مقدمة
هذه حلقة جديدة اخرى من حلقات كتاب ” رموز واشباح ” ، وستعقبها حلقة اخرى اخطر تتحدث عن انقلاب عسكري 18 تشرين الثاني 1963 ضد البعثيين بقيادة عبد السلام عارف واسبقياته اذ سبقه انقلاب حزبي بعثي بين البعثيين انفسهم .. وهنا ليدعني القراء الكرام اقول بأن كل المعلومات التاريخية الواردة هي معتمدة على مصادر ووثائق .. وهي تكشف ما جرى في العراق بعد 14 تموز / يوليو 1958 .
عبد السلام عارف يقطف الثمار
بعد 8 شباط / فبراير 1963 ، تفجرت خلافات داخلية بين جناحين بعثيين من المدنيين ، اولاهما يقوده عل صالح السعدي وجماعته ، والثاني يمثله طالب شبيب وحازم جواد وجماعتهما . وأمام تفاقم الخلاف الحاد بين الجناحين وتدهور الاوضاع السياسية الداخلية ، قام عبد السلام عارف في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1963 بحركة عسكرية سريعة انقّض فيها على البعثيين الذين اتوا به الى رئاسة الجمهورية ومنحوه رتبه المشير الركن وجعلوه قائدا عاما للقوات المسلحة .. فنجح في اقصائهم بتحالفه مع الضباط العسكريين ، واقصى من خلالها أغلب البعثيين عن الحكم ، وحل مليشيات الحرس القومي ( الذي اسماه باللاقومي ) ، وكان هو نفسه قد لبس لباسهم ووقف معهم في الشوارع ، كما قام بتسفير ميشيل عفلق وأمين الحافظ عن العراق بعد اعتقالهما لساعات ( ولم يمسسهما بأذى جراء تعليمات وصلته من مكان ما في العالم ، فالتزم بها ) ، وقد سمى البعثيون تلك الحركة بـ ” ردة تشرين ” ، اذ انها وقعت في 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963 وقالوا بانهم جلبوا عارف من بيته يوم 8 شباط 1963 لينصبوه رئيسا للجمهورية لأول مرة ويمنحوه رتبة ( مشير ) ، وبتوصيف من صدام حسين في ساحة الكشافة ( اعتقد عام 1970 ) قال بالحرف الواحد ” خلينا عبد السلام ورانا ، مد ايده بالخرج ” ( والخرج بالعراقي هو ما يحمله رعاة الاغنام لوضع حاجياتهم فيه ) !! في حين سمّى عارف نفسه اعلاميا ( ابو الثورات الثلاث ) .. وفي شهر شباط 1964 ، أوصى ميشيل عفلق بتعيين صدام حسين عضواً في القيادة القطرية لفرع حزب البعث العراقي ، وكان جهاز حنين قد تشكّل على يد صدام حسين ليباشر مهمته في التصفيات الدموية ( التي اسموها بالممارسات الثورية ) .
دعونا نعالج الحدث تاريخيا بتفاصيل موثقة
انشقاقات البنية السياسية للبعثيين وعوامل الفشل
لقد عصفت الخلافات السياسية الداخلية في قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي لم تكن عناصره متجانسة اجتماعيا وثقافيا ، اذ ان اعضاءه ينتمون لطبقات متباينة متمايزة اجتماعيا ، فضلا عن كونه خليط من اهل الريف والمدن فالاختلافات الثقافية الحادة انعكست على وجوده السياسي ، وبالرغم من ذلك كله ، فان جله كان من الطبقة البرجوازية الصغيرة ، ومع توالي الزمن ، انضم ابناء المتريفين اليه في المدن ، فغدت تركيبته صعبة جدا مما خلق جملة صراعات داخلية فيه ، وهي صراعات تباينت من بيئة عراقية الى اخرى . ومما اساء الى بنيته السياسية ان اغلب المنتمين الاوائل اليه كانوا من الطلبة الذين وصلت نسبتهم الى حوالي 50% في حين بدت نسبة الفلاحين فيه 5% و20% من العمال ، وان المتبقي 25% قد جمع معلمين وضباطا وعسكريين وموظفين واصناف من المهنيين والعاطلين ، وان اغلب الفلاحين من الجنوب ، ولكن اغلب العسكريين من سنة بغداد وما يعلوها وان القيادة الاولى كانت من 3 سنة و5 شيعة ، ومن مجموع 52 من قادة والكادر المتقدم للحزب ، كان 38,5% منهم من السنة، و53,8 % من الشيعة، و7,7 % من الأكراد الفيلين.
