كنت قبل يومين على متن طائرة تقطع الاطلنطي الذي أسماه العرب ببحر الظلمات .. كنا في السماء مسرعين عابرين من العالم القديم نحو العالم الجديد .. أخذتني سنة من النوم ، والشمس مشرقة في كبد السماء ، ووجدت نفسي وكأني عدت عشرات السنين الى الوراء ، سألت صاحبي على مقعد الدراسة : في اي مرحلة من الدراسة نحن الان ؟ شعرت وأنا في السادس الابتدائي من جديد ، وأستاذ العربية رحمه الله يوصينا بكتابة مقطوعة انشاء موضوعها ” الراعي والقطيع ” ، وتذكرت انه منحني أعلى درجة على انشاء كتبته له منذ خمسين سنة عن ” مشهد النهر في يوم ممطر ” ..
عدت الى البيت في نومي ، ورحت أكتب قائلاً : في القرية التي تقع عند ساقيتين تحتقن فيهما المياه الاسنة .. زريبة قديمة جداً ، تهدّمت حيطانها ، وتشققّت أسقفها ، وغدت بلا أسوار ، وبلا شبابيك وابواب .. وجدت القطيع قد كبر جداً ، ولا تسمع منه الّا الثغاء والسعال .. نعاج هرمة لا تمشي ، وخراف هزيلة بلا حراك ، والاكباش مريضة او مخصيّة لا تقوى على الوقوف ، وقد تكسّرت قرونها الملتوية ، وتلطخت أصوافها المنفوشة والمتدلّية كلّها بالقاذورات ، لا تجد كبشاً واحداً يناطح ويجالد ويمشي متبختراً في المقدّمة .. الرعيان كسالى ناموا جميعاً وهم مرضى عند أفياء السفح تحت الشجرة الخضراء حتى لا تلسعهم الشمس الحارقة ، وهم يجتمعون ويتصارعون بالطول والعرض من اجل الزعامة على الزريبة !
تسّلم أمر القطيع حمار أحول ، ولكنه انشغل عن مهمّته بعليق علفه من التبن الأصفر .. وراح القطيع ينفرد هنا ، وينزوي هناك .. والكلابُ تغيرّت طباعها الهائجة ، وصغرت حجومها الهزيلة ، وغدت تراقص هذا وتلاعب ذاك ولم تعد تعوي أبداً ولا تخيف أحداً .. الذئاب ترصد القطيع من بعيد خلف أشجار المنطقة الخضراء .. خرج قطاع الطرق كالعادة عند كلّ مساء ،وتكاثروا ساعة بعد أخرى ، واخترقوا القطيع .. جزّوا الأصواف ما استطاعوا .. حلبوا الشياه ما أرادوا .. ذبحوا الطليان وأكلوها وشربوا دمها .. سرقوا ما استطاعوا من الرؤوس في الزريبة ، ولم تسلم حتى عليقة الحمار من الدمار .. وعادوا الى جحورهم التي غدت قصوراً في الصحراء ، وهم يتنقّلون بطائراتهم الخاصة !
سأل أحد الخرفان صاحبه : هل رأيت ما الذي فعلته اللصوص بنا ؟ أجابه : نعم ، رأيتهم وأنا اراقبهم وراء الباب خوفاً أكون طعاماً شهيّاً لهم .. وكيف رأيتهم اليوم ؟ أجابه : كالعادة المألوفة فهم أنفسهم ، وقد تناسلوا وتكاثروا ، ولكنهم بدّلوا جلودهم ، وغيّروا امزجتهم ، وحلقوا شواربهم الكثة ورموا الزيتونيات في المزابل ، تجدهم اليوم : ارتال معممّين.. جوقات شيوخ معكلين ، نسوة ملكجات ، وأشباه رجال تافهين من سحرة ومزوّرين ومحاصصيين وقوّالين ومثرثرين روزخونيين ودجالين وقوادين وشاذين ونشالين ودواعش زرقاويين محنطين بعد ان كانوا شراذم مطايا وشياطين ومخبرين قساة وقصابين ومهربين وعلوج مرتزقة وامرين ومأمورين ورقاصين مع الغجريات الكاولية . سألت احدى النعاج الحمار القائد : لماذا لا تهزّ جرسك يا حمار لما رأيت قدوم هؤلاء الفجار ؟ وأين كلاب الحراسة ؟ وأين الرعيان ؟ أجاب الحمار : الزمي الصمت أيتها الرعناء ، فالكلاب غدت تعاشر الذئاب في هذا الزمن الديمقراطي ، والرعيان نقلوا اجتماعاتهم الى مستشفى الشماعية ! وأصبحت الحرامية طبقة عليا حاكمة على كل القطيع ، وغدت الزريبة دار دعارة وكلجية .
في اعماق الليل ، هاجمت الذئاب كلّ القطيع وجعلته شذر مذر .. ولم يبق من القطيع الا كومة عظام تعبث بها الهوام !
صحوت من النوم على نشرة أخبار جاء فيها : يتصارعون انتخابيا ثم يتحالفون فضائيا من اجل تشكيل الكتلة الاكبر ، والناس تموت من التسمّم وأكل اللحوم الحمراء الفاسدة !!
بعد برهة حطّت الطائرة بسلام في العالم الجديد ، ولم تزل الشمس مشرقة على بحر الظلمات !
نشرت بتاريخ 25 حزيران / يونيو 2018 على موقع الدكتور سيار الجميل