قد يظن البعض انني اعشقها، ومن قال لا، بيروت انت الحب، وانت السهر والضوضاء، وانت عروسة البحر،اساطيرك كطائر الفينيق،تصلبين ثم تقومي من تحت الركام اقوى مما كنت ان الذي لا يعرفك في ايام العز يتعذر عليه ان يصدق انك انت لذة العيش في الشوارع المزدحمة وازقتك الضيقة وبحرك الأزرق الجميل، انك الاسطورة الكبرى التي تحكي حضارة عمرها من عمر الإنسان، مار جرجس بطلك وسمي بحرك على اسمه، بواباتك السبعة من قبل الرومان وما بعدهم بقايا اعمدة طمرت في التراب اخفت معالمك واثارك التي شغلت بال مثقفي الاغريق والعرب والفرس والرومان والترك انهم يكتشفونها اليوم، اسمك بيروثا الامبراطورة الرومانية، اعذروني اقرأوا جواد بولس، فيليب حتي، احمد سويد انيس فريحة وطوني مفرج، وكبيرلبنان سعيد عقل، اما انا فلي الكلام عن شارع البورصة الذي عشت فيه ما يقارب الربع قرن.هذا الشارع قلب بيروت النابض ليل نهار،انه لا يتجاوز المئة متر انما هذه الامتار هي الحركة الدائمة كباقي الشوارع المتفرعة من ساحة البرج، اذ لم تخونني الذاكرة هناك الحلاق والصراف والساعاتي والخياط والمطعم والسينما والمختار وسوق الخضار والسمان وبائع الزيت والزيتون ومقهى الفندق العربي الى جانب المحتال والنصاب والنائب والوزير وكل من هب ودب وجموع غفيرة تأتي بسيارات الاجرة والباصات من الجبال القريبة ومن البلدان المجاورة حتى من وراء الحدود.
مكتب عملي في وسط هذا الشارع الذي احببت كل من فيه خليط بشر وقلوب طيبة اننا كنا نعيش في هذا الشارع ليس كأصدقاء بل كأخوة نساعد بعضنا البعض ونكمل بعضنا البعض.
وكان قد فرز هذا الشارع نخبة اصبحت عالما قائما بذاته يسمونها محترفي لعب طاولة الزهر (النرد) واجمل اللقاءات كانت في مقهى ابي طه وهو عبارة عن مدخل طويل لبناية البورصة القديمة تتوزع على جانبيه الطاولات والكراسي اما رواده الدائمين هم من اهل الشارع.
الساعاتي نقولا عبد الجليل والصيرفي اصلان واالحلاق نزار السيوفي الذي اصبح مختارا عن محلة البسطة التحتا وعبد الرحمن طبارة صاحب معمل الجبن وابو سركيس الارمني صاحب محل لبيع الاحذية وابو السعود الخباز صاحب مطعم النصر الجديد واشهر لاعب طاولة كان في ذاك العصر زكي عباس الاصفهاني الزبون الدائم في هذا المقهى.
كنت اقف ساعات وانا انظر الى هؤلاء المهرة في لعب النرد،وكانت تستهويني مشاكساتهم وانفعالاتهم وقهرهم لبعضهم عندما يغلب احدهم الآخر وينقسمون على بعضهم البعض في ضحك متواصل ورفيق اليوم عدو الغد وهكذا دواليك، كنت انظر الى هؤلاء فأقول في نفسي كل واحد منهم سيعيش مئات السنين حيث لا هم لهم الاّ هذه الطاولة، الى ان اخذت اقرأ أفكارهم بعد ان حدثتهم عن اعمالهم وعيالهم فعرفت ان كل واحد همه على قده كما يقول المثل وما هروبهم الى هذا المقهى الاّ لنسيان ما كان قد تراكم عليهم من مشاكل اجتماعية ومالية،تقريبا عرفت الكثير عن اسرارهم الاّ زكي عباس اصفهاني، انه رجل في اواخر العقدالسابع من عمره لا يتكلم الا قليلا لست ادري اهي طبيعته هكذا ام لغته العربية المكسرة لا تسمح له ان يشارك في كثير من الكلام وقد سمي بالاصفهاني لأن اصله من اصفهان، كنت احب طريقة لعبه واغلب الاحيان كنت اقف وراء كتفه وذات مرة نظر الي وقال ستكون من احسن لاعبي النرد،واضاف يمكنك ان تتعلم لعب النرد في مدة قصيرة بل ستأخذك سنين طويلة حتى تصبح من المحترفين.
