قال الشاعر الجرئ معروف الرصافي :
كان لي وطن أبكي لنكبته واليوم لا وطن لي ولا سكن
ولا أرى في بلاد كنت أسكنها الا حثالة ناس قاءها الزمن
مقدمة
على هامش المقال الذي نشرته قبل ايام والموسوم ” رموز وأشباح منسيّة في العراق ” الحلقة الاولى ، أتصل بي العديد من الاصدقاء والمهتمين والمتابعين حوله ، فمنهم من أثنى عليه مطالبين بكتابة المزيد من تاريخنا الثقافي المهمّش في العراق ، ومعالجة بعض الجوانب الاساسية المعقدة التي عاشتها الاجيال الثلاثة الماضية في القرن العشرين ، وقد تفاقمت اليوم حالاته الى اشبه بمعضلات صعبة اثر ما حدث عام 2003 وما تلاه من تداعيات أحداث صعبة للغاية .. أما البعض الاخر من القراء والمهتمين والمتابعين الكرام ، من قدم عتبه لي ، فهذا يريد ذكر اسم والده ، والاخر يعتب لأنني لم اذكر بعض رموز مدينة معينة .. واخرى تقول واين اسم قريبتها .. الخ من الملاحظات التي تدّل دلالة واضحة على معان سايكلوجية صعبة تعبر عن تعلّق العراقيين بانتماءاتهم للذات لا للموضوع ، بسبب تخندقاتهم السياسية والاجتماعية .. وان كل عراقي يريد تمجيد ذاته او عائلته وعشيرته او مدينته وبيئته او طائفته ودينه ومذهبه .. الخ بمعنى ازدياد تخندقه في صراعه مع خنادق أخرى على حساب المواطنة ! وبالرغم من ضعف الوعي السياسي والاجتماعي بما فيه انكماش النزعة الوطنية ، فان هناك هشاشة فاضحة في الوعي التاريخي ، وان العراقيين بشكل عام لم ينفكوا أبدا عن انتماءاتهم لخنادقهم السياسية والايديولوجية التي تربوا في قيعانها ، ولم يدركوا حتى يومنا هذا ان الماضي قد ذهب وسوف لن يرجع او يعود أبدا .. ناهيكم عن غلبة اطلاق الاحكام المطلقة من دون معرفة التفكير النسبي ، فغاب عنهم معنى الرمز الوطني ، وقد قدمت في الحلقة الاولى للرمز الثقافي قبل السياسي ، ووعدتكم بحلقة قادمة عند نهاية المقال السابق ، ولكن يبدو ان استيعاب معنى الريادة او التمايز او التأشير لأن يكون هذا رمزا معينا لم يستوعب الناس ذلك حتى اليوم .. فليس من المعقول ان يكون كل الشعراء امراء للشعر ، ولا كل اللغويين فطاحل ، ولا كل الاطباء بنطاسين ، ولا كلّ الساسة دهاة ، ولا كلّ رجال القانون فقهاء ، ولا كلّ الفنانين بكواكب ونجوم ، ولا كلّ الاكاديميين باللامعين .. ولا كل من كتب كتاباً تافهاّ اصبح رمزا من الرموز .. ولا كل من ترأس حزبا غدا زعيما نحريرا .. ولا كل من قاد البلاد وساسها يعدّ رائدا كاريزميا له مشروعه النهضوي في البلاد .
سؤال وجواب
وردني من احد الاصدقاء في التعليقات على الفيس بوك قوله : ” . مقالة جداً رائعة وهناك أخشى قوله وهو من يدعي وقد كان قشّاً بمكان من ذكرتهم !!!ولكن كوني غير حزبي ملتزم أعاتبك أن أول من ظلم وقتل في بلده ومن أجل بلده وشعبه فهد ورفاقه ومن ثم سلام عادل ورفاقه،والوطني النظيف العفيف الشريف النزيه عبد الكريم قاسم،وووو، كم تكون مقالتك مصدراً لرسالة دكتوراه لولا إهمالك لما أقول الآن.تحياتي مع الود ” ..
فكان أن اجبته جوابي التالي :
أعزائي شكرا جزيلا لقراءتكم هذا المقال واثني على ملاحظاتكم وتعليقاتكم ، وأود أن أشير الى أنني اقتصرت في ذكر بعض الرموز الثقافية والعلمية والادبية والفنية العراقية مبتعدا عن ذكر الرموز السياسية .. ذلك ان العراقيين كانوا وما زالوا لهم انقساماتهم ازاء مبدعيهم ، فكيف يا ترى يكون حالهم ازاء بعض زعمائهم السياسيين الذين مضوا واصبحوا تاريخا .. لقد ذكرت بعض السياسيين الوزراء الذين كانوا قد ابدعوا في الشعر وكانوا من اصدقاء الشعراء والادباء ، ولكن بالنسبة الى رموز الاحزاب السياسية والتيارات الايديولوجية فلا يمكنني ان اذكر او اسجل اسماء الزعيم الشيوعي فهد ورفاقه او سلام عادل وعبد الجبار وهبي وغيرهم من الشيوعيين من دون ذكر عبد الخالق السامرائي وعلي صالح السعدي وطالب شبيب وحازم جواد وعدنان حسين وعبد الخالق السامرائي وحتى ناظم كزار وغيرهم من البعثيين ! ولا يمكن ذكر هؤلاء او اولئك لوحدهم ، فثمة من سيعاتب من الاسلاميين ، ويقول معاتبا : أين السيد محسن الحكيم ؟ واين السيد محمد باقر الصدر ؟ واين السيد محمد محمد الصدر ؟ واين كل من عبد العزيز البدري ومحمد محمود الصواف وعارف البصري وغيرهم من الاسلاميين شيعة وسنة ! ؟ وسيخرج آخرون ليقولوا : اين باسل الكبيسي وحامد الجبوري وعبد الباري الطالب وأمير الحلو وعبد الاله النصراوي وغيرهم من القوميين العرب ؟ وسيأتي التساؤل حتماً عن كل الرموز العراقية من الذين قدموا مشروعات سواء كانت ايجابية او سالبة ، ومنهم : فيصل الاول ( مشروع الولايات العربية المتحدة ) ، ونوري السعيد في (مشروع الهلال الخصيب والجامعة العربية ) ، ام مشروع سامي شوكت ( صناعة الموت ) ، ام مشروع ابراهيم كبه ( العراق الاشتراكي ) ، أم مشروع عبد الرحمن البزاز ( الاشتراكية الرشيدة ) ، أم مشروع خير الدين حسيب ( الاشتراكية العربية ) .. وغيرها من المشروعات الاستراتيجية .
تاريخ غير مواز
ويتساءل آخرون أين ذكر كامل الجادرجي وحسين جميل ومحمد مهدي كبة وفائق السامرائي واسماعيل الغانم ومحمد حديد وابراهيم كبة وغيرهم من الساسة الاصلاحيين واليساريين والاشتراكيين ! كما سيحاسيني البعض ان ذكرت عبد الكريم قاسم رمزا للعراقيين الجمهوريين دون ذكر اسم فيصل الاول رمزا للعراقيين الملكيين .. او ذكر اسم عبد السلام عارف رمزا للعراقيين القوميين ، وهذا ينسحب على صدام حسين رمزا للعراقيين البعثيين ! وينسحب ايضا على ذكر اسم الملا مصطفى البارزاني رمزا للكرد العراقيين .. الخ من رموز العراق وزعاماتهم السياسية بدءا من الباشا نوري السعيد ووصولا الى اشباه زعامات هذه الايام ..
هذه الرموز العراقية لا يحظى بقبولها كل العراقيين بفعل وجود الخنادق السياسية وتناقضاتها ، اذ لم يجتمع كل العراقيين على رمز واحد منذ 1921 حتى اليوم او حتى رمزين فقط .. واعتقد ان الامر ناشئ أساسا بسبب الانقسامات الاجتماعية في العراق والتي ولّدت الانقسامات السياسية اذ لم تأت هذه الاخيرة من فراغ .. وقد عالجت هذه المشكلة التاريخية العراقية في القرن العشرين في كتابي ” انتلجينسيا العراق : تاريخ النخب المثقفة والقوى العراقية الفاعلة ” والمنشور متسلسلا قبل عشرين سنة ..
ماذا نستنتج ؟
وعليه ، اولا : ان مفهوم الوطن اجتماعيا قد احتكرته الخنادق السياسية ، وكل خندق يريد هذا المفهوم لنفسه وحده دون غيره ، بل وان ” الخيانة ” سرعان ما تطلق في ما بين المتصارعين انفسهم .. وان تلك الخنادق كانت ولم تزل سارية المفعول ولكن باثواب جديدة ..
ثانيا : الامر الاخر ، ليس هناك أي عهد سياسي في العراق قد بدأ من دون ان يلعن سلفه ( العهد السابق ) لعنة عظمى ، وكل عهد يسيئ لمن سبقه اساءات قوية جدا ، متهما أياه بشتى التهم كالبائد والاسود والدموي .. الخ .. ثالثا : الامر الاخر الذي اتمنى على العراقيين اليوم التأمل فيه طويلا ، مسألة الانشقاقات في تاريخ بنية الحزب الواحد ، فكل الاحزاب السياسية قاطبة انشقت وانشطرت الى اجنحة متصارعة في ما بينها وهذا ما حدث في حزب الاستقلال والوطني الديمقراطي وعند الشيوعيين وعند البعثيين وعند الناصريين والقوميين والبارتيين وصولا الى احزاب الاسلاميين .. وهلم جرا
في الحلقة القادمة : ماذا يا ترى كانت تراجيديا نهايات رموز الساسة العراقيين ؟
تنشر على موقع الدكتور سيّار الجميل بتاريخ 4 سبتمبر / ايلول 2018
https://sayyaraljamil.com/wp/