يعيش الساسة العراقيون اليوم هستيريا ضارية مع اقتراب الانتخابات، فالكلّ يسعى إلى الفوز بالمناصب، حيث تعّود هؤلاء جميعاً على خوض معترك انتخاباتٍ برلمانيةٍ من أجل المنافع والمصالح الذاتية والحزبية والكسب غير المشروع . وكنت قد وصفت بداية الدمار قبل سنوات في مقال عنوانه “الديمقراطية الكسيحة” نشر في 11 أغسطس/ آب 2010.. قلت فيه: ” ان العراق أمام قوى حزبية طائفية وميليشياوية وعشائرية وجهوية ، ساهمت كلها في تفكيك المؤسسات وسحقها ، وجعلها تتوزع المناصب والوظائف في ما بينها .. انه أمام نوازع جشعة لأصحاب مصالح فئوية وشخصية غير نظيفة أبدا ، أدت إلى انتشار الخراب والسرقات للمال العام والرشاوى ، وكل الفساد الذي أمسى العراق الأول فيه عالميا ! انه أمام انقسام طائفي وتشرذم اجتماعي وصراع عرقي ، لم يعرفه تاريخ العراق سابقا بهذا النحو أبدا .. انه أمام خواء كبير من أي خدمات بلدية أو عمرانية ، وانعدام كامل لإصلاح أي بنية تحتية كانت قد سحقتها الحروب والطائرات القاصفة .. انه أمام اقتصاد هش ، لم يستطع أبدا بعد مضى كل هذه السنين أن يتحرك قليلا ، من اجل مساعدة المجتمع وتخليصه من البطالة والعوز والجوع والأمراض ، وان يأخذ البلاد إلى الإصلاح والاعمار .. انه أمام فضائح ليست سياسية فحسب ، بل إعلامية أيضا ، .. تعمل لغايات انقسامية وطائفية ! وان كانت كلها ترفع شعار الديمقراطية ، إلا أنها لا تؤمن بمستلزماتها .. العراق أمام خلل فظيع في مؤسسات التربية والتعليم ، التي تخضع اليوم للأهواء والانقسامات والغلو والتخلف .. العراق أمام مشهد فاضح من إقصاء المتميزين ، وتهميش المجتهدين ، وعدم الاستماع للمستقلين ، مع إبعاد أصحاب الكفاءات والخبرات ، موظفين ومستشارين من كل مؤسسات الدولة وأجهزتها ، والاعتماد على المنافقين والموتورين والمعممين والمصفقين والمتحزبين الديماغوجيين .. إذ غدا بعض الأحزاب الحاكمة هي التي تمنح شهادات حسن سلوك للتعاقد والتوظف ! نحن أمام فصول مسرحية من قضايا فساد مالية وأخلاقية كبرى ، كلها تمّرر من حساب موارد الشعب العراقي ، ولابد أن يحقق فيها عاجلاً أم آجلاً .. نحن أمام عمليات نهب رسمي منظم ، وأمام عمليات تغطية رسميّة منظمّة شبيهة بأعمال المافيات ، تنبغي معرفة حيثياتها كلها ” ! ( انتهى النص ) .
اليوم، تسعى الطبقة الحاكمة نفسها، وبمختلف الذرائع والوسائل، إلى الوصول إلى السلطة، أمام مشهد صراع يشارك في تمثيليته شعب العراق الذي يبدو أنه لم يتعلم شيئا من تجاربه التي مرت عليه خلال 12 سنة مضت. وإذا كان بعضهم ينادي اليوم بمقاطعة الانتخابات، فهو ينفخ في قربةٍ مقطوعةٍ، لأنّ كلّ الأمور تسير لصالح تكتلات حيتان فسادٍ احتكرت السلطة والنفوذ والمال، وإنّ المقاطعة المزعومة لا تشكلّها إرادة شعبية واسعة، ولم تدعمها أية مؤسّسة دينية متنفذّة، ولم تسندها قوى لها سيطرتها وهيمنتها. وعليه، تتمثّل المشكلة بتغلغل الحيتان في أعماق المجتمع، إذ عملت هذه على شراء الذمم بوسائل قذرة استثمرت أموال الفساد السياسي اعلامياً لغسل أدمغة ملايين العراقيين، رفقة قانون سانت ليغو 107 والالتفافات التي جرت عند تشكيل مفوّضية الانتخابات الراضخة للأحزاب الفاسدة وقمعها الإرادة السياسية المخالفة. فضلا عن استخدام المقود الطائفي للسفينة، والذي يمكن تحريكه ضمن اتجاهات معينّة، خصوصاً أن قبطان السفينة غدا متمرّسا في لعبته القذرة، وهو ينفق من المال المنهوب.. هذه المعادلة غدا يسعى إليها جميع المرشحين، إلا من ندر.