كنت انذاك في العشرين من عمري وكنت في بحر النهار اخطف رجلي الى مقهى ابي طه لكي انظر الى هؤلاء المهرة حيث لم يكن عندي في ذاك الزمان الا هواية القراءة فضفت اليها هواية لعب النرد وصممت ان اكون من الماهرين في هذه اللعبة التي اخذت وقتا طويلا مني وانا انظر الى احجار الطاولة والزهر والى الاصابع التي تقذف الزهر وكيف يُكمش الزهر حتى ينال اللاعب ما يريد، وهكذا اصبحت من اللاعبين ولكن من الدرجة الثانية اولا لحداثة عمري وثانيا ان ابا سركيس والاصفهاني وطبارة وغيرهم كانوا لا يجلسون مع الهواة، الاّ ان تصميمي زادني اهتماما ليس من باب الفضول بل لكي اثبت انني جدير بذلك.
ذات يوم وكان البرد قارصا والهواء البارد يمر مسرعا بين بنايات شارع البورصة واذا بصديقي وقريبي الشاعر والمسرحي عصام محفوظ يقول لي تعال نشرب فنجانا من القهوة في مقهى البورصة، ولست ادري ما هو ذاك السر الذي كان يجمع الشعراء والكتاب في هذا المقهى الصغير وكان يتردد دائما الى هناك شاعران عراقيان وكلايهما بعقلية مختلفة هما احمد الصافي النجفي ومظفر النواب وما ان دخلنا المقهى حتىالقى علينا السلام الشاعر احمد الصافي النجفي الزبون الدائم كزكي عباس اصفهاني ودار حديث عن الشعر فقلت لهما المعلم سعيد عقل اغنانا بابيات لبنانية للعبتنا المفضلة.
هنا تحت كل ترابة مفاتن مجد
هنا جيل الاساطير اشهى
ولا الشمس ابهى
أحايين يغري سهوله بفل وورد
أحايين يلعب يغري البطولة برمية نرد (لبنان ان حكى)
ما ان انتهيت من شعر سعيد عقل حتى سمعت زكي عباس موجها اليّ الكلام، شو صرت تعرف تلعب او بعدك وزوز اي عصفور زغير، فجوابي كان اني اتحداك والشرط خمس ليرات تحت الطاولة، ولما لم يكن هناك اي لاعب هز رأسه علامة الايجاب واضاف قائلاالمشروب وترويقة الكنافة بجبن من محلات احمد خليل العريسي على الخسران فقبلت التحدي.
بالحقيقة ضربت اخماسا باسداس حيث انني لن اخسرشيء اذا لعبت معه، وكانت المجازفة سهلة لي باعتبار اذا خسرت اكون قد لعبت مع احسن لاعب في المقهى ومن ثم سيقول لاعبي الدرجة الاولى هذا الشاب لو لم يكن من الشطار لما لعب معه زكي عباس وكذلك ستكون سمعتي مقبولة عندهم،وما ان انتهت الجولة الاولى حتى بدأ اللاعبون بالتوافد وكان اولهم ذاك الخبيث ابو سركيس الارمني، وفورا بادر بالكلام هيدا زكي صار خرفان عم يلعب مع واحد من جيل اولاد اولاده وكان يهزأ مني ومنه كعادة لاعبي النرد، ثم وضع يده على كتفي وقال بلهجته الارمنية ( ولن بابا اغلب هذا زكي وانا سألعب معك) كأنه امير قبيلة او زعيم وفورا اجبته ولما هذه الشرفية والاخلاقية منك اهي تشفي بزكي عباس وعلى هرج بعد ان تجمع الصف الاول وكان منهم الهازيء من زكي والراثي لأمري وكالعادة التعليقات كثيرة بين هرج ومرج.
كنت واثقا من نفسي وكنت العب مع زكي عباس بنفس اسلوبه تماما كأنها نسخة عنه وهذا يعود الى مزاولة تطلعي على لعبه منذ زمن والايام العديدة والساعات التي اضعتها وانا اتفرج على هؤلاء اعطتني الخبرة ولكني لا انكر ان قلبي كان سريعا بدقاته وما زلت اذكر ان رجلي اليمين كانت ترقص لوحدها، بعد ان شربت فنجان القهوة طلبت من عليّ بثان وكنت ادخن بنهم غريب ومع سيجارتي الثالثة كنا قد اشرفنا ان نكون متساوين اربع حصص لي واربع مماثلة له اما الحصة الخامسة هي التي تقرر، ولما كانت لعبة النرد نصفها لعب ونصفها حظ تعالى اللغط عندما كسبتها.
الموجودون انقسموا منهم من تشفى بزكي لأنه لعب مع واحد اقل منهم خبرة، ومنهم من كان ضدي لانهم لا يحبون ان يخسر احد رفاقهم ولا يريدون من هو اصغر منهم في ان يتحداهم يوما ما،ونظرت الى زكي عباس وكأن مقامه قد انحدر امام اللاعبين، فنظر بوجهي مليا وبرمشة مني لعبنا جولة اخرى اعادت اليه اعتباره اما انا فكسبت الشهرة ليس الاّ ودفعت ثمن المشروب ولم اعد الى ذلك المقهى الاّ لشرب القهوة فقط.
جورج شمالي
محرر الأممية اللبنانية
شاهد أيضاً
حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال
أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …