الرئيسية / الرئيسية / رموز وأشباح الحلقة 29 : من أغنية زوروني الى أغنية عالروزانة

رموز وأشباح الحلقة 29 : من أغنية زوروني الى أغنية عالروزانة

رموز وأشباح
الحلقة 29 : من أغنية زوروني الى أغنية عالروزانة
أ.د. سيّار الجميل

قصص لا اساس لها من الصحة
كتب الصديق خالد القشطيني مقالته عن تأصيل الاغنية الشهيرة ” زوروني بالسنة مرة ” عراقيا، ازاء تمصيرها او لبننتها بسبب من قام بغنائها لاحقا ، وهي في الاصل للموسيقار الفذ الضرير الملا عثمان الموصلي ، 1854 – 1923 م ، ولقد ذكرني ذلك باغنية عراقية قديمة اخرى منبتها الموصل ولنفس ذلك الموسيقار الاعمى الذي تفوّق بابداعاته على الجميع ابان زمن النهضة ، ولكن هي الاخرى أجدها قد استلبت على امتداد القرن العشرين ، وكثر المدّعون انهم أصحابها ، ذلك ان اغنية ” عا الروزانه “، قيل عنها الكثير ، وانها اسم لسفينة جاءت محملة من الدولة العثمانية بالتفاح والعنب لضرب التجار البيروتيين ( كذا ) ، وكأن المسافة قريبة جدا بين قريتين كالغوطة ودمشق ، او كزحلة وبيروت ! وراحوا المؤولّون يعبرّون عن محبة تجار حلب لأهل بيروت ، وان الاغنية تعبير عن تآزر السوريين واللبنانيين دون ان يعلموا ابدا ان السفينة لا يمكن ان تمشي على الارض ! انني لا افرّق بين اي بلد عربي وآخر ، ولكن الذي دعاني الى البحث عن هذه ” الحالة ” الملتبسة هو السعي لتأصيلها واعادة الحق الى أصحابه ، ما دمنا قد اكتشفنا بعد سنوات من ” البحث ” ان صاحب الكلمات قد كتب هذه الاغنية واسمه عبد الله راقم افندي الموصلي ، وعرفنا صديقه الذي لحنها وهو الموسيقار الملا عثمان الموصلي .
وكان الاعلامي السوري سعد الله الاغا قد نسج هو الاخر قصة من خياله لينفي لبنانية الاغنية ، ويختلق تفسيرا غريبا لجعلها اغنية سورية بقوله : ان مجاعة ضربت بلاد الشام في اوائل الحرب الاولى ، وان العثمانيين الاتراك جمعوا القمح للجيش فجاع الناس ، فتوجهت من ايطاليا باخرة اسمها الروزانا الايطالية نحو بيروت ، ولكن الحرب التي دخلتها ايطاليا الى جانب الحلفاء فحوصرت الشواطئ ولم تصل ، فاقدم تجار حلب على تزويد لبنان بالقمح واستلام محصول التفاح كبديل عنه تهريبا مع تغطيته بالعنب !! ( كذا ) ولم يخبرنا الاغا على اي مصدر اعتمد في كتابة هذه القصة ! وهناك تفاسير اخرى لا اساس لها أيضا من الصحة ابدا .

السفينة ريجينا الغريقة وليست روزانة التي لا وجود لها !
ولما اكتشفت في مخطوط ديوان الشاعر عبد الله راقم افندي 1853- 1891 م ان هذه الاغنية قد كتبها بنفسه في جلسة سمر ، واتفق مع صديقه الموسيقار الضرير الملا عثمان الموصلي على تلحينها ، وهي تحكي قصة عاشقين كانا يلتقيان خلسة وراء الروزانة ، والاغنية تحكي قصة ذلك العاشق الذي راح الى حلب بعد ان افتقد حبيبته اثر اغلاق اهلها للروزنة ( التي يسميها الموصليون بـ الغوزني ) ، والروزانه هي فتحة تبني في البيوت القديمة بالموصل، ويسميها البغداديون ( الرازونه )، وهي ليست كما اشاع السوريون واللبنانيون اسم سفينة ايطالية ، وقد تحققت من ذلك في بحثي في تاريخ البحرية الايطالية ، فوجدت هناك سفينة اسمها ( ريجينا ) وليست ( روزانا ) وبنيت ريجينا منذ زمن طويل ، اذ يقول تاريخها بأنها قد تحطمت عام 1872 في عاصفة قوية جدا بالبحر History of Regina, broken up in 1872 ، فأي سفينة هذه اسمها روزانة ركبت حولها المخيلة العربية قصصا لا اساس لها من الصحة ابدا ؟! والشاعر راقم افندي قد اشتهر بشعره ابان عصره وخصوصا في كتابته للتنزيلات الموصلية التي كان يصدح بها رواد المقام الموصلي ، كما ويعد هذا الشاعر الرائد العربي الاول في كتابة الاناشيد الحديثة ، وكان يحتل منصبا رفيعا في الدولة ، وكان الموسيقار الملا عثمان من اصدقائه .

غمط حقوق الموسيقار الضرير الملا عثمان الموصلي وابداعاته
وشاعت الاغنية ” عالروزانة ” في الموصل ، وهي من تلحين الملا عثمان بايقاع الجورجينا العراقي ، ولما ارتحل الرجل الى العاصمة استانبول ، وتلقاه بالتكريم أحمد عزة باشا العمري الموصلي ، الذي كانت له مكانته في العاصمة ، وهو ابن محمود أفندي الذي كان قد اعتنى بتربية الطفل الضرير عثمان ، وكان احمد عزت باشا قد أسكنه عنده واشتهر هناك بقراءة المولد والتنزيلات الموصلية ، فحفّ به الناس، وطار صيته حتى طلبه السلطان عبد الحميد الثاني ليغني عنده فاعجب به وأثنى عليه ، ثم حل في دمشق وانتسب الى الطريقة المولوية واشاع الحانه فيها ، والتقى به في دمشق الفنان المصري سيد درويش وتعلم الآخير منه الكثير ، ومن ثم انتقل الملا عثمان الى مصر وعاش بالقاهرة ، واصدر صحيفة المعارف فيها ، ولازمه فيها كل من الفنانين السيد الصفتي وسيد درويش وغيرهما ، وكما شاعت اغنية ” زوروني بالسنة مرة .. ” في مصر ، اشيعت الاغنية ” عالروزنة ” في بلاد الشام ، وكل من هاتين الاغنتين وموشح آخر هو : ” يا من لعبت به الشمول ” من الحان الموسيقار الضرير ملا عثمان الموصلي ، ويغني الاخير الفنان الراحل ناظم الغزالي ، ولدى المؤرخ العراقي ما يثبت ذلك عن الروزانة على الورق كوثائق .. ولقد انتقلت الروزانة عبر مدن فلسطين الساحلية الى قلب الشام عبر لبنان ليقول هذا بمصرية الاغنية ، وذاك بفلسطينيتها ، او الاخر بلبنانيتها ، او الاخر بسوريتها بين دمشق وحلب ، ويتنافس الجميع عاطفيا .. ولكن الحقيقة ، انها موصلية عراقية حالها حال اغنية ” زوروني كل سنة مرة حرام ” ..

اغنية عالروزانة للشاعر الموصلي عبد الله راقم افندي
دعوني أتلو عليكم نص الاغنية كما وردت في ديوان صاحبها الشاعر الموصلي عبد الله راقم افندي ( المتوفى عام 1891 بالموصل ) وكان بمنصب رئيس الدائرة السنية المرتبطة مباشرة بالباب العالي ويتمتع برتبة ” الدفتردار ” والروزانا من تلحين صديقه الموسيقار الضرير الملا عثمان الموصلي ، وانظر الصفحة 133 من الديوان :
عالروزانا عالروزانا روح الهنا فيها
احلف يمين الهوى نرجّع لياليها
وين اللي حبّوا قلبي ووين االي عنو مالو
تاركلي الهم حبيبي وهو مرّيح بالو
يامن يردو جوابو او يبعت سؤالو
نستحلي كلمي قلو يفهم معانيها
ياولفي خدني من هجرك يكفاني
غيرك وحيات الهوى مالي حبيب تاني
اشون ترتاح فكاري ودموعي بأجفاني
والنوم مجافي عيوني وعاش السهر فيها
عالروزنة عالروزنة كل الهنا فيها
وش عملت الروزنة الله يجازيها
يا رايحين لحلب قلبي معاكم راح
يا محملين الرطب تحت الرطب تفاح
كل من وليفه معو وانا وليفي راح
يا رب نسمة هوا ترد الولف ليا
لاطلع عا باب الجسر واحدو مع الحادي
واقول يا مرحبة نسّم هوى بلادي
يا رب يغيب القمر لأقضي انا مرادي
وتكون ليلة عمر ، والسرج مطفية

هذه الاغنية مكتوبة باللهجة العامية الموصلية وقد جرت بعض التبديلات فيها ، فقد تغيرت كلمة ” الرطب ” العراقية الى كلمة ” العنب ” ، وتغير ” وش عملت الروزنة ” الى ” شو عملت ” ، وتحولت ” قلبي ” الى ” حبي ” ، وتبدلت عا باب الجسر ” الى عا راس الجبل ” وتغيرت ” واحدو مع الحادي ” الى ” واشرف على الوادي ” .. و تبدلت ” ليلة عمر ” بـ ” ليلة عتم ” الخ

وأخيرا ، سواء أصر كل من اللبنانيين او السوريين او المصريين على ان هذه ” الاغنية ” سورية او لبنانية او مصرية او فلسطينية ولا يعترفون بعراقيتها ، فهم اهلنا ، فهي أغنية دخلت بكل كلماتها ولحنها وقوة تأثيرها الوجدان العربي ، ومهما قيل من تفاسير وتأويلات وادعاءات ، فان الحقيقة التاريخية تشير الى اصلها وثائقيا ، خصوصا وان اغنيات اخرى من ابداعات الموسيقار الملا عثمان قد شاعت هي الاخرى ، واستلبت هويتها بنفس الطريقة . أن «الروزنة» كلمة شعبية موصلية عراقية شائعة، وينبغي الاعتراف بذلك بدل الصاقها باسم سفينة لا وجود لها .. ستبقى “الروزنة ” مغروسة في الوجدان الشعبي ، وستبقى مكانتها كبيرة وعميقة ومؤثرة بكل ايحاءاتها .. وسيبقى اسم كل من ناظمها وملحنها في ذاكرة التاريخ نظرا لعظمة هذا الاثر الخالد وكل ما فيه من حلاوة وطلاوة وما تميز به من دفء عشق ومعاناة حب .

تنشر بتاريخ 23 شباط / فبراير 2020 على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp/

الصور المرفقة :
صورة الشاعر الدفتردار عبد الله راقم افندي الموصلي
صورة الموسيقار الضرير الملا عثمان الموصلي
صورة المطرب الحلبي الشهير صباح فخري
صورة الفنانة الكبيرة فيروز

واستمع الى الروزنة بصوت صباح فخري على الرابط التالي :
https://www.youtube.com/watch?v=vfPvpP51Vdc
واستمع الى الروزنة بصوت فيروز على الرابط التالي :
https://www.youtube.com/watch?v=pMG_ik_my0U

شاهد أيضاً

رموز وأشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز / يوليو 1958 لماذا لم يتمّ رفع السرّية عنها بعد مرور اكثر من ستين سنة على الحدث ؟

رموز واشباح الحلقة 42 : برقيات وشفرات أميركية أرسلت من بغداد طوال يومي 14-15 تموز …