تعد الانتخابات المقبلة حلقة أخرى من الديمقراطية الكسيحة التي ولدت في بلاد مفرغة سياسياً من القيم الأخلاقية، وقد احتكرت السلطة طبقة ولدت مع المحتل الأميركي الذي سعى إلى إشاعة الفوضى في كلّ المجالات العراقية، من دون المرور بأيّة مرحلة انتقالية، تتحقق فيها العدالة الانتقالية، ويولد من خلالها دستور مدني محترم.. وعليه، غدا العراق مجرّد بحيرة صاخبة تسودها حيتان الفساد وكواسج التدمير ، وكلّ أربع سنوات تتوالد لتأكل الأخضر واليابس. كبرت هذه الطبقة الحاكمة التي لا تريد مغادرة السلطة أبداً، وتصرّ على البقاء مهيمنة، وهي تجمع كلّ القتلة والفاسدين، وكانت ولم تزل تعمل على استغلال النفوذ، حتى وإن سُحق العراق وأهله. وكانت كلّ الانتخابات السابقة قد ثبت التزوير فيها، وشككت الحيثيات بنزاهتها، فمن يضمن نزاهة الانتخابات المقبلة، ما دام نفوذ الطبقة الحاكمة مكرّساً في مفوضيّة الانتخابات التي تقاسمت الأحزاب الحاكمة الحصص فيها.
مضت سنوات طوال، وبعض العراقيين ينادون بالإصلاح السياسي، ويطالبون بتغيير أساليب الانتخابات، ويقترحون على الحكومة معالجة أمر الفاسدين بيد من حديد، كما انتقدت هلامية الأحزاب العراقية المؤسسة على أسس طائفية ودينية، ولكن لا من سامع ولا من مجيب. وعليه، العراقيون مقبلون على مرحلة تاريخية صعبة جداً، ذلك أن الحيتان المفترسة الجديدة، مهما كانت مقاعدها في البرلمان، فهي قادمة هذه المرة من أجل اكتناز الملايين، وسيبقى الفساد مستشرياً في الحكم والسلطة، باستحواذ الحيتان على كلّ المصالح بتحالفاتها مع أسماك القرش الدموية التي لها منافعها هي الأخرى. وعليه، لا يمكن أبداً تغيير النظام، ولا أساليبه، ولا ممارساته التي استشرت قوّةً، وغدت ثقافة فسادٍ طاغيةٍ، لا يمكن إزاحتها بسهولة أبداً، حتى وإن كثر الأحرار من العراقيين. وعلى العراقيين أن يدركوا أن لا تغيير جذريا سيحصل، إن لم تكن هناك إرادة أميركية قويّة، وهذا صعبٌ حصوله، كما لا يمكن حدوث أيّ تغيير إصلاحي، ما دامت الوجوه الكالحة الحاكمة موجودة على دست الحكم.
حاورت قبل أيام أحد مؤيدي النظام الحاكم اليوم في العراق، وطرحت عليه مشروع تأسيس سلطات عراقية وبرلمان عراقي وحكومة عراقية يعمل كلّ العاملين فيها تطوّعاً وتبرّعاً بلا مقابل مادي .. سألته: ما رأيك لو طالب العراقيون بحكومةٍ تنفيذيةٍ وسلطة برلمانية ورئاسة عليا، يعمل كلّ من يصل إلى منصبه فيها تبرّعا، ليعمل بلا مقابل أربع سنوات، ويحاسب عند مغادرته السلطة كيلا يكون قد استغلّ منصبه؟ أجابني: هذا محال، لا يمكنني قبوله.. من أين أقبض شهريتي الجارية إذا حُرم المسؤولون من منهوباتهم (المشروعة). هذه هي “الثقافة” التي تسود العراق اليوم. قلت: هل بالإمكان أن ينتخب الناس أسماء أشخاصٍ في انتخابات عامة، بلا أيّة أحزاب أو كتل أو تيارات أو تحالفات ثبت إجرامها بحقّ العراقيين وبحق ثرواتهم، واقترح جعل العراق دائرة انتخابية واحدة، بحيث يحقّ لابن الموصل أن ينتخب عراقيا من البصرة أو بغداد أو العكس، حتى يكونوا ديمقراطيين ووطنيين حقيقيين، لا فرق بينهم؟ أجابني: لا أوافق على ذلك، إذ سينتقل الحكم إلى أيدٍ جديدة لم تتلوث، وهذا لا نقبله أبداً. قلت: أسفاً على العراق، تحكمه حيتان فاسدة، وأسماك قرش مدمّرة، تتسلط على العراقيين وباسمهم. ولكن قالوها منذ زمن طويل : “كما تكونوا يوّلى عليكم” .
نشرت في العربي الجديد / لندن 15 ابريل / نيسان 2018 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp/