مقدمة
من المشكلات التي تعاني منها الثقافة السياسية في منظومتنا العربية وعالمنا الاسلامي تكمن في عدم تفعيل اي دعوة او مشروع للاصلاح ، وان ليس هناك أي اثر واضح للكتابات والمعالجات والدراسات ، بحكم ضعف هذه الثقافة السياسية اولا وفوضي القيم الفكرية ثانيا واختلاط الرؤى والمفاهيم ثالثا .. والمشكلة الاساسية اننا كلما يتقّدم بنا الزمن ، نفتقد الافضل من النخب وتتوالد اسوأ الجماعات .. لقد عشنا على امتداد يقترب من ثلاثين سنة ، فتعايشنا مع كل الهزائم السياسية والعسكرية والثقافية .. وانتقل المجتمع من حالات حيوية كان يتصف بها نسبيا الى حالات من الصمت والسبات .. وبالوقت الذي كان للدولة بعض قوتها وهيبتها كالتي عرفناها ونحن صغارا .. فقد غدت الدولة مقترنة بالسلطات لا بالمؤسسات ، وبالطغيان وهشاشة النظم ، لا بالانفتاح المقترن بسيادة القانون .. السؤال الان : ها قد مضى ما يقرب من ثلاثين سنة على مثل هذه التراجعات ؟ ما رؤيتنا للجيل القادم على امتداد ثلاثين سنة اخرى في عالم يزداد تسارعه التاريخي وتتسع عولمته الاقتصادية ، وتمتد مدياته الاعلامية الميدية .. ؟؟ لماذا لم يؤخذ اي علاج حتى اليوم ؟
ازمة التناقضات
منذ البداية والاجيال تعيش تناقضات فكرية لا اول لها ولا آخر .. لقد ترى الجميع على ثنائيات خطيرة ـ كتلك التي عالجتها في كتابي التحولات العربية : اشكالية الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل ـ واخطرها : حب الوطن من الايمان ازاء تقسيمات سايكس بيكو ، ومفهوم الوطن العربي ازاء المواطنة العراقية او السورية او المصرية .. الخ كانوا في المدرسة يترّبى الصغار على بلاد العرب اوطاني وفي بيوتهم لا يسمعون الا حديث الطائفة والعشيرة والقبيلة .. كان امام الراديو ومن ثم التلفزيون يسمع ويشاهد القرآن الكريم باسمى تجليات تجويده ازاء مجموعة اغاني وافلام ورقصات داعرة كان لكل مفهوم طقوسه في ترسيخ ثنائيات في اعماق الذهنية ليست العربية حسب ، بل كل الذهنيات المنتشرة في مجتمعات الشرق الاوسط ..
التراجع لا التسارع
لقد شاع مفهوم ” التسارع التاريخي ” منذ عشر سنوات ، وتتصف به مجتمعات عدة في العالم ، على عكس مجتمعات اخرى ساد فيها التراجع والتقهقر . كان الجيل القديم في حياتنا العربية لما بين الحربين 1919 – 1949 اكثر وعيا بالحياة السياسية كما تعلن عن ذلك الصحافة وكما يتضمنه الخطاب الذي ساد ليبراليا عهد ذاك .. وبالرغم من ذلك ، فلقد بدأنا حياتنا المعاصرة بدايات ضعيفة على ايدي الانكليز والفرنسيين بعد ان غادرنا الحياة العثمانية .. لقد ورثنا مشكلات الحدود وخصوصا في العراق وبلاد الشام ، واقتطعت من اوطاننا مساحات شاسعة هي تاريخيا من ممتلكاتنا القديمة .. واعطيت الى كل من ايران وتركيا .. وناضل الاولون من اجل تأسيس كيانات وطنية لم يكن لها وجود على امتاد قرون طوال مع بقاء الاوطان .. ولكن الامور ساءت كثيرا بولادة انقسامات سياسية حادة لدى الجيل الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية 1949 – 1979 ، وتصادم الايديولوجيات ، مع حدوث الانقلابات العسكرية وهيمنة الضباط الذين ما كانوا يدركون التصّرف مع مؤسسات الدولة او تسيير العلاقات الخارجية .. وأثّرت الصراعات الحزبية باسم الثورة والحركات الثورية على الواقع السياسي مع انقسام الشعوب الى يمين ويسار ورجعية وتقدمية ووطنية وعمالة .. الخ وضج الخطاب السياسي والاعلامي بالمهاترات التي اضعفت المؤسسات من طرف ، ومهّدت للهشاشة في الدولة مع بلورة دكتاتوريات وتراجع المجتمع عن رؤاه في الحريات والدساتير والحقوق والواجبات .. لقد كانت القومية العربية قد سيطرت على كل الحياة العربية السياسية وكانت في صراع سياسي ( ودموي في اماكن عدة ) ضد الليبرالية السياسية وضد الاحوزاب الشيوعية وضد الحركات الاسلامية .. وبالرغم من هزيمة 1967 التي كشفت كل العورات على الملأ ، فلقد ختمت المرحلة بكل تراجعاتها في العام 1979 ، وهي السنة التي انقلبت فيها الاوضاع في كل المنطقة رأسا على عقب .. ليأتي جيل جديد يعيش ما اسمي بـ ” الصحوة الدينية ” التي بدأت في ايران التي غدت جمهورية اسلامية وبدأت تتوالد جماعات وحركات وتنظيمات واحزاب دينية سنية وشيعية بشكل يدعو الى التساؤل .. وكلها لا تمتلك اي برامج سياسية صرفة ، بل تتبنى الشعارات والنصوص الدينية من دون اي خطط او فلسفات سياسية في نظام الحكم .. في هذا الجيل الذي عاش صراعات داخلية وجملة حروب واغتيالات ومحاولات انقلابية .. يزداد الانقسام والقتل والتكفير والهجرة الى الجهاد .. تزداد الحركات الدعوية باسم السلفية وباسم الانصار وباسم الجهاد .. الخ في هذا الزمن الذي سيقفل في العام 2009 يسقط مفهوم الامة وتتراجع المؤسسات وتزداد هشاشة الدولة وتبدأ المجتمعات بالتفسخ مع انتفاء حتى الضرورات .. يزداد الفساد بشكل مريع وتنتفي الخدمات .. في هذا الجيل يتفاقم خطر الطائفية والمذهبية وتكفير هذا الجانب على حساب الاخر وينشغل التفكير بتفاهات الامور .. وينهار الاعلام ليعالج المستهلكات ويموت الزمن في الدفاع عن الحريات ويناضل الانسان من اجل مجتمعات مدنية بعد ان كانت متاحة قبل خمسين سنة .
اوطاننا لم يصنعها الآخرون
ان اوطاننا القديمة موجودة عبر التاريخ كالعراق وبلاد الشام ، وان تبلورهما ضمن كيانات لم يصنعها كل من الانكليز والفرنسيين بقدر ما نجدها واضحة في الخرائط العثمانية او في تفاصيل قانون الولايات الجديد للعام 1856 .. لبنان حالة متميزة منذ القرن السادس عشر ، ولكن شرق الاردن وجد نفسه امارة صغيرة ، ليغدو في ما بعد مملكة هاشمية .. واذا كانت المملكة السعودية قد اتسعت بضمها عدة اقاليم في الجزيرة العربية متخذة مشروعيتها من الدولة السعودية الاولى .. فان امارات ومشيخات الخليج العربية وسلطنة عمان لها تاريخ طويل يعود الى القرن الثامن عشر . ان اي دولة تقوم كمؤسسات على تراب وطني (= وطن ) ويعيش عليه شعب ، فان مفهوم ” الامة ” يصبح تحصيل حاصل ، اي ما دام هناك دستور وعلم ورموز وطنية فن مفهوم ” الامة ” يتحقق مباشرة ( اي : Nation ) .. واذا كان القوميون والبعثيون والناصريون والحركيون .. يرفضون ذلك معتمدين على مفهوم ( الامة العربية الواحدة ) ، فانهم لم يستطيعوا ابدا تحقيقه على امتداد اكثر من خمسين سنة .. واذا كانت بعض الاوطان يستوطنها منذ القدم بشر من غير العرب ، فكيف يمكن ان تلغيهم بجرة شعار ؟ ان الاكراد والامازيغ والتركمان والارمن .. الخ من القوميات لا يمكن ان تثير نوازعهم ضد العرب باسم العروبة مهما بلغت درجة الانسانية بهذه العروبة .. واذا كانت العروبة هوية يشاركك فيها غيرك على ارضك وترابك ، ولكن لا يمكن ان تكون القومية العربية بديلا عنها .. وعليه ، فينبغي ان تكون الامة ( وطنية ) لا ( قومية ) في المفهوم اللغوي العربي ، فالامر سيان في لغات وثقافات اخرى .. ان ما ينطبق على العرب يستوجب سحبه على القوميات الكبرى الاخرى في المنطة كالاتراك مثلا ، فلا يمكن ان تكون الامة تركية ، وهي تضم قوميات اخرى ، لو سميناها أمة الاناضول لاستوى المفهوم .. ويمكن ان يستقيم امر الامة الايرانية اكثر بكثير من امة فارسية اذ تزدحم ايران بقوميات اخرى .. كما وينسحب الامر نفسه على الاكراد والسريان والارمن .. الخ ثمة خلط آخر بين استخدام اللغة بعيدا عن استخدام العرق .. فالاعراق ان تشابهت لغاتها ، فليس معنى ذلك انها امة واحدة .. وهنا نتحدث عن امة اللغة وامة العرق .. بعيدا عن مشكلات الامة الدينية التي تزدحم بالمشكلات والتعقيدات ..
مبدأ الفصل بين الدولة والامة ( الوطنية = القومية )
وعليه ، فان الدولة الوطنية هي التي ستتفوق وتنجح بعيدا عن الدولة القومية او الدولة الدينية .. ليس لشرعية الدولة الوطنية تاريخيا ودستوريا ، بل لأنها اقل مشكلات وتعقيدات من الصنفين الاثنين الاخرين . ويستلزم الفصل هنا بين الدولة الوطنية والدولة القومية في ثقافتنا العربية مقارنة باحاديتها في الثقافات الاخرى : الانكليزية والفرنسية واليابانية والروسية .. الخ ان الجغرافية هي التي تخلق الاوطان وان التاريخ هو الذي يخلق المجتمعات وان الانسان هو الذي يخلق دولة المؤسسات .. فلا يمكن ان تخلق امة من فراغ جغرافي او تاريخي او بشري .. وان اي خلل يحدث في هذه الركائز الثلاث ، فالانهيار حاصل لا محالة .. ان قدرة الامة الحقيقية للاستجابة على التحديات سيطورها نحو الامام ، وان اي خلل او فوضى او انقفال او انتقال سيجعل الامة في سقوط محقق .. ان من تكلّم باسم ( الامة ) القومية كان جاهلا حتى بابسط معلومات بلاده ، فكيف يدرك حقائق ( الوطن العربي ) الذي كتب من اجله ( امة عربية واحدة ) ؟ ان رائد الامة العربية هو مجرد مصطلح اذاعي وخطابي لا وجود له على ارض الواقع .. ولكنه مصطلح لاكته ولم تزل تلوكه الملايين من ابناء ( الامة العربية ) .. ان بطل التحرير القومي غزا بجيشه دولة جارة له ومحاها من الوجود في خلال ساعتين .. وهو يؤمن برسالة ( الامة العربية ) !
تآكل الحصون من دواخلها
ان السقوط لم يكن من خارجها بقدر ما تآكلت الحصون من دواخلها .. فالدواخل متعفنة على اشد ما يكون التعفّن نتيجة القصور والهشاشة والضعف والسذاجة واحتقار العقل وتقديس الخرافة .. ان الثقافة الحقيقية محتقرة ، وان الانسان تتلاعب به العواطف وتتلاطم في تصوراته الامواج .. وتتحكم السرعة في قراراته .. ولا يعترف باخطائه .. لا ينفتح على الاخر وصانع ماهر للاعداء .. وعابث جيد للخصوصيات ..ركّاض للمنافع الخاصة لا يؤمن بالنفع العام .. ليس بقارئ ولا بمحقق ولا بمدقق .. عدو للحداثة عاشق للتعصب مزاول للتطرف .. محب للفردية ولا يحب العمل الجماعي .. يؤمن بالعشائرية والطائفية والجهوية والمحلية .. يردد الشعارات من دون تفكير مسبق بها .. لا يصحح مفاهيمه القديمة .. يحمل تناقضاته الى اي مكان يذهب اليه .. لقد انهارت الامة مع زيادة النكسات والهزائم ليس العسكرية حسب ، بل النفسية والفكرية والاخلاقية .. لقد عشنا في القرن العشرين ، وشهدنا مأساة الحروب الباردة العربية بين سياسات الدول وما كان هناك من اعلام كله ردح وسباب وشتائم .. لقد عشنا حالات التراخي وضياع الازمنة الثمينة في الهوس وترديد الشعارات .. لم يعد الضبط والربط موجودا في دول عدة ، بل واندلعت حروب لا معنى لها قتلت زهرة شبابنا وازهقت ارواحا بريئة وبددت ثرواتنا هباء .. لم نجدد انفسنا مع توالي الايام والازمان .. لم تجد مجتمعاتنا فسحة من التغيير من اجل بناء وعي جديد بالزمن والتقدم .. هيمنت على العقول وكبست على الاذهان تلك التقاليد العمياء باسم المحافظة على التراث والاصالة .. كان الاضطهاد والاستبداد نجده في كل مكان ، فلا اية مساحة ، بل ولا حتى هامش صغير للحريات .. ساد القمع والكبت في كل مكان .. كل هذه وتلك جعلت مجتمعاتنا تتفكك ، ونخبها تهاجر ، واجيالها تنغلق ، وشارعها يصمت ..
www.sayyaraljamil.com
الوسط ، 22 فبراير 2008
شاهد أيضاً
ممكنات التقدّم : من اجل مشروع في الاصلاح والتغيير (الحلقة الثانية)
كنت قد حللت قبل سنوات وثيقة الاسكندرية للاصلاح ، والتي تعتبر واحدة من اهم الوثائق …