لم يقتصر الامر على تباينات البنية الحزبية ، بل على صراعاتها الخفية في دواخلها ، اذ ساوى الحزب بين الخيرين والاشرار ، وبين ذوي الكفاءات والجهلة ، وبين ابناء المدن وابناء الريف ، وبين الاذكياء والاغبياء ، فكانت البنية الحزبية محفوفة بالمخاطر والتوجهات جراء حركة المد والجزر في الافكار والتطلعات خصوصا وان نسبة عالية من الشباب الذين لم تتجاوز اعمارهم عموما على العشرين عاما كانوا من الطائشين – كما وصفهم مؤسس البعث ميشيل عفلق بعد الذي جرى في 8 شباط / فبراير 1963 ، واكتشف بأنهم ليسوا من عيار قيادة بلد، وشعب !! وقال عفلق في اجتماع مغلق عام 1964 وهو يصف احوال ما بعد 8 شباط في العراق : ” بدأت اشعر بالقلق من فرديتهم وطريقتهم الطائشة في تصريف الامور . واكتشفت انهم ليسوا من عيار قيادة بلد وشعب ، بل انهم يصلحون لظروف النضال السلبي ” ! وتحدث عن نزوات البعثيين العراقيين واهمالهم وارتجالهم ونزاعاتهم الشخصية وتسابقهم الى المناصب والمغانم .. ( راجع كتاب بطاطو ، ج3 ، ص 325 ، 328 ) ، كما وان حكم عبد الكريم قاسم وما جرى فيه من ممارسات خاطئة ، دفعت نقمة البعض من الشيوعيين الارتماء في احضان البعثيين . وعليه ، فان من الصعب ان يكون هؤلاء ممثلين لبنية سياسية قوية اولا ، كما انهم غير قادرين على حمل ايديولوجيا سياسية ثانيا ، فضلا عن ان عناصرها قد برزت ممثلة لتكتلات جهوية او عشائرية او طائفية ثالثا كما توضح ذلك لاحقا من تاريخ البعثيين في العراق .
عبد السلام عارف تغدّى بالبعثيين قبل ان يتعشوا به
كان عبد السلام بالنسبة للبعثيين ورقة مهمة لهم ، فهم غير معروفين ارادوا التسلّق على سمعته التي حصدها يوم 14 تموز 1958 وايضا بعد محاكمته امام المهداوي عام 1959 كونه يمثّل زعيما للتيار القومي .. بعد يومين فقط من تنصيبه رئيسا للجمهورية من قبلهم ومنحه رتبة مشير ركن وهو عقيد ركن ، وجد نفسه يصطدم معهم ، وخصوصا مع علي صالح السعدي الذي طالب بازاحة عارف عن منصبه ، اذ توقّع بأنه سيسبب متاعب لهم وخطورة عليهم ، وهدّد السعدي بالاستقالة اذ لم تستمع القيادة الى رأيه ، لكنه انصاع لرأي جمعي رفضت موقفه .. وقد وصلت المعلومات كاملة الى عارف من قبل حازم جواد وقد اخبره ان السعدي ينوي التخلص منه وقتله . ومنذ الايام الاولى افتقدت الثقة كاملة بين عارف والحزب ، وبدأ عارف يخطط للاطاحة بالبعثيين .
ويبدو ان الاخير وجد في بعض القادة البعثيين العراقيين العسكريين مادة خصبة للتوغل في خطته .. ناهيكم عن ان عارف كان على علاقة قوية بالناصريين والحركيين الذين كانوا على افتراق سياسي وايديولوجي حاد مع البعثيين ، وخصوصا بعد مباحثات الوحدة الثلاثية التي جرت في القاهرة بقيادة جمال عبد الناصر ، فجرت افتراقات في العراق جراء سياسة عبد الناصر ، خصوصا وان القيادة القطرية للحزب قد انقسمت حول تشكيل جبهة قومية واسعة تضم البعثيين مع القوميين والناصريين والحركيين ، وهي التي طالب بها حازم جواد وطالب شبيب ورفضها السعدي وكتلته ، وتأزم الموقف بعد اتهامه بالتعصب والتهور
كان التخندق السياسي واضحا ، فالبعثيون قد انقسموا في ما بينهم ، وكانوا قد غدوا اعداء الّداء من قبل الاسلاميين العراقيين سنة وشيعة وخصوصا الذين خاب رجاءهم منهم ، ومن ممارسات الحرس القومي ، دعك من مواقف الشيوعيين والقاسميين المضادة من البعثيين ، وكان الشيوعيون ينتظرون اي لحظة يطاح من خلالها بخصومهم البعثيين .. وبالرغم من ان عبد السلام كان ضد الشيوعيين والقاسميين ، الا انه وقف على مسافة محددة من الجميع باستثناء الخط الساخن للبعثيين بقيادة السعدي الذي كان يفتقد يوما بعد آخر مكانته الثورية المزعومة ، وخصوصا بعد الممارسات غير المسؤولة لعناصر الحرس القومي في اماكن عدة من العراق .. كما اشتعلت الحرب بين النظام والكرد في 10 حزيران / يونيو 1963 .
الحرس القومي : قشة قصمت ظهر البعير
بعد قرابة 4-5 شهور صعبة ، اي في حزيران / يونيو 1963 ـ تبلورت مواقف جديدة لدى قيادة الحزب ليس بفعل ممارسات الحرس القومي ، ولكن ازاء الفوضى السياسية والصراع بين الجيش وقوات الحرس القومي ، اذ قامت القيادة العليا للقوات المسلحة بتوجيه برقية تحذير الى قيادة الحرس القومي في 4 تموز 1963 تهددها بحل الحرس القومي ان لم تتوقف قيادته وعناصره عن كل ما يعكّر صفو الأمن العام وراحة المواطنين، اذ بلغت النقمة حدا كبيرا من قبل الناس وخصوصا في المدن وضواحيها ضد تصرفات الحرس القومي . ولقد استهان القائد العام لقوات الحرس القومي منذر الونداوي بالبرقية وطالب قيادة الجيش بسحبها والغائها متحديا وقال بأن الحرس القومي قوة شعبية لها قيادة مستقلة، ولا يحق لشخص اصدار الاوامر ، فالسلطة معتمدة شعبياً في ظل ظروف الثورة الراهنة هي المجلس الوطني لقيادة الثورة فقط . هنا ، وصل الامر بعبد السلام عارف نقطة اللاعودة في وضع حد للبعثيين وقلب نظامهم السياسي بأي ثمن ، علما بأنه نفسه قد لبس في الايام الاولى لباس الحرس القومي ووقف معهم في الشوارع . وهكذا وصل التناقض والخلاف بين البعثيين وضباط الجيش، وعلى رأسهم عبد السلام عارف، إلى مرحلة عالية من التوتر، مما جعل عبد السلام عارف يصمم على قلب سلطة البعثيين بأسرع وقت ممكن .
اليمين واليسار في البعث العراقي
بدأ الانقسام يتعمّق داخل قيادة الحزب ، اذ اتفق كل من احمد حسن البكر وحازم جواد وطالب شبيب ( ومعهم عبد السلام عارف الذي لم يكن بعثيا ) للاطاحة بعلي صالح السعدي، واخراجه من الوزارة ، ومن مجلس قيادة الثورة، لكن الظروف لم تكن مؤاتية لهم بتنفيذ هذه الخطوة . وفي 13 أيلول / سبتمبر 1963 انعقد المؤتمر القطري للحزب، وجرى خلاله انتخاب ثلاثة أعضاء بعثيين جدد ، هم هاني الفكيكي وحمدي عبد المجيد ومحسن الشيخ راضي وكانوا من جناح اليسار الذي يقوده السعدي في حين فاز حازم جواد، وأحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش، وكريم شنتاف من جناح اليمين ، ولم يفز طالب شبيب . فتبلور الانقسام بين اليمين واليسار في الحزب ، واخذ اليسار التقرب من الماركسية وتبرئة نفسه من دماء الشيوعيين . وفي اكتوبر / تشرين الاول عقد على مدى اكثر من اسبوعين المؤتمر القومي للحزب في دمشق ، وسيطر اليسار على المؤتمر وقراراته وشن الهجوم العنيف على اليمين وعلى رمزه المؤسس ميشيل عفلق ، وطرحت افكارا راديكالية قوية بتعاون السعدي وحمود الشوفي اذ ضمنا اصوات العراقيين والسوريين ، مما جعل عفلق يبدو محبطا من حزبه ، وفقد الرجل المؤسس قدرته في التأثير والمبادرة .
وبدأ الصراع على الارض
لقد قادت الخلافات الحزبية المبدئية والسياسية بين الجناحين العراقيين المدني والعسكري بعدما غدا مركز علي صالح قويا جدا داخل القيادتين القطرية والقومية ، وأخذ جناحه الراديكالي يطرح افكاره اليسارية والاشتراكية نحو استقطاب اقصى ، اخذ الجناح اليميني وخصوصا من الضباط البعثيين يبدون محبطين جدا وتباعدت مواقفهم وانتزعت ثقتهم الرفاقية ، وقد قاد الانقسام الاول الى انقسام اخر عند البعثيين المدنيين ، وتباعدوا عن مواقف السعدي، وبدا التخندق البعثي واضحا في ثلاث كتل تمثل قوى سياسية في بنية مفككة ممثلة بـ : خندق منذر الونداوي قائد الحرس القومي وحمدي عبد المجيد ممثل اتحاد العمال ، ومحسن الشيخ راضي، ممثل اتحاد الطلبة إلى جانب السعدي، وخندق كل من حازم جواد، وطالب شبيب، وطاهر يحي رئيس أركان الجيش ، وحردان عبد الغفار التكريتي قائد القوة الجوية وعبد الستار عبد اللطيف وزير المواصلات ومحمد المهداوي قائد كتيبة الدبابات الثالثة .. معارضين لجناح السعدي ، وخندق ثالث ممثلا بـ أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش يقف على الحياد، مما جعل السعدي يتهمهما بدفع الحزب نحو اليمين، و هما يؤيدان من يعارضه خفية ( وكان البكر صديقا لعبد السلام عارف اذ كان ينقل اليه كل ما يدور في كواليس الحزب ) .
كان احمد حسن البكر قد اتفق مع عبد السلام عارف على ازاحة السعدي ، فصدر إجراء تعديل وزاري يوم 11 أيار / مايس 1963، اعفي بموجبه السعدي من منصب وزير الداخلية وتنصيبه وزيراً للإرشاد، وجرى تنصيب خصمه حازم جواد مكانه وزيراً للداخلية. فكانت تلك هي الضربة الاولى للسعدي ، ثم جرت محاولة إخراجه من كل من الوزارة ومجلس قيادة الثورة، ثم محاولة القضاء على قوات الحرس القومي بقيادة منذر الونداوي، وكان السعدي يعتمد عليها اعتماداً كلياً. ويحدثني احد الذين عرفوا منذر الونداوي معرفة عميقة عن قرب لاحقا بأن الرجل كان بعثيا حقيقيا وملتزما ونزيها وغاية في الشجاعة والاقدام ، ويأبى الثرثرة وتعظيم الذات اذ يلازمه الصمت في اغلب الاحيان ، وهو جنتلمان في علاقاته سواء ايام بقائه سفيرا ام ايام بقائه في اسبانيا ..
واخيرا : الاسئلة التاريخية
ان اهم ما يمكن ان يتساءل المرء عنه : ما الذي دعا المؤسس ميشيل عفلق وصف البعثيين العراقيين عام 1963 مثل هذه الاوصاف كونه مارسها هو نفسه عندما وصل العراق برفقة امين الحافظ رئيس الجمهورية السورية ؟ ولماذا انتقدهم في اجتماع مغلق وليس في العلن ؟ وسنرى في الحلقة القادمة دوره هو نفسه في الاحداث المريرة .. وهل سيأتي انقلاب عبد السلام عارف من فراغ ضد البعثيين ام سبقه انقلاب حزبي بين البعثيين انفسهم بتدبير من ميشيل عفلق نفسه ؟
ان أهم ما يمكن الخروج منه تاريخيا والتعرف على تجربة حكم البعثيين الاوائل عام 1963 والتي لم يتعلم منها البعثيون كثيرا ، انهم ليسوا جميعا كما وصفهم ميشيل عفلق نفسه باسوأ الاوصاف فالبعثيون ثلاثة اصناف من البشر : صنف يحمل جملة قيم مبدئية وله شجاعته ونزاهته وعمق وطنيته وعشقه للعراق واهله وله تضحياته ، وقد وجدنا الكثير من هؤلاء الذين ان لم يعترفوا بالاخطاء ، فهم صامتون .. وصنف يحمل حماقته وأنويته وفرديته وعدوانيته ويريد اذى كل من يقع فريسة بيديه ، وله طيشه ونزعته الشريرة في ممارسة العنف كجزء من الثقافة البليدة التي يحملها ، ويبقى يدافع عن الاخطاء بقباحة متناهية .. وصنف كبير من الوصوليين والمتسلقين والمداهنين والانتهازيين الذين يهربون او يتبدلون او يبيعون كل البعث بعدة قروش .. هؤلاء طلاب منافع ومناصب ولا يهمهم لا العراق ولا الامة العربية وما اكثرهم ..
ملاحظة : قائمة المصادر والوثائق المعتمدة في نهاية الفصل من كتاب رموز واشباح وهي كثيرة .
تنشر يوم 8 شباط / فبراير 2019 على موقع الدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp
انتظروا الحلقة القادمة عن تفاصيل انقلاب عبد السلام عارف يوم 18 تشرين الثاني 1963