بمزيد من الحزن والاسف نفتقد رجلا رائعا من اصدق الاصدقاء وانبل الاوفياء ومن امهر العلماء الاطباء ومن اوفى المحبين العاشقين للعراق وبالذات الموصل الحدباء ، الا وهو الاستاذ الدكتور اسماعيل بن قيدار الجليلي الذي وافته المنية صباح اليوم السبت الموافق 14 أيلول / سبتمبر 2019 في مستشفى مدينة بيتربرا Peterborough City Hospital في مقاطعة كيمبرج شاير ببريطانيا اثر مرض عضال عانى طويلا منه . والاخ اسماعيل هو احد سليلي الاسرة الجليلية المعروفة في الموصل وكان ابن رجل قانون وعمه العلامة الدكتور محمد صديق الجليلي عالم الفلك وصانع المزاول ( جمع مزولة ) في الموصل ، وقد كان قد درس الطب اذ تخرج في كلية طب القصر العيني بجامعة القاهرة في العام 1971. ثم اكمل دراسته في لندن ثم عمل في مستشفياتها ومراكزها البحثية ، وغدا عضوا في الجمعية الملكية البريطانية لجراحي العيون ، وبرع في تخصصه بجراحة العيون وغدا من ابرز اطباء العيون في بريطانيا ونشر عدة بحوث في مجال الامراض الوراثية التي تميز بها ، فضلا عن ثقافته العامة ومتابعته للتاريخ والعلوم الاجتماعية . أما والدته – رحمها الله – فهي السيدة ابتهاج الفرا ، وهي من سوريا – .
ان الجليلي الدكتور اسماعيل سمي بذلك تيمنا بالجد الاكبر اسماعيل باشا الجليلي مؤسس الاسرة الجليلية في الموصل في بدايات القرن الثامن عشر وكان الجد المؤسس اسماعيل باشا قد نصّب واليا على الموصل و خلّف كل من حسين باشا الجليلي وعبد الفتاح باشا الجليلي ، ونصب حسين باشا واليا للموصل وكانت له صولات عدة ضد حملات ايران على العراق ودافع حسين باشا مع اخيه عبد الفتاح عن الموصل بمعية اهاليها جميعا في صد الغزو الفارسي الكبير على يد نادر شاه الذي حاصر الموصل حصارا شديدا عام 1743 م / 1156 هـ والذي اندحر وعاد نادرشاه لبلاده مهزوماً قبل اكثر من قرنين ونصف . وقد حافظت الموصل على هويتها ووحدتها ونسيجها الحضاري منذ ذلك التاريخ .. وهناك تاريخ مفصّل اعتنى به العديد من المؤرخين القدماء والمحدثين اذ يعدّ فشل نادرشاه وايقاف حملته تلك التي شارك فيها اكثر من 400 الف مقاتل علامة فارقة في تاريخ الشرق الاوسط برمته اذ خدم ذلك الحدث في النصر المؤزر على ايران النادرية كل المنطقة بمنع تمددها نحو البحر المتوسط .
واجتزأ بعض ما كنت قد كتبته عن الدكتور اسماعيل الجليلي اذ كان قد حدثني انه كان من الطلبة العراقيين المتفوقين فكان ان انخرط في كلية الطب بجامعة بغداد ، وكان من انشط السياسيين ولكن اختلف مع البعثيين، فاعتقل بسبب نزعته القومية التقدمية من قبل سفاح حزب البعث الشهير ناظم كزار ، وكان اسماعيل في الصف الرابع طبية وتعرض للتعذيب الشديد في قصر النهاية اكثر من سنة ونصف بسبب بعثيته اليسارية ، وبعد ان اطلق سراحه قرر مغادرة العراق نهائيا ، فغادر الى مصر مباشرة حيث اكمل دراسته الاولية في الطب وتخرج في كلية طب القصر العيني بجامعة القاهرة في العام 1971.. وآثر ان يكمل دراسته في بريطانيا التي غدا فيها لاحقا من الاطباء المشهورين . رحمه الله .
لقد توثقت علاقتي به منذ سنوات طوال ، ومنذ اواخر عقد السبعينيات ايام دراستي في بريطانيا ، والتقيت به عدة مرات ، فوجدته نعم الصديق الذي يتمتع باخلاق عالية ، وتمتع بقسط وافر من الذكاء والمتابعة فضلا عن عشقه لوطنه ومتابعته لشؤونه مع نمو فكره وعمق تحليله ، فضلا عن انسانيته ومروءته وتواضعه .. وكانت له انشطته السياسية منذ شبابه المبكر ايام وجوده في مصر ،اذ كان قد انخرط في تنظيم قومي تقدمي ، ولكن تركه مع بقاء نزعته العروبية وايمانه بحقوق الانسان والتقدم .. كان يأمل ان يكون العراق بعد زوال العسكر والدكتاتورية بلدا متقدما وحضاريا ، وكان يعمل في هذا الاتجاه اذ كان يسعى لتشكيل سياسي حضاري مدني ، وكنا نتبادل الرسائل في هذا الصدد ولكن كان التيار اكبر مما نتصور ( وساكشف لاحقا بحول الله عن ذلك بالتفصيل ) ..
حكى لي عن زيارته الاولى للعراق بعد 2003 ، كما راقب اوضاع العراق المتدهورة بعد احتلاله ، وبين 22- 26 ابريل 2006 التقيت معه في مؤتمر دولي كان مخصصا لاغتيالات الاكاديميين العراقيين عقد في مدريد ، وقد قدم ورقة ممتازة للمؤتمر شرح للعالم بالارقام والرسوم والدايكرمات اعداد ما اغتيل من اكاديميين عراقيين ظلما وعدوانا ، وتحدّت عن الهجمة البشعة ضد المجتمع العراقي .. وبعد سنوات ، فوجئت بالرجل وهو يحضر محاضرة لي قدمتها في لندن عام 2013 ، وكان مهموما باحوال الموصل .. والتي زارها والتقى فيها مع اهله واصدقائه ، وقرر الاقامة فيها ، اذ بنى له بيتا ، ولكنه غادرها بسبب سوء الاوضاع فيها ، وكان يزداد حزنا وكمدا على مصيرها .. عانى الدكتور اسماعيل من مرض عضال وانقطعت رسائله ليرحل اليوم مأسوفا عليه رحم الله الفقيد رحمة واسعة واسكنه فسيح جنانه .. وبهذه المناسبة الاليمة لا يسعني الا اقدم عميق التعازي واحر المواساة الى العائلة الجليلية الكريمة في الموصل وكل اصدقائي في بيوتاتها انا لله وانا اليه راجعون .
سيار الجميل تورنتو / كندا في 14 ايلول / سبتمبر 2019