حركة نهضوية عربية جديدة تنبثق في زمنٍ صعب جداً بعد العام 2009، تشابه، إلى حدٍ كبير، تلك الحركة العروبية النهضوية الأولى التي انبثقت قبل قرن، في العام 1909.. فاذا كانت “القومية العربية” قد عاشت مائة سنة 1909 – 2009، وصادفت شتى التحديّات، وارتكبت تحت اسمها جملة أخطاء كبرى، فانحرفت عن منطلقاتها النهضوية المستنيرة، لتغدو أيديولوجيا تتناهبها الأحزاب السياسية والتيارات الأيديولوجية والشوفينيات المتصادمة، فكانت أن أجهزت على “العروبة”، فأخفقت في تحقيق الأهداف النبيلة التي رسمتها وأعلنتها وبوسائل فاشلة، كأن يتم التغنّي بها رومانسياً، أو تتصارع سلطوياً، أو يتلاعب بأمرها ضباط انقلابات عسكرية، أو تتراشق بها جماعات حزبية، فابتعدت عن منطلقاتها النهضوية الأولى، بعدما حقّقت القطيعة التاريخية بين العرب النهضويين والاتحاديين العثمانيين مع نهايات الحرب الأولى، فالنهضة العربية قد استمرت، ولكن الظاهرة القومية قد أخفقت.
ولكن سرعان ما انتقلت عدوى الشوفينيات والأساليب الفاشية والأفكار النازية إليها من أوروبا، فكان أن استعارت، بل وسرقت جملة هائلة من “الشعارات” التي لم تكن تلائم الواقع العربي وضرورات مجتمعاتنا وحقائق أوضاعنا، بل ولم تحقق الأهداف الكبرى والمثالية التي نادت بها، وانتكست انتكاساتٍ مريرة بهزائمها أمام إسرائيل وغير إسرائيل، وخصوصاً بعدما هيمنت عليها قوى الاستبداد وزعامات الطغيان وترييف الفكرة القومية.. وأخيرا الإسلام السياسي بأشكاله العنيفة.
كتبت في مقال لي في “روز اليوسف” المصرية، يوم 25 إبريل/ نيسان 2009، إنه كان من المحتم أن تنهزم القومية العربية، ثقافة وإيديولوجية، كونها عبرت عن مصالح قوى حزبية، أو سلطات انقلابية، وحكومات عسكرية لا تعّبر عن أمنيات مجتمع، وتنمية فكر، واستنارة عقل! وعلينا أن نعلم بأن “نزعة العروبة” قد استلبتها “الظاهرة القومية”، وتحدّثت باسمها لزمن طويل! اليوم، كثيرا ما تشتم العروبة ظلماً وعدواناً، بسبب كراهية الموجات القديمة والجديدة القومية العربية والفكر القومي العربي. ولم يزل القوميون حتى يومنا هذا يدافعون دفاعاً مستميتاً عن تاريخهم، إزاء استثناء ثلة منهم، راجعوا أنفسهم، فوجدوا أن مجتمعاتنا عاشت مخدوعةً خديعة كبرى بفعل الوازع القومي الذي لا وجود له في مجتمعاتٍ لم تكن تعرف إلا ما يجمعها (عروبياً). ولكن مع وجود خصوصياتٍ يختص بها كلّ مجتمع عن الآخر، من المضحكات القومية أن تغدو كلّ هزائمها بطولات عظيمة.
كم هي الضرورة ملحّة هذا اليوم كي ندرك حاجتنا إلى مشروع نهضوي عربي كهذا بعد مئة سنة من زوال الإيديولوجيات وممثليها عن الساحة من زعماء طغاة ومستبدين ومنظرين لأحزابٍ قوميةٍ أساءت كثيراً لتاريخنا ومجتمعاتنا؟ ما أحوج مجتمعاتنا وثقافتنا العربية إلى من ينقذها من العوارض والقوارض التي طرأت في حياتها وظواهرها القاتلة المتمثلّة بانقساماتٍ وصراعاتٍ وحروبٍ باردة وساخنة، وتدّخلاتٍ أجنبية، وشعوبيات، وطوائفيات، وحروب ارتزاق، وسحق مدن، وتمزق مجتمعات.. إلخ.
ثمّة مرتكزاتٌ للعروبة الجديدة، أجدها معايير أخلاقية وقيماً فكرية، وربما تغدو مبادئ أساسية لمشروعٍ عربي نهضوي قادم، إن نجحَ المؤسسون بعقد مؤتمر تأسيسي بعنوان “العروبة الجديدة.. مشروع نهضوي”.. تتبلور العروبة الجديدة اليوم بأساليب حضارية متمدنة لحركة نهضوية بعيداً عن الأدلجة السياسيّة، ويتصدّر مشهدها وريادتها المفكر العربي عزمي بشارة الذي لخّص فكر “العروبة الجديدة”، ورسم ملامح مشروعها بعقلانية ومهارة في حواره القيم الذي صدر في كتاب عنوانه “في نفي المنفى”، بتحرير صقر أبو فخر (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017)، وأيضا في ثنايا أدبياته وخطاباته منذ عشر سنوات مضت. وأدناه جملة من المعايير الأخلاقية والقيم الفكرية للعروبة الجديدة، كما أوضحها بشارة:
أولا، الديمقراطية حلا لقضية الاستبداد، ولا مكان لطغيان السلطة باسم العروبة القائمة على العصبية.
ثانيا، الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة، وتعدّد الهويات في مجال الأمة من خلال الحداثة والتمدّن.
ثالثا، العروبة هي ثقافة وذاكرة تاريخية وانتماء متجاوز للطوائف والقبائل والعشيرة، ولا يمكنها أن تستند إلى الدم، أو تقوم على أساس الجنس والشوفينية.
رابعا، الدين لا يمكن قمعه، فهو حق مشروع لمعتقدات الجماعات المتنوعة داخل الأمة، وأن العروبة الجديدة، في الوقت نفسه، ليست ديناً أو عقيدةً مقدسة أو ديماغوجيا فاشية كما وصفت القومية العربية، إنها انصهارٌ مع الوطن واحترام للمواطن وتعزيز حقوقه وواجباته، لا تقديساً للفكرة أيديولوجياً، أو تسييس الدين أو عبادة السلطة.
خامسا، اعتماد مفهوم دولة المواطنة الناضجة تقوم بها المؤسسّات الفاعلة، وتعتمد مبدأ الفصل بين السلطات، وأن تكون الدولة العربية دولة مواطنين، ومنفتحة على العالم.
سادسا، العروبة الجديدة ترفض الميراث الساخط والبالي، أمة مواطنين منفتحة، لا أمة قومية واحدة مغلقة.
سابعا، الواقعية والعقلانية وتحكيم العقل، لا الرومانسية في الشعارات والأوهام والأفكار المتخيلة، وعدم التعامل معها حقائق ثابتة. وهوية العروبة الجديدة انتماءٌ حضاري وثقافي عابر لكل أوبئة القرن العشرين.
ثامنا، العروبة الجديدة ثقافة نهضوية، وتربية أخلاقية، وعناية لغوية، وذاكرة تاريخية، وانتماء يتعلم من أخطاء الماضي، ومتطلعة إلى بناء المستقبل بالتفاعل مع روح العصر.
تاسعا، العروبة الجديدة مشروع تنويري، ملهم لكلّ الأساليب والرؤى السياسية والاجتماعية والاقتصادية في كلّ البيئات العربية، كي يعمل على تقدّمها نحو الأمام، لا سحبها إلى الوراء.
عاشرا، لمّا فشلت القومية العربية في تحقيق أهدافها كلها في الوحدة والحرية والاشتراكية، فإنّ العروبة الجديدة تقترح لأبنائها منظومة عربية حضارية قوية تعاونية مشتركة منفتحة ومتقدّمة، والسعي إلى إعادة الحقوق العربية كلها من مغتصبيها عبر وسائل العصر الحديث.
وأخيراً أقول إنّ العروبة الجديدة قد انطلقت اليوم، وبالتحديد منذ العام 2009، كما كانت العروبة الأولى قد انطلقت عام 1909، فإن كانت الأولى قد ترجمت نفسها من خلال الجمعيات والمنتديات والمنشورات وتأسيس المؤتمر العربي الأول في باريس 1913، فإنّ العروبة الجديدة ترجمت نفسها بنخبةٍ مستنيرة من المفكرين والمختصين والإعلاميين والمثقفين. وأناشد الدكتور عزمي بشارة بعقد مؤتمر تأسيسي للعروبة الجديدة، من أجل ترسيخ المبادئ الأساسيّة لهذا “المشروع” النهضوي العربي، المتمنّي أن يبقى مستقلاً ومستنيراً، ومعبراً عن حاجات الأمة، وبعيداً عن عبث الدوائر الخارجية، وأن لا يكون عباءة سياسية للتسلّط، أو أيديولوجية للطغيان..
نشرت في العربي الجديد / لندن في 6 اكتوبر 2018 ،
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل