المدارس الاهلية والخاصة ورياض الاطفال يعلّمون كيفيّة المشي في الشارع بلا تلفّت او تعّلك او بصاق على الارض ، او الاكل على قارعة الطريق ، ولا التحدّق في الأخرين .. وان لا يلعب المرء بخشمه ، ولا يتلمّظ بأصوات مزعجة عند الاكل والشرب .. ولا يمخط الا بمنديل ، علّموه احترام الزمن ، ويمنع قطع غصن شجرة او زهرة من اماكن عامة ، وعدم رمي أيّ شيء على الرصيف .. وكيف المحافظة على الهدوء ، والسكينة لا الضوضاء ، واصول المحادثة والتواضع بلا تنطّع ، وبلا استئثار ، وبلا تجريح ، وبلا استعراض ، وبلا مقاطعة ، وبلا مباهاة ، واصول المشي بلا احتداب ولا تمندل عضلات كالأشقياء ! ورسم الابتسامة للآخرين بلا ابتذال وبلا احتقان وبلا عبوسة وبلا تنابز وبلا بذاءات !! مع استخدام النكتة البريئة وفهم الاشارة والرمز المحبّب وترديد العبارة الجميلة .. وكم اشتهر القدماء من الساسة والقادة العراقيين بسرعة بديهتهم ، وجمال عراقيتهم ، وحسن ظرافتهم ، وروعة تمدّنهم ، وقوّة شخصيتهم ..
وتذكرون القيم العسكرية الصارمة في الجيش العراقي ، كان الضبّاط القدماء يتّصفون بأخلاقيّاتهم العالية وسلوكياتهم المهنيّة وقيافاتهم النظيفة وحلاقة ذقونهم ، ترّبت على ايديهم الالاف المؤلفة من العراقيين .. اما سلوك الموظّفين ، فكان رائعا بالتزاماتهم وامانتهم على الاسرار وعلاقاتهم النقابيّة وسلوكياتهم تجاه رؤسائهم ومرؤوسيهم .. وكانت الدولة تحرص على السلوك ، وتوازن الشخصية ، والاهلية ، والهندام في التعيين والاستمرار الوظيفي.. وكيف يتمّ انتقاء الحكّام والقضاة والسفراء والدبلوماسيين .. ثم يأتي اختيار وترشيح وتنصيب المسؤولين الكبار وما يمكن ان يتصّف به الرؤساء والوزراء والسفراء والمدراء والقضاة والقادة والنوّاب .. كرجال ونسوة يقودون المجتمع من خلال الدولة كصفوة عراقيّة حقيقيّة وليست مصطنعة فاشلة !
لقد عاش العراقيون سابقا على قيم معينّة يفتقدها اغلب المسؤولين اليوم للأسف الشديد ، وان المحنة التي يعاني منها كلّ العراقيين حضاريّة واجتماعيّة قبل ان تكون سياسيّة وعقائديّة ، اذ غدت هذه الاخيرة ارتزاقية ومأجورة ومعدومة القيم والاخلاقيات والسلوكيات العالية ، وان ما نعاني منه اليوم هو نتاج الكارثة التاريخيّة التي حلّت بالعراقيين سياسيّا منذ اكثر من خمسين سنة .. واجد في قراءاتي للعديد من مواقف المسؤولين العراقيين القدماء حكمة ومرونة وتقاليد ومعاني عالية المستوى في التصرّف والسلوكيات وتأكيدهم على جوانب حضاريّة اكثر منها سياسيّة ، وتقدميّة اكثر منها ماضويّة ، ومهنيّة اكثر منها حزبيّة ، ووطنيّة اكثر منها طائفيّة ..
لقد حافظت مجتمعات عدّة بالرغم من محنها التاريخيّة على قيمها واخلاقيّاتها وسلوكياتها ونزعاتها الوطنيّة بعيدا عن عادات متخلفّة ، وثارات دمويّة او التكلّس لتعود القهقرى الى العصور الوسطى .. مجتمعات لم تنتكس لترجع الى حياتها القبليّة او يحكمها اناس لا يدركون قيم التمدّن .. فما الذي جرى في العراق كي تنتهك القوانين المدنيّة ويستخف بحقوق المرأة والطفولة وتساهم احزاب فاشيّة او طائفيّة في نحر المجتمع بخلق الازمات والحروب والصراعات.. وتتشرذم النخب ( المثقفّة ) بعد ان تمكنّت الذهنيّة المركبّة عندها بديلا عن المنفتحة .. وتترّسخ الاحقاد لعوامل تاريخية تافهة فيخلق الاحتراب والارهاب .
ما المعنى الحضاري لمؤتمر ضدّ الارهاب في عاصمة حضاريّة عريقة كانت تسمّى قبل الف سنة بمدينة السلام ترفع اليوم شعارات بدائيّة لا اخلاقيّة تقول بأنّ لنا قانون احوالنا الشخصيّة ( الجعفري ) ولكم قانونكم ( غير الجعفري ) ؟ اية محنة لا اخلاقيّة وكارثية ساهم في خلقها من اوجد المحاصصة ليفشل الدولة ، فيتمّزق المجتمع العراقي شر ممزق ؟ ما المشروع الخطير الذي يمضون فيه نحو المستقبل ؟ لماذا ضاعت الحكمة في التصرّف السياسي ؟ واين سيذهب المجتمع بعد ان حلّ الصمت لدى العقلاء ؟ وشملت البذاءات كلّ خطاب ؟ لماذا سادت الشتائم وسوء الكلام في المجادلات ؟ لماذا التخندق المذهبي والطائفي ؟ وهل يتعامل العالم المعاصر بالتمذهب الطائفي ؟ لماذا يريد كلّ طرف ابادة الطرف الاخر ؟ لماذا التسقيط والاقصاء وخلق التهم واختلاق الاكاذيب ؟ ما ذنب اهل العراق مهما كان دينهم وعرقهم ومذهبهم كي يقتلوا وتجيّش ضدهم الجيوش ليحاربوا ويهجروا من قبل اهلهم وابناء وطنهم ؟ لماذا لم ينظر الى ابناء الشعب نظرة وطنيّة موحدّة حتى يخفت الارهاب ؟
هذه كلّها اسئلة عامة ان لم تجد اجوبة حقيقيّة لوضع حلول حضاريّة ، فلا يمكن معالجة الجزئيّات السياسيّة التي لا اوّل لها ولا آخر ! وسوف لن تحلّها لا انتخابات مخترقة ، ولا عملية سياسيّة فاشلة ولا ديمقراطية كسيحة . ان ما اقوله ليس بتغريدات شاعريّة ، ولا بعزف انفرادي ، بل هو تعبير صارخ لما يتمنّاه كلّ العراقيين الشرفاء الاوفياء لوطنهم والمحبّين لكلّ اهلهم العراقيين .. انها محاولة في فهم هذه الواقع الذي يعجز كلّ الغلاة والمنحرفين والشاذين والمتطرفين والطائفيين عن ايجاد خارطة طريق لمستقبلهم ! لا تفيدنا ابدا ايّة حلول غبيّة لمشكلات صعبة ، بل نحن بأمسّ الحاجة الى تغيير واقع مأساوي ..
ان التغيير بحاجة الى اخلاقيّات عالية ومشروع متمدّن وقوانين مدنيّة . قال الملك الراحل فيصل الاوّل مؤسّس العراق الملكي : ” ان خاصمت احدا ، فاترك هامش رجعة له ! ” ، وقال الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم مؤسس العراق الجمهوري : ” عفا الله عما سلف والرحمة فوق القانون ” ، ولم اجد حاكما عراقيّا في يوم من الايّام لفّ رجلا على رجل في مناسبة عامة ، او لعب بخشمه في مؤتمر دولي ! او جعل اسنانه مقراضة لاظفاره ! او دخل مجلسا او أيّ مكان عام من دون ان يغلق جاكيت بدلته .. فمتى يتعلّم كلّ المسؤولين العراقيين اليوم الاصول الحضريّة ؟ او اسلوب مخاطبة شعبهم ؟ او تواضعهم وعدم تمييزهم بين العراقيين الا على اساس السلوك والكفاءة والاهليّة وقوّة الشخصيّة ؟ فان كانوا هم بالذات يفتقدون ذلك ، فكيف يقدّرونها حقّ قدرها لدى الاخرين ، وفاقد الشيء لا يعطيه !
واخيرا اقول : شعب موحدّ في تاريخه وجغرافيته وثقافته وسحناته واشكاله وعاداته وتقاليده وذهنيته وسايكلوجيته وفنونه .. لماذا قسمتموه لأسباب طائفية تافهة ايها الاغبياء ؟
نشرت في المدى البغدادية ، العدد (3033 ) السنة الحادية عشرة – الاثنين 17 آذار/ مارس 2014.
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وايضا على صفحته في الفيسبوك وتويتر
شاهد أيضاً
رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟
رